بينما يواصل العالم جهوده لاحتواء تفشي وباء كورونا الذي يحصد الأرواح بالآلاف والمصابين بمئات الآلاف، وأصيب الاقتصاد بحالة شلل تهدد بموجة ركود قد تكون الأسوأ على الإطلاق، ظهر للفيروس وجه إيجابي يتعلق بتراجع ملحوظ في نسبة تلوث الهواء في المدن الكبرى، فما قصة التغير المناخي الذي يبدو أن كورونا قد جاء لصالحه؟
ماذا حدث؟
أظهرت صور التقطها قمر صناعي، اليوم الإثنين 30 مارس/آذار، تراجع تلوث الهواء في المناطق الحضرية بأنحاء أوروبا خلال الإغلاقات المفروضة لمكافحة انتشار الفيروس، فقد أوضحت صور القمر الصناعي سنتينل-5 تراجع متوسط مستويات ثاني أكسيد النيتروجين الضار في مدن من بينها بروكسل وباريس ومدريد وميلانو وفرانكفورت في الفترة ما بين الخامس والخامس والعشرين من مارس/آذار مقارنة بنفس الفترة العام الماضي، بحسب تقرير لرويترز.
تتزامن تلك الفترة مع الإغلاق في الكثير من الدول الأوروبية التي قيدت النقل على الطرق، الذي يعد أكبر مصدر لأكاسيد النيتروجين، وأبطأت انبعاثات غازات المصانع، وتظهر الصور الجديدة التي نشرتها وكالة الفضاء الأوروبية وحللها التحالف الأوروبي للصحة العامة، وهو منظمة غير ربحية، وجود تغير في كثافة ثاني أكسيد النيتروجين الذي يمكن أن يسبب مشاكل في الجهاز التنفسي والسرطان.
وأظهرت بيانات صادرة عن وكالة البيئة الأوروبية اتجاهاً مماثلاً خلال الفترة من 16 إلى 22 مارس/آذار. فقد تراجع متوسط مستويات ثاني أكسيد النيتروجين في مدريد بنسبة 56% على أساس أسبوعي بعدما حظرت الحكومة الإسبانية السفر غير الضروري في 14 مارس/آذار.
وكانت صور التقطتها الأقمار الصناعية للهواء فوق الصين مطلع مارس/آذار الجاري قد أظهرت تغيراً ملحوظاً في اللون من الأحمر القاني – الدال على وجود مستويات عالية من التلوث – إلى الأصفر الشاحب، وعلق الدكتور كلاوس زينر مدير مهام في وكالة الفضاء الأوروبية لصحيفة ذا ناشيونال بقوله: “هناك انخفاض بنحو 30% في مستويات ثاني أكسيد النيتروجين”.
وخلال أسبوعين فقط اختفى ربع الانبعاثات الحرارية فوق الصين مع توقف حركة السيارات والشاحنات ومحطات توليد الطاقة والمصانع، وعلق فاي ليو باحث في جودة الهواء في محطة ناسا للفضاء بالقول: “هذه أول مرة أرى فيها هذا الانخفاض الدرامي فوق منطقة بهذا الحجم الشاسع بسبب حدث محدد”.
والأمر نفسه ينطبق على كاليفورنيا –المعروفة بنسب تلوث هواء عالية للغاية– حيث انخفض تلوث الهواء بصورة ملحوظة، بحسب تقرير لموقع كوارتز الأمريكي عنوانه: “فيروس كورونا خفّض من الانبعاثات الحرارية عالمياً، لكن هل يستمر ذلك؟”.
ما فائدة هذا التراجع؟
التحالف الأوروبي للصحة العامة يقول إن الأشخاص الذين يعيشون في مدن ملوثة قد يكونون أكثر عرضة لخطر الإصابة بفيروس كورونا (كوفيد-19) لأن التعرض لفترة طويلة لهواء ملوث يمكن أن يضعف الجهاز المناعي ما يزيد صعوبة مكافحة العدوى، كما أن تلوث الهواء قد يتسبب في حدوث أو تفاقم الإصابة بسرطان الرئة والأمراض الرئوية والسكتات الدماغية.
هذا التراجع في الانبعاثات الحرارية الضارة بالبيئة والذي كان قد تم رصده أيضاً فوق الصين أثناء فترة تفشي الفيروس هناك منذ يناير/كانون الثاني حتى 10 مارس/آذار الجاري، يؤكد أنه من الممكن فعلياً اتخاذ خطوات جادة في اتجاه الحفاظ على البيئة، حيث يرى العلماء وخبراء المناخ أن التراجع بسبب خطوات مكافحة الفيروس ليس كافياً للتغلب على تأثيرات التغير المناخي، مطالبين بوجود تغيير في الأنماط السلوكية بعد أن أثبتت محاولات الحكومات لمكافحة الوباء أن الأمر ممكن فعلياً، بحسب تقرير صحيفة ذا ناشيونال.
المعادلة إذاً تبدو واضحة؛ التلوث بسبب الانبعاثات الحرارية يؤثر على الجهاز المناعي للإنسان، وهو ما يجعله أكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا المستجد وأقل قدرة على مقاومته فترتفع فرص أن يقضي الفيروس على حياته، وهذا يحتم على الحكومات أن تغير من طريقة عملها عند اتخاذ قرارات اقتصادية بحيث يكون العامل البيئي حاسماً في اتخاذ القرار.
لكن للقصة وجه آخر
قصة تأثير الفيروس على التغير المناخي لخّصتها ميهان كرايست، كاتبة العلوم البيولوجية في صحيفة نيويورك تايمز، في مقال لها بعنوان: “ماذا يعني فيروس كورونا لتغير المناخ؟”، بالقول إن وباء كورونا مأساة وكابوس بشري يكشر عن أنيابه في المستشفيات المتكدسة ومكاتب إعانة البطالة المنهكة والجو العام المعبأ بمؤشرات سوداء على كارثة اقتصادية، لكن هذه الكارثة العالمية هي أيضاً نقطة انطلاق لعدوى تتعلق بتلك الكارثة العالمية الأخرى الأبطأ لكن ذات المخاطر العالية المؤكدة، والتي لا تزال تحتل مرتبة متدنية في أولويات الحداثة، والمقصود هنا هو التغير المناخي.
لكن المؤكد أن التأثير الإيجابي للفيروس على حالة المناخ في الكرة الأرضية هي أمر مؤقت، وبمجرد أن تتراجع الجائحة وتعود الحياة لطبيعتها، ستعود الانبعاثات الحرارية لمستويات على الأرجح ستكون أعلى مما كانت عليه قبل الجائحة، كما أن انخفاض أسعار النفط -حال استمرارها وهو المتوقع على المدى القصير والمتوسط- سيمثل خطراً داهماً على البيئة، بحسب خبراء تغير المناخ.
وقد عبر الأمين العام للأمم المتحدة مؤخراً عن تلك العلاقة بين فيروس كورونا والتغير المناخي بقوله في تقرير لمجلة يو إس إيه توداي إن “التهديد من فيروس كورونا مؤقت بينما التهديد من موجات الحرارة والفيضانات والعواصف العاتية التي ينتج عنها فقدان الحياة البشرية سيظل قائما لسنوات طويلة”.
6 دروس من الفيروس
المؤكد أن الحل لمواجهة التغير المناخي ليس الإغلاق الكامل والتباعد الاجتماعي والبقاء في المنازل -الذي تتطلبه مكافحة الجائحة- لكن الدرس الواضح حتى الآن هو أن كارثة التغير المناخي لا تقل خطورة على حياة البشر من الجائحة نفسها.
ومع حلول الذكرى الخمسين لليوم العالمي للأرض (22 أبريل/نيسان)، من المهم استخلاص الدروس التي فتحت جائحة كورونا أعين العالم عليها، وهذه أهمها، بحسب موقع يوم الأرض:
– أهمية العلم: يمكننا إنقاذ حياة الملايين عن طريق تمويل وإتاحة وفهم أفضل العلوم المتاحة، وقد كان علم تغير المناخ واضحاً على مدار عقود ولكننا فشلنا في توصيل حجم الخطر للعامة، ما أدى للبطء في اتخاذ الإجراءات الضرورية وإنكار الحقائق.
– كيفية تعاملنا مع الطبيعة يؤثر على حياتنا: إن القضاء على التنوع البيولوجي الطبيعي يخلق الظروف المواتية لظهور فيروسات قاتلة مثل كوفيد-19 وينشره بين البشر، وإذا ما واصلنا تدمير أراضينا فإننا نستنزف مواردنا ونضر أنظمتنا الزراعية.
– كلما أسرعنا في اتخاذ الخطوات الضرورية، كلما قلت معاناتنا: التصرف السريع والدرامي يمكنه أن يوقف النسق التصاعدي لتفشي فيروس كورونا ويخفف الضغوط عن موارد الرعاية الصحية ويقلل معدلات الوفاة، وعلى نفس المنوال يمكن أن يقلل التحرك السريع بشأن تغير المناخ من أزمات نقص المياه والغذاء وارتفاع مستويات مياه البحار ويحمي الأفراد والمنتجات.
– لدينا القدرة على إجراء تغيرات درامية بسرعة كبيرة: عند الضرورة يمكننا أن نوقف نمط حياتنا المعتاد وأن نساعد أنفسنا وغيرنا، ونرى الآن حول العالم كيف يغير العاملون في مجال الصحة من نمط حياتهم لحماية المرضى في مجتمعاتهم، ويمكن لكل فرد أن يحدث اختلافاً ويلعب دوراً هاماً في إيجاد الحل.
– جميعنا مُعرّض للكارثة، وإن كان بنسب مختلفة: من يعانون من صعوبات اجتماعية أو اقتصادية أو مشاكل صحية يعانون أكثر من غيرهم، والمجتمعات التي تعاني من الظلم والطبقية وتفاوت توزيع الثروة تكون أكثر عرضة للتفكك أثناء الأزمات، كما أننا لابد أن نعترف بأن الصناعات والأفراد المستفيدين من الوضع الراهن سيحاولون مقاومة التحول الاجتماعي الذي فرضته كارثة فيروس كورونا.
– التمسك بالحفاظ نظام اجتماعي عادل ومسالم والحفاظ على استدامة النظام البيئي هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل أفضل للبشرية.