طلبت من صديق عزيز على إلمام واسع بقديم التكنولوجيا وحديثها، أن يكلف الأستاذ «جي بي تي» بكتابة عامود عن المحبّر، لكي نرى ما رأيه في زملاء العصر الكتابي، ونرى نحن بدورنا مدى دقته في طحن المعطيات التي تعطى له.
بدأ الأستاذ «جي» سرده بالاسم، صحيحاً. لكنه سرعان ما أضاف أنني من مواليد مصر. وهذه قراءة في الأماني لا في سجل النفوس. ثم قال إنني كاتب بالإنجليزية والفرنسية، لأن في المعلومات التي أعطيت له واحدة تقول إن ابني يكتب بالإنجليزية وابنتي تكتب بالفرنسية. وأفادنا أن مؤلفاتي واسعة الانتشار ما عدا تلك المتعلقة بالقانون. وانتقل فجأة إلى ممارستي الطب في مصر، واضعاً لوالدي اسماً غير اسمه، فاختلط الأمر عليه وصار اللاطبيب، الذي هو أنا، طبيباً في القصر العيني.
ذكّرني الأستاذ «جي» بأيامي الأولى في الصحافة: النية صافية، والإرادة ضافية وكل شيء آخر، سمك لبن تمر هندي، كما يقال في مصر. ولست أعرف عن غيري من الزملاء ومراحلهم التدريبية، أما أنا فكان كل شيء عندي تقريبياً. وبكل نية صادقة كنت أتكل على ذكاء القارئ واطلاعه. وكان يساعدني في ذلك أن المادة سوف تمر قبل ذلك على مدير التحرير. وكان معظم أولئك السادة في دقة ميزان الحرارة. حرارة الجسد لا الطقس.
وكانوا طباعاً وأمزجة وكفاءة عالية. أحدهم كان يعاني رفّة في الجفن الأيسر، ورفتين في الجفن الأيمن، وصراع دائم بين الشفتين العليا والسفلى: كلاهما تريد أن تحل محل الأخرى. وكذلك كان لا يعرف الابتسام. والمدير الآخر كان طيباً وضحوكاً وعلّته الوحيدة أنه يعطي رأيه في عملي بتعابير غير صالحة للنشر. وثالثهم كان مهنياً مثل الآلة، حاداً مثل شفرة الحلاقة، ويصر على استخدام الحبر الأحمر في التصحيح، بحيث يرى الجميع، خصوصاً في المطبعة، مدى معاناته مع المبتدئين.
كانت المهنة طيبة وفيها أساتذة تتعلم منهم. وكان فيها حساد كبار. لا نجاح ولا تقدم ولا خطوة واحدة في مهنة لا سعة في مثل سعتها بين المهن.
الناشئون الجدد سوف يكون لهم الأستاذ «جي»: مهذب، مؤدب، ومعارفه بلا حدود. وإذا غضب من خطأ في النص الذي أمامه، لا يستخدم أسلوب الأستاذ عارف الغريب في إبداء الرأي.
العودة التي تحتاجها سوريا
عادت سوريا عضواً عادياً في النظام العربي الذي إطاره الرسمي جامعة الدول العربية.
لم يعد مجدياً إثارة السؤال الذي انشغلنا به منذ إقصائها عن موقعها، هل كان ما حدث إجراءً سليماً أو ضرورياً؟
كما لم يعد مجدياً الجدل حول عودتها، فهذا هو حال العرب، وحالهم مع ما يوصف بالنظام العربي. في السابق أُخرجت مصر منه، وتكرر الأمر مع سوريا، حتى المقر التاريخي للجامعة أُخرج من مصر إلا أنه عاد إليها، رغم بقاء الأسباب التي أملت الإقصاء ونقل المقر.
عودة سوريا لمكانها في جامعة الدول العربية، ومشاركتها الكاملة في جميع مؤسساتها، بما في ذلك القمة ونحن على أبوابها، يثير سؤالاً: كم ستستفيد سوريا من هذه العودة؟ وهل تجسد بداية لخروج هذا البلد النوعي المهم من أزمته المركبة التي حولته إلى ساحة حرب كونية، وحولت جغرافيته إلى مناطق نفوذ لقوى ترى فيها ممراً إجبارياً لأجنداتها الخاصة؟ هذه القوى جميعاً لن تضحي بما توفر لها من نفوذ، فهي لم تقم بعمل خيري تضامني؛ بل دفعت أثماناً باهظة، بحيث أضحى وجودها في سوريا أساسياً في سياساتها الراهنة والمستقبلية.
ولسوء حظ سوريا، أن العرب هم الأقل تأثيراً من بين القوى المتصارعة فيها وعليها.
ولإسرائيل وأميركا وجود فعال على الأرض وفي الجو، وروسيا التي حلمت بوضع أقدامها الجليدية في المياه الدافئة وجدت ضالتها، وتحققت أمنيتها الأزلية فيها.
وكذلك إيران صاحبة الأجندات التي لا يقوى الكون كله على احتمالها، وتركيا شريكة الزلازل والأمن واللاجئين والتاريخ والجغرافيا…
وكل هؤلاء -وعلى وجه الخصوص روسيا وإيران- يتعاملون مع الحالة السورية كاستثمار استراتيجي يتعين على الجميع التعايش معه، فهم شركاء في كل شيء، ولم يبق النظام إلا بدعمهم، وفي السياسة كل شيء له ثمنه!
غير أن البعد الأهم في الحالة السورية، والعامل الحاسم في تحديد مستقبلها هو الشعب السوري صاحب الإسهام الأكبر في النزف والخسارة. لقد تمزق هذا الشعب العظيم بين ملايين اللاجئين خارج وطنهم، وملايين أكثر ظلوا على أرض الوطن لعدم إمكانية المغادرة، ولم يُخترع بعد الحاسوب الذي يسجل بدقة كم بيتاً هُدم، وكم آدمياً قُتل وجُرح، وكم مواطناً سُجن وشُرد، وكم سنة من عمرها خسرت سوريا بعودتها إلى الوراء، وكم سنة ستحتاج كي تعود كما كانت قبل اليوم الأول من الحرب.
حين ننظر إلى الواقع، والحرب لم تضع أوزارها بعد، يمكننا التحقق من مدى فاعلية العودة إلى «الحضن العربي» على صعيد الخروج من هذا الواقع، فالحضن العربي بصورته الراهنة لا يتسع لاحتواء كل هذا، ولا ينتظر منه أن يقدم حلولاً حاسمة.
حسن فعل النظام العربي حين أعاد سوريا إلى موقعها فيه، غير أن ما تحتاجه سوريا، كي يكون بداية حقيقية للخروج من مأساتها، هو عودتها إلى ذاتها، بتوديع سوريا القديمة التي عاشت أكبر مأساة وقعت منذ بدء الخليقة، ولا أمل يتجاوزها باستنساخ قديمها كما لو أنه انتصر.
المخرج لن يكون روسياً ولا إيرانياً ولا أميركياً ولا حتى عربياً، ودعونا نستفيد من دروس الربيع العربي؛ بل من الدرس الأكثر صدقية وبلاغة، ومفاده أن الكيان الذي نجا من كوارثه وويلاته، هو ذلك الذي استند إلى وضع داخلي أكثر متانة من الذين حاولوا اختراقه. فهل نرى وعلى يد السوريين توليد سوريا الجديدة، سوريا الديمقراطية، سوريا النظام السياسي الذي يرضي الجميع عبر انتخابات حرة لا مكان فيها للأرقام الثلاثة 99.9.
أن يجلس مندوب سوريا وراء العلم في اجتماعات الدول العربية فهذا أمر لا يضر، ولكنه ينفع في حالة واحدة، أن تولد سوريا الجديدة، وهذا وإن بدا صعباً بفعل التعود على القديم، فإنه الأدق والأصوب للذهاب إلى الجديد.
إن الذي يغلق الممرات التي تمر منها أجندات الآخرين هو متانة البناء الداخلي للمجتمع والدولة، وهذا لا يكون إلا عندما يحس كل مواطن سوري بأن الدولة له وللمجتمع. فهل نرى بداية مسيرة في هذا الاتجاه؟