رحيل خالد القشطيني «برنارد شو العرب»
«الشرق الأوسط» تفقد أحد أعمدتها
نعت الأوساط الثقافية والصحافية العربية، الكاتب والصحافي العراقي خالد القشطيني، الذي رحل السبت في العاصمة البريطانية، عن عمر يناهز الـ94 عاماً. والقشطيني، كما هو معروف، أحد أعمدة صحيفة «الشرق الأوسط»، فقد واكب الصحيفة منذ الثمانينات، عبر عموده اليومي الساخر، الذي كان بعنوان «صباح الخير»، ولاحقاً باسم «أبيض وأسود»، والذي كان يتناول فيه مواضيع اجتماعية وسياسية وشؤوناً يومية تهم المواطن العربي عموماً بأسلوب مبسط، وحكائي غالباً، بعيداً عن التنظير والتعقيد والتقعر والإنشاء أيضاً، بل مادة صحفية مركزة وغنيّة بالمعلومات، وتتضمن حدثاً وتاريخاً وعبراً غير مباشرة.
وبذلك اشتهر هذا العمود في كل أرجاء الوطن العربي، حتى أن الناقد المصري محمد مندور، الملقب بـ«شيخ النقاد العرب»، كتب مراجعة نقدية لأحد أعداد المجلة التي تضمنت مقالاً للقشطيني قال عنها: «إن مقالة القشطيني يجب أن تكون مثالاً يحتذي به الكتاب والنقاد العرب الآخرون». يذكر القشطيني في إحدى المحاضرات التي ألقاها في «المنتدى الثقافي العراقي»، أن برنارد شو هو معلِّمه الأول ومرجعيته الأساسية في الكتابة الساخرة، وإنه، مثله، «ولد متعلماً لأنني لم أتذكّر أي شخص علّمني كيف أقرأ أو أكتب. وُلدتُ وأنا أمتلك قابلية القراءة والكتابة».
ويضيف ساخراً كعادته: «أعتقد أن أمي حينما أنجبتني كنت أحمل جريدة تحت إبطي! كما أن الفكاهة والسخرية تسريان في دمي منذ الطفولة». وهو يبرر لجوءه للسخرية بقوله: «العراقيون تنقصهم روح النكتة، ولا يضحكون كثيراً، ربما لأنهم يأخذون كل شيء مأخذ الجد». وظل القشطيني يفتخر دائماً بـلقب «برنارد شو العرب» الذي أطلقه عليه هشام الحافظ، أحد مؤسس جريدة «الشرق الأوسط».
وكتب القشطيني كذلك في عدة صحف ومجلات عربية كمجلة «المجلة» اللندنية، ومجلة «الآداب» اللبنانية، ومجلة «آفاق عربية» العراقية، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «القاهرة» المصرية، ومجلة «الناقد» اللبنانية. وبالإضافة إلى الصحافة، عُرف الفقيد أيضاً بمسرحياته ورواياته وقصصه القصيرة، التي أصدر بعضها باللغة الإنجليزية، منها «حكايات من بغداد القديمة – أنا وجدتي»، و«من شارع الرشيد إلى أكسفورد ستريت – حكايات للضحك والبكاء».
وأصدر القشطيني أيضاً عدة كتب سياسية وفكرية ومنها: «الحكم غياباً» و«فلسطين عبر العصور» و«نحو اللاعنف»، بل إنه عد نفسه «كاتباً وليس صحافياً»، كما ذكر مرة.
ولد خالد القشطيني في منطقة الكرخ، بغداد، عام 1929. وتخرج في كلية الحقوق في عام 1953، وفي معهد الفنون الجميلة قسم الرسم عام 1952، ثم حاز على بعثة حكومية لدراسة الرسم والتصميم المسرحي في بريطانيا، ودرس هاتين المادتين حتى عام 1957. عاد بعدها إلى العراق للتدريس في معهد الفنون الجميلة، ثم غادر العراق عام 1959، والتحق بالإذاعة البريطانية وبقي بها حتى 1964، ليتفرغ بعدها للصحافة، التي فاز بجائزتها في الإمارات عام 2015، عن عموده الصحافي.
ونشر خالد القشطيني في السنوات الأخيرة كتاباً عن سيرته بعنوان «زمن في العراق وإنجلترا»، تحدث فيه عن شخصيته منذ ولادته ونشأته في بغداد. وهو يقول فيه إن زوجته الإنجليزية قد شاركت الكثيرين في التساؤل عن هذا الرجل الذي جاءها من بلاد ألف ليلة وليلة وتزوجها وأنجب منها ولدين، دون أن تلم بكل جوانب حياته وحياة أسرته في العراق. ولذلك دعته لكتابة بضع صفحات للأولاد يشرح فيها خلفيته وهويته ومنشأه. فعل ذلك، ولكنه لاحظ أن ما كتبه لم يكن مجرد عرض لحياته، وإنما عرض لحياة المجتمع العراقي والعراق ككل. يقول: «إذن، لم لا أتوسع في الموضوع ليكون كتاباً للجميع»، وهذا ما فعله. السيرة مكتوبة باللغة الإنجليزية، وتضمنت الكثير من الطرائف والمفاجآت. وكان فيها خالد القشطيني جريئاً، كما في عموده الصحافي وكتاباته الأخرى، فهو لم يتردد في ذكر «الحقائق الصعبة والمرة» حتى عن حياته الشخصية.
حقائق
أبرز أعمال خالد القشطيني
- «فكاهات الجوع والجوعيات» دار الحكمة، لندن، 2011.
- «على ضفاف بابل» دار الكوكب، 2008.
- «من شارع الرشيد إلى أكسفورد ستريت، قصص للضحك والبكاء» دار الحكمة، لندن، 1999.
- «أيام عراقية» الدار العربية للعلوم – ناشرون، المجلس العراقي للثقافة، الجزائر، 2011.
- «السخرية السياسية العربية» دار الساقي، لبنان، 1992.
- «حكايات من بغداد القديمة» دار الحكمة، لندن، 2006.
- «الظُرف في بلد عَبوس» دار المدى، العراق، 2012.
- «ما قيل وما يقال» دار الحكمة، لندن، 2001.
- «من جد لم يجد» دار الحكمة، لندن، 2003.
- «من أجل السلام والإسلام» الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2017.
- «عالم ضاحك… فكاهات الشعوب ونكاتها» دار الحمراء، 1991.
- «الساقطة المتمردة: شخصية البغي في الأدب التقدمي» دار الحمراء، 1991.
- «تكوين الصهيونية» المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1996.
- «أيام فاتت» دار الحكمة، لندن، 2004،.
- «التجربة الديمقراطية في عمان» دار الحكمة، لندن، 2006.
- «الجذور التاريخية للعنصرية الصهيونية» المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981.
- «نحو اللاعنف» دار الحكمة، لندن، 2018.
القشطيني يغادر ضاحكاً..!
بين خالد القشطيني، الذي رحل عن عالمنا منذ يومين، وأستاذه الملهم جورج برنارد شو الكاتب والمسرحي الآيرلندي المولد، والإنجليزي النشأة، مساحات مشتركة، أهمها الإنسان وقضيته، وهمومه.
كلاهما امتهن الأدب الساخر، ليس فقط للإمتاع والبهجة، وإن كانا هدفاً عالياً وسامياً ورحيماً في ظل ما يكابده الإنسان من عنت وتعب وعذاب… لكن الأديبين امتهنا الأدب الساخر (أيضاً) للتعبير عن همّ الإنسان وهموم المجتمع، والحاجة للتنفيس عن الاختناقات النفسية، والروحية، التي يعاني منها، ومقاومة البؤس والكآبة، وكشف متناقضات الواقع وإشكالاته وتعقيداته، فالسخرية كانت الوسيلة القديمة الجديدة التي يلجأ إليها الإنسان للهروب من واقع سوداوي مرير، وتفريغ مخزون المعاناة داخله، وعلى رأي عالم النفس النمساوي ألفريد إدلر (1870 – 1937)، فإن السخرية هي «خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز»، لكن السخرية برأيه تمنح الناس شعوراً بالرضا «لأننا ننزع إلى الرضا عن أنفسنا والاسترواح إلى شعورنا، عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها».
وروح الظرافة سمة الشعوب المتسامحة، المحبة للحياة، القادرة على تفرغ عقدها الاجتماعية في قوالب ساخرة، فالناس يلجأون للنكتة كلما كانوا أقرب إلى البساطة والطيبة، وعلى رأي الكاتب الروسي فيودور ديستوفيسكي (1821 – 1881)، فإن «السخرية هي الملاذ الأخير لشعب متواضع وبسيط».
عاش القشطيني 94 عاماً، كما عاش برنارد شو 94 عاماً، كلاهما نظر إلى الحياة بعمق وبصيرة، رغم الإيقاع الساخر الذي كانا يعزفان عليه ويقدمانه للناس. يقول القشطيني إن برنارد شو هو معلِّمه الأول ومرجعيته الأساسية في الكتابة الساخرة، وبرنارد شو يشرح أسلوبه في السخرية، قائلاً: «إن أسلوبي في المزاح هو أن أقول الحقيقة… وعندما يكون الشيء مُضحكاً أبحث عن الحقيقة الكامنة وراءه».
القشطيني صاحب كتب «الظُرف في بلد عَبوس»، و«من جد لم يجد»، و«فكاهات الجوع والجوعيات»، و«عالم ضاحك… فكاهات الشعوب ونكاتها»، و«السخرية السياسية العربية»، كان يسير على منوال أستاذه الإنجليزي، حتى في حركته، كثيرون شاهدوه يتجه نحو العمل في صحيفته الأثيرة «الشرق الأوسط» ممتطياً دراجته الهوائية في شوارع لندن الممطرة، قال ذات مرة: «أعتقد أن أمي حينما أنجبتني كنت أحمل جريدة تحت إبطي! فالفكاهة والسخرية تسريان في دمي منذ الطفولة».
أما الأسلوب الذي كان يكتب القشطيني به فهو أسلوب نادر في الصحافة العربية، فالكتابة الساخرة ضرورة لأن صرامة الواقع انعكست على المنتجات الأدبية شعراً وسرداً وفناً، فانحسر فن الأدب الساخر، رغم أنه حاجة، ليس للتنفيس فقط، وإنما للنقد الاجتماعي والسياسي والتخفيف من غلواء الواقع.
ربما كان شاعر المهجر الكبير إيليا أبو ماضي، المتوفى قبل أكثر من نصف قرن، يجادل عصرنا الحالي الذي تحاصره الكآبة أينما ولى..! فهو القائل:
قال السماء كئيبة! وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما!