“جمهورية الظلام” لفواز حداد…تشريح الطائفية ومطحنة الموت(2/2)
تناول عدد من الروائيين السوريين، وغير السوريين الحدث الكبير الذي هز سوريا في العقد الأخير، لكن رواية “جمهورية الظلام” هي الأشمل حتى الآن في تقديم قراءة تشريحية متعددة المستويات، والبداية من الوضع الذي كانت تعيشه سوريا عشية الربيع العربي من خلال آليات الاستبداد التي كانت تحكم السوريين، واتخذ الكاتب من فرع الأمن دليلاً، أضاء من خلاله على عمل أجهزة النظام وتشكيلها ودورها ومن يديرها ويتحكم بها ولمن تتبع ومن تتابع، وكيف تمارس عملها، ورسم صورة عن عالم يحكمه الخوف والقتل وهدر الكرامة وضياع الحقوق. وتشكّل هذه الأجهزة قاعدة نظام هرمي تقع في رأسه العائلة التي صممت هذا البناء من أجل ديمومة حكمها.
لم تترك الرواية مسألة إشكالية لم تتناولها بعمق وبلا مواربة، ويبدو أن الكاتب اجتهد كثيراً في تعميق الثيمات التي اشتغل عليها في رواياته السابقة، وقدّم مشهداً أوسع بكثير، ذلك الذي ولد مع أحداث الثورة في العقد الأخير، ولذا يمكن أن نقول أنها المرة الأولى التي يتم فيها اقتحام المسكوت عنه أو المحرم وهو الطائفية، وبغض النظر عن رؤية الكاتب لهذه المسألة ومنظوره لها، فإنه لم يمر عليها مروراً سريعا، ورسم شخصيات معبّرة عن هذا المرض الذي أصاب سوريا بعد حكم حافظ الأسد، الذي جعل حكم العائلة يعتمد على الطائفة، وبذلك حكم البلد أمنياً وهندس الحكم وبنى الأجهزة والإدارة، وعمم ذلك على المجتمع، ومن أجل استمرار حكم العائلة دمر الحياة السياسية وقمع الحريات وبطش بكل صوت احتجاجي، وارتكب مجازر بحق المدنيين كما حصل في حماة وحلب في ثمانينيات القرن الماضي، وبذلك تتحدّث احدى الشخصيات بصراحة” لن نسلم رقابنا للسنّة، ولن ندعهم يضطهدوننا ثانية” وان مجزرة حماة لا حل سواها، وليس سوى النظام يحمينا، ليس سوى الطائفة.
لا يتنازل حداد عن الفن من أجل السياسة، ولذلك يحتفظ عمله الجديد بطاقة سردية تكبر تدريجيا بالتوازي مع أحداث الرواية التي تتدرج في فتح دفاتر أكثر من نصف قرن من حكم عائلة الأسد، التي أسست للخراب السوري بكل ما يعنيه، فهي التي أرست الاستبداد وبنت السجون وعممت التعذيب وأشاعت الخوف وحولت حياة الناس إلى مأساة مفتوحة من الولادة حتى الموت، ومن دون مبالغة يمكن القول إننا نقف للمرة الأولى حيال عمل فني شامل يشكل سجلا للتحول الكبير الذي عرفه هذا البلد على يد حكم العسكر والمخابرات والطائفية، وما انتهى إليه من ثورة لم يتوان النظام عن تحويلها إلى مجزرة. وهو إذ يشتغل في النصف الأول من الرواية على تفكيك فلسفة الأمن التي أسس عليها الأسد نظام العائلة، فإنه يتعمق في القسم الثاني في المآلات التي قاد إليها، وأصبح بسببها البلد في خطر، وهذا ما قاد إلى الانفجار.
بهجت سليمان
وتحتل شخصية سليمان الحيز الأكبر من الرواية، وهو يبدو للقارئ شخصية في شخصيات عديدة. من قريب جداً يبدو بهجت سليمان، لواء المخابرات التي الذي أوكل إليه الأسد الأب تدريب ابنه باسل ليصبح مؤهلا للرئاسة، وبعد مصرعه في حادث سير العام 1994، نقل المهمة إلى تحضير بشار، وأدار بذلك مسؤولية أحد فروع الأمن التي تولت شأن المثقفين والكتاب. ولأن الرواية تبحر مطولاً في تفاصيل مواقف المثقفين من الوضع العام ومن ثم الثورة وتقدم مثقف السلطة الانتهازي، فإن سليمان حاضر بقوة. وهو معروف بلقبه “المهندس”، رغم أنه لم يكن على علاقة بالهندسة، إلا من ناحية تأسيس أجهزة الأمن وتخطيط مشاريع على علاقة بأمن البلد. كما كان من مشاريعه تصنيع معارضة شكلية داخل البلد، لكن الفكرة لم تتطور بسبب رفض النظام أي معارضة.
ومن زاوية أخرى يبدو سليمان وكأنه أبو سليمان اللقب الذي كان يحمله الأسد الأب، ويبدو التقاطع بين الشخصيتين من زاوية أن المهندس أمسك بكل السلطات، والصلاحيات، وأساليب معالجة الاحتجاجات التي يعمل على استخدام أقسى الطرق للتعامل معها، فلا يقبل أن يخرج أحد حيا. وهو من زاوية أخرى بشار المتهور. لكن سليمان الحقيقي هو رجل النظام وصانع جرائمه، الذي تراوده ربما فكرة التعاون مع الخارج للقيام بانقلاب، فيدفع ثمن ذلك حياته، إلا أنهم يسجلون عملية قتله كحادثة انتحار، وهو ما حدث فعلاً كما سبق في رواية “السوريون الأعداء”، وهو في هذه الحالة يظهر كشبيه لوزير الداخلية غازي كنعان، الذي تمت تصفيته في عام 2005 للاشتباه بتحضير انقلاب ضد بشار.
بلزاك
وتبقى الصورة هي الاقتراب من الأدباء مدعي الثقافة، بالإعلان عن افتتاح فرع أمن خاص بهم، ويختار صديقه عارف ليكون مفوضاً للفرع مهمته تخريب عقل المقدم مدير الفرع الذي يؤمن بأن الأخلاق قادرة على اصلاح كل شيء والعكس صحيح، ولذلك سيأخذ على عاتقه تولي عملية إعادة بناء اللحمة المعنوية للأمة، بتشكيل ثقافة البلد على نحو متسامح ومتصالح، وأيضا ممانع ومقاوم، يراوده طموح أن يكون مستشاراً، رغم أن الرئيس لا يستفيد من المستشارين الذين تسبق “الاملاءات الروسية والإيرانية نصائحهم”. ويرسم شخصية عارف على نحو دقيق ريفي قدم إلى دمشق وعمل في بيع الحاجيات المهربة من لبنان، ولكن صديق طفولته سليمان يقرر أن يحسن من مستواه، فيختار له وظيفة في الصحافة خصوصاً أنه يكتب الشعر والقصة، فصار يخالط مجتمعات المثقفين، بعدما أدرك أن الفرصة سانحة امام مثقفي الريف الزاحفين إلى المدن مسلحين بالثقافة البروليتارية “بعدما أفسحت العاصمة صدرها للثقافة المنتصرة”. واكتسب بذلك سمعة معارض وطني يساري ذي رأي مستقل، لكنه قرر أن يحترف كتابة الرواية من أجل ترسيخ مكانته الأدبية موضوعها الشعب الكادح الذي يفرز البطل الإيجابي، واختار بلزاك معلما له بسبب القرابة بين سوريا الأسدية وفرنسا البونابرتية، ولن يطول الوقت حتى يكتشف نفسه بطل كوميديا روائية، بعد أن حثه بلزاك: اذهب الى الواقع.
والدرس الذي تعلمه وآلمه، كان أن الكتابة أكبر من الكاتب، وإذا عجز عنها، فلأن الموانع كانت أقوى من أن يتحايل عليها. ويركز على هذه الشخصية التي تعيش علاقة حب مع أرملة دمشقية توفي زوجها بحادث سير بشاحنة عسكرية يقودها ضابط يتدرب على السياقة، والذي رفض أن يتحمل المسؤولية، وداس على القضاء وكاد أن يقتلها ويقتل القاضي لو لم تصمت لأن “الضابط من الطائفة المباركة بالسلطة”. وحين تعرفت على عارف ” لم تهمها سمعته، وعلى الأغلب كلما علت مكانته، كان مدعاة للاحتقار أكثر، ما دام من الطائفة المتحكمة بالبلد”. وفي ما بعد عزا تعاطفها مع المظاهرات في درعا ودمشق “إلى دمشقيتها وكراهيتها للنظام”. ثم تعترف بأن ذلك حصل بسبب “اللوثة الطائفية”. وهذا ليس رأيها وحده، بل موقف الدول الغربية التي تنظر إلى الحرب على أنها طائفية، وتبحث عن علاجها طائفياً من خلال البحث عن ضابط علوي يقوم بـ”حركة تصحيحية” على النظام، ولا ينسى هنا أن المعارضة فقدت ثقتها بـ”العلويين حتى النظيفين منهم”، وفي خضم البحث عن بديل علوي مقبول تم تصفية سليمان من قبل النظام، بعد أن فقد الحصانة التي اكتسبها من صناعته “وصفة الخلود والأبد”.
كواليس الموت
ولن تكون الجولة في كواليس الموت المتوزعة بين الفروع والأقبية والمستشفيات، والتي طاولت حتى التاريخ سوى أن عقلية النظام نجحت في تحويل البلد إلى جحيم أرضي، تلخصه “الغرفة السوداء” ومن يدير الظلام.
الرواية ليست عن أجهزة الأمن والتعذيب والقتل فحسب، بل تتشعب في حياة هذا البلد منذ بداية حكم آل الأسد، وتحفل بموضوعات كثيرة، منها الحب والجنس، الذي يأتي ضمن سياق حالة الإحباط والخراب العام الذي نجم عن الحرب، بينما يحضر الحب كي يعلو على الطائفية وأسبابها ونتائجها، ويداوي الأرواح المكسرة، ينتشل من الاحباط، وتبدو علاقة مايا الطبيبة الدمشقية بالمفوض الريفي العلوي، الكاتب المثقف مثالاً على الحب في زمن الكراهية، الذي استشرى بفعل جرائم النظام. فكلاهما ارتضيا أن يكونا شاهدين عليها، فهم لم يرتكباها ولم يشاركا فيها، ورغم أن حياة عارف التصقت بالنظام لكنها ارتبطت بالبلد. كان يمضي في طريق مسدود، وتمضي مايا معه في حياة بلا أفق، عسى أن يجدا معنى مضاداً للموت والخراب. لكن الحب مؤلم إن كان هربا من هذا الذي لم يعد وطناً.
ومن خلال ما تتحلى به من جرأة، تفتح الرواية أكثر من باب، وتثير الكثير من النقاش حول بنائها وموضوعاتها واطروحاتها السياسية، وهذا أمر بديهي إزاء حدث كبير عصف بسوريا.