تُصدر مجلة «لوبوان» الأسبوعية أعداداً خاصة تباع على مدار السنة: العدد الأخير كان عن «الصداقة»، من أرسطو إلى اليوم. كان أجمل هدية يمكن أن أحملها إلى صديقي الذي قيل لي إنه في مستشفى الجامعة. لا أقوى على رؤية الأصدقاء في أزمة أو ضيق. لكنني تحاملت لكي لا يفسر جُبني على أنه إهمال أو غفل. عبرت الأروقة الصامتة في وجل. كم هو فظيع الشعور بأنك الصحيح. وصديقك في العجز والألم. كم هو مذل بأنك أنت العاجز عن أي شيء، سوى هذا الشعور العميق بالذنب. كل ما أنت قادر عليه هو هذا الكتاب ونصوصه المفعمة من أيام اليونان إلى الرومان إلى الفرنجة. الصداقة مظلة العمر وصحبة السنين.
حذرتني الممرضة دونما حاجة إلى ذلك. رجاء، في هدوء. الانفعال غير مستحب. سوف يحاول أن يكلمك لكنه لا يستطيع. لا تسأله كيفك، لأنه سوف يبذل جهداً كي يجيب. كان يتنفس بصعوبة. وفي ذراعيه أشرطة وأنابيب، وفي عينيه الذكيتين شفقة على معيديه من قسوة هذا المنظر. لا يريد لهم مشاركته هذه المحنة، إنه من القوة بحيث يتحملها وحيداً. لا يقبل أن يفوقه أحد في معنى الصداقات ولا في صلابة الحياة. منذ شبابه وهو الأول في كل شيء. رائد من رواد العمر والبناء والنجاح. من باكستان إلى أفريقيا، إلى الخليج إلى أميركا. والآن هذه الطاقة الجبارة في امتحانها ومحنتها. لا يتكلم، لكن جبينه العريض يعد في صمت على أن الفوز حليفه هنا أيضاً، إن شاء الله. ثم يدخل الطبيب الشاب ممتلئاً ثقة وشجاعة وعلماً، ويقول إن النتائج كلها خير. يصغي إليه في كِبَر كالمعتاد، بينما نحن الزائرين الضعفاء تهتز قلوبنا بين الضلوع. لا دور لنا سوى ذلك. ولا قوة لنا سوى التضرع والتمني. ما أعمق الصداقة وما أوهن الأصدقاء. هل يحق أن تكون للضعفاء أيضاً. لا تليق إلاّ للشجعان. الضعفاء لا يحقون ولا يستحقون.
حاول الرجل الجبار أن يقول شيئاً ما. أن يخفف عنا ثقل الشعور بالذنب والعجز. قبَّلت يده وقلت له إن كتاب الصداقة هذا سوف يشرح عني ما لا أستطيع تفسيره. من أرسطو إلى اليوم.
سوسن الأبطح:الحياة بالأرقام
أنبأتنا الأمم المتحدة، تبعاً لتقديراتها العلمية، أن عددَ سكان الهند سيتجاوز عدد سكان الصين، منتصف العام الحالي، ويبقى متجهاً صعوداً حتى منتصف القرن الحادي والعشرين. هذا لا يعني أن النساء الهنديات منجبات. فنسب الولادة هناك انخفضت بشكل كبير، لكن نصف المجتمع الهندي شاب وتحت سن الـ25 سنة، ما يعني أن المجتمع ماضٍ في النمو ديموغرافياً مهما كانت السياسات. هكذا خسرت الصين موقعها كأكبر بلد من حيث عدد السكان، بسبب التشدد في تطبيق سياسة الطفل الواحد، التي أوقفتها، لكنها لم تتمكن من إقناع مواطنيها بأن الإنجاب بات ضرورة وطنية، وأن الاقتصاد بحاجة إلى سواعد، وشبّان وفتوة الجيل الجديد.
باستثناء الهند والفلبين، وهذه الأخيرة بسبب القيم الكاثوليكية، وكذلك باكستان نظراً لوزن رجال الدين، تنحو دول شرق آسيا إلى انكماش في عدد سكانها، بسبب انخراط النساء في العمل، وارتفاع كلفة الحياة، لكن هذا يغير مصير دول لها دور محوري في التركيبة الجيوسياسية الجديدة. فأكثر القرارات الشخصية حميمية داخل الأسرة، تكتب يومياً مصائر الشعوب وما ستؤول إليه أحوالها مستقبلاً.
الصين لا تريد أن تشيخ بهذه السرعة، وتحفزّ مواطنيها وتغريهم بالإنجاب، لأن المصانع بحاجة لمن يديرها، وناطحات السحاب لا قيمة لها إن لم تجد من يشغلها.
فقد تقلص عدد العمال، والنظام التقاعدي مهدد بالاختلال، وانخفض عدد السكان في عام واحد أكثر من 850 ألف نسمة.
كوريا الجنوبية ليست أفضل حالاً، إذ ستفقد حتى منتصف القرن الحالي ثلث سكانها في عمر الإنتاج. وتايوان والصين ستشهدان انخفاضاً يصل إلى ربع السكان في سن العمل.
بالطبع أوروبا في وضع سيئ، لولا المهاجرون. إذ تعتبر إيطاليا الدولة الأكثر شيخوخة في العالم، وشبانها يهاجرون للعمل خارج حدودها، بسبب سوء الوضع الاقتصادي. وإن تمكنت ألمانيا من حلّ مشكلتها الديموغرافية باستقبال أكثر من مليون مهاجر دفعة واحدة، ولا تزال أبوابها مفتوحة، أو مواربة. كما ينخفض عدد سكان أميركا بشكل مستمر، لولا أنها تسد النقص بالهجرة التي لا تنقطع.
أما دول شرق آسيا فلا تزال تكابر، ولا تريد أن تشرّع سوق العمل لوافدين من دول أخرى. ويقول سكان قرية يابانية، لم يعد فيها غير بعض العجائز، إنهم يفضلون الانقراض على استقبال أجانب يقلقون سلامهم وراحتهم، ويدخلون تعديلات على هويتهم. لكن لا يبدو أن هذا العناد لن يبقى ممكناً على المدى القصير والمتوسط، خاصة أن اليابان أصبحت الدولة الأسرع شيخوخة على الإطلاق. ربع النساء في عمر الزواج عازبات، وكثيرات منهن لا يرغبن في الزواج، والمتزوجون يفضلون التقنين في الإنجاب.
ولا تجد الحكومة أمام هذا الوضع الكئيب سوى المرونة في استقبال بعض العاملين، لمهام محددة حتى الآن، لكن اليابانيين سيضطرون إلى تليين مواقفهم الصلبة بسرعة، لإنقاذ الوضع الذي بدأ يزن ثقيلاً. وكل يحاول أن يجد الحلول بطريقته الخاصة. فكثير من الشركات الكورية الجنوبية واليابانية والتايوانية نقلت مصانعها إلى دول أوفر سكاناً، بحثاً عن اليد العاملة.
فثلث المصانع في البلدان الآسيوية، التي شحت فيها اليد العاملة، انتقلت إلى فيتنام والهند والفلبين التي حافظت على توازن معقول في عدد السكان.
النمو الديموغرافي الكبير في السنوات المقبلة سيكون مدفوعاً إلى حد كبير من قبل عدد من البلدان الأفريقية، مثل نيجيريا التي تعاني من انفجار إنجابي، حيث تلد كل امرأة معدل 7 أولاد، وجمهورية الكونغو ومصر وتنزانيا، التي قفز عدد سكانها بنحو 40 في المائة في 10 سنوات.
عمل التوازن بين الديموغرافيا والاقتصاد صعب للغاية. سعت الصين والهند إلى تقليص عدد السكان منذ منتصف القرن الماضي بسبب الفقر والجوع. نجحت الأولى في كبح النمو السكاني، وأصبحت تخشى من تراجع الاقتصاد، بينما أخفقت الهند وربما لحسن حظها، لكنها لم تحقق المعجزة الاقتصادية المرجوة، وهي اليوم أمام تحدٍ كبير، يتعذر تجاوزه رغم النمو الاقتصادي الذي وصل إلى 6 في المائة.
منذ أصبحت الأرقام بهذا الوضوح، والرسوم البيانية تظهر كما عين الشمس، إلى أين تسير المجتمعات، وضبط الميزان صعب ومربك.
آخر الأرقام التي صدمت وأثارت التساؤلات انخفاض متوسط الأعمار في أميركا 3 سنوات خلال عامين فقط، حيث تراجع أهم اقتصاد في العالم، وعجز عن تأمين عمر أطول لمواطنيه ليس بسبب الفاقة والمجاعة كما حال أفريقيا، وإنما بسبب التخمة والسمنة، والغذاء المصنّع ولوبيات الأطعمة السامة، وإكثار الشباب من الأدوية المسكنة مثل الفانتانيل وترانك، وتبين أنها أسوأ 50 مرة من الهيرويين في التخدير والإدمان.
من لم يمت بـ«الفقر» مات بغيره، لكن يبدو أن الظلم لا يزال يقتل. أكثر من 8 مليارات يعيشون على وجه البسيطة، ما يزيد على 5 مليارات منهم، أي أغلبيتهم، لا يزالون غير مكتفين. وتلك هي الكارثة التي تهدد العالم.
كبح الجشع والسعي للعدالة أهم من التفاني في خفض الإنجاب