يودّع بعد كل ما ودّع
أعلنت منظمة الصحة العالمية أنَّ وباء «كورونا» لم يعد خطراً قاتلاً بعدما ترك خلفه 20 مليون وفاة. 20 مليون وفاة؟! لا شيء على وباء كاسح سببه مرض غامض أصاب الوطاويط في سوق القواقع اللذيذة في الصين! جاء ومضى. اليابان اعتذرت عن ضحايا الحرب العالمية الثانية، وألمانيا اعتذرت، وكوريا الجنوبية قدّمت اعتذارها، وكل من تسبب في وفاة الملايين اعتذر، فمن يعتذر عن «كورونا»؟ عن سوق الوطاويط والمحارات في مدينة ووهان (2019) وهواة الوطاويط بصلصة الطماطم والبصل؟!
عاش العالم السنوات الثلاث الماضية في رعب «الكورونا»… تغيرت أنظمة الصحة… تداعت أنظمة التعليم… تكبدت أنظمة السفر… تضاعفت أنظمة الجمارك… تكاثرت خسائر الأسواق على أنواعها.
20 مليون وفاة، ثم لا نجد على الأقل من يعتذر، من يعلن مسؤوليته. كم تشبه هذه الحالة مأساة لبنان: النظام المصرفي انتهى… الاقتصاد تدمَّر… الدولة بلا رئيس… البلد بلا كهرباء… الحكم بلا حكومة… وما من مسؤول واحد، الجميع أبرياء وأبطال.
كل عام يواجه البشر محنة كبرى أو صغرى من صنع البشر، لكن المحن التي من صنع الوطاويط قليلة، والحمد لله، وإلاَّ لكان عدد سكان الكوكب ضئيلاً، وعدد سكان الصين يوازي سكان دوقية اللكسمبورغ.
اطمئنّوا، الخطر الكبير زال. ولي استطاعة من يشاء العودة إلى وجبته المفضلة: وطواويط محمّرة ومغمسة بصلصة الطماطم. كم هو عجيب هذا العالم! 20 مليون وفاة، وخسائر بمئات المليارات، وتدهور في مستوى معيشة البشر، وزوال 220 مليوناً، ثم بيان مقتضب: فكوا الأحزمة، وأعطوا ما شئتم.
بين مرحلة وأخرى يضرب البيئة خلل رهيب: وطواط أو برغشة أو سلحفاة، أو ما شابه من لذائذ أسواق الغرائب في آسيا، ثم يتفجّر الموت على مدى العالم. كل الأوبئة تأتي من المخلوقات الأخرى. ألف عام من الجدري، ثم بيان مقتضب: لا جدري بعد اليوم. فكّوا الأحزمة. جاء ومضى ومضى. خوف مريع وقتل رهيب، لكن ممن تنتقم؟ من تؤدّب؟ الأشباح لا تموت. قتل من جانب واحد. بينما البشر يتمتعون بالثأر. حرب بأخرى.
قُتل أرشيدوق النمسا فقامت الحرب العالمية، وتداعت الإمبراطورية النمساوية برمّتها، وملأ الموت والخراب والعذاب أرجاء الكون. ثم قام من يعتذر. ثم قامت الحرب الثانية انتقاماً للحرب الأولى. طاعون يثأر من طاعون. الحمد لله أنَّ الثأر ليس قاعدة في أسواق المحار ولا الاعتذار. إنه عالمنا يا صديقي. وشكراً لمنظمة الصحة وأمينها العام. رجل علم وإدارة من العالم الثالث.
حلَّة جديدة… وعقد ثقة يتجدد
بين «الشرق الأوسط» وقرائها عقد ثقة بدأ مع انطلاقها قبل 45 سنة. عقدٌ يقوم على التسلّح المطلق بالحقيقة. على مصداقية الخبر وعمق التحليل. على الموضوعية. على الاعتدال، والجرأة في الطرح، ودقةِ الاستشراف. حافظت «الشرقُ الأوسط»، صحيفةُ العرب الأولى، على التزامها هذا، على مدى عقودٍ شهدت فيها المنطقةُ والعالم تغيّراتٍ مزلزلة.
واليوم، تجدّد «الشرق الأوسط» عقدَ الثقة مع قرائها، بحلّة جديدة، ورقياً ورقمياً وعلى منصات متعددة.
كان لا بدَّ من هذا التطوير. فمسؤولية الصحيفة أمامَ قرائها تحتّمُ علينا مواصلة تقديم ما وعدتهم به من محتوى مميز، نوعية وعمقاً، وأن تحافظَ «الشرق الأوسط» على مكانتها بوصفها أعرقَ وأفضلَ صحيفة في العالم العربي بلا منازع. وانطلاقاً من هذه المسؤولية، كانَ من الضروري أن نعزّزَ المحتوى ونطوّرَه باستخدام البيانات والمنصات الجديدة وأحدث التقنيات، مستندين إلى أفضل الكفاءاتِ الصحافية، وعلى رأسِها رئيس التحرير الأستاذ غسان شربل وفريقُ تحرير «الشرق الأوسط» الأفضل عربياً.
تأتي هذه الانطلاقةُ الجديدةُ بعدما أرست «المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)»، قبلَ عامين، ملامحَ رؤية تحولية شاملة، واستراتيجية طموحة، تستلهم إرثَ المجموعة وتقفُ على أكتاف الكبار الذين صنعوا تاريخها. نفعل ذلك ونحن على وعي بأنَّ صناعةَ الإعلام تغيَّرت بوتيرة ربما لم تواكب حتى الآن سرعة تبدّل تفضيلات جمهورها وعاداته.
في الواقع، تحدَّث كثيرون عن موت الصحافة الورقية. ولكن في حين أنَّ الوسيلةَ يمكن أن تموتَ، إلا أنَّ الصحافة لا تموت. فهي مشروع إبداعي، يمكن تطويره وتوسيعه للوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من القراء والمتابعين.
للوصول إلى هذه الغاية، تتبنَّى «الشرق الأوسط» مشروعاً للتحديث الرقمي يتضمَّن تطوير موقعها الإلكتروني، وطرح تطبيق تفاعلي للهواتف المحمولة. كما يشمل قناة «بودكاست»، ونشرات بريدية يومية، بالإضافة إلى منصّات للتواصل الاجتماعي.
وفي وقت تعزز «الشرق الأوسط» قدرة الجيل الجديد من القراء على الوصول بسهولة إلى محتواها، فإنَّها تستثمر أيضاً في إنتاج محتوى مبتكر وعالي الجودة يواكب الأنماطَ المتغيرة لاستهلاك المعلومات ويعزّز مفهوم «الرقمنة أولاً»، ما يساهم في توسيع انتشارها.
وفي هذا الإطار، عزَّز فريق «الشرق الأوسط» استراتيجيتها التحريرية، ووسّعت تغطيتها لمجالات السياسة والثقافة والاقتصاد، وكذلك الصحة والعلوم والتكنولوجيا. ويأتي ذلك كله ضمن الاستراتيجية التطويرية التي تشمل صقلَ وتطوير وجذب المهارات الصحافية الناشئة لتتمكَّن الصحيفة من الحفاظ على ما عُرف عنها من جودة وتميز مهني. وهي بذلك تؤكد إصرارها على الصدارة، كما كانت منذ انطلاقتها في شارع الصحافة «فليت ستريت» في لندن عام 1978، مقصد الباحثين عن المحتوى الرصين والحصري، والمصدر الإعلامي الأول لصنّاع القرار والمؤثرين ومراكز السياسة من المهتمين بالمنطقة وأحداثها.
وللمرة الأولى، سيكون محتوى «الشرق الأوسط» متاحاً على منصات «الشرق للأخبار»، في إطار تعاون يواكب مرحلة غير مسبوقة من التغييرات العالمية. ويغني هذا التعاون تجربة الطرفين ويضمن للقارئ والمشاهد مادة مميزة مقدمة بطريقة عصرية تحترم عقل القارئ وقواعد المهنة.
ويمثل التعاون جانباً مهماً من استراتيجية التحول الأوسع نطاقاً للمجموعة، ومن شأنه أن يوسّع من نطاق مشاركة ونشر محتوى «الشرق الأوسط» فائق الجودة، بما يضمن أن يكون للجمهور العالمي دائماً إمكانية الوصول إلى الأخبار في أي وقت وفي أي مكان.
عهد الثقة بين «الشرق الأوسط» وقرائها يتجدّد اليوم مع انطلاقتها الجديدة، آملين أن تنال رضاهم وتلبي تطلعاتهم، وأن يجدوا فيها، رقمياً وورقياً، ما يبحثون عنه في صحيفة العرب الأولى.