ربما يمكنني أن أزعم أنني أكثر من يتابع صحافة مصر من غير المصريين. ومن الصحافة أتابع فقط الكتّاب. بعضهم بإدمانٍ، وبعضهم الآخر منذ زمن طويل. وقد فقدنا على الطريق الكثيرين منهم لكنهم ظلّوا أعلاماً في حياتنا المهنية. لا أدري ما هو السبب الذي جعلني أتجاهل تماماً ما كتب جورج إسحق أو ما كُتب عنه. لم يحدث ولو مرّة واحدة أن توقفت عنده حتى من قبيل الفصول العادي أو المهني. وليس ذلك بالغريب لأن الإنسان لا يستطيع أن يعرف كل شيء أو أن يتابع كل شيء.
شعرت في الأيام الماضية بتأنيب حقيقيّ وأنا أرى كيف ودّع كتاب مصر هذا الرجل الذي يبدو أنه كان استثنائياً حقاً. ولا بد أن الاستثناء لم يكن في موقعه السياسي أو الوطني، وإنما في معالم تلك الشخصية التي تمثل المصرّي الطيّب الكامل المواطنة. جميع الذين ودّعوه ذرفوا في وداعه عبارات الأسى والعاطفة. ولم يكتفِ أيٌّ منهم بالسرد الموضوعي المعتاد في ذكر مآثرهِ، بل اتفقوا جميعاً على أنها مأثرة واحدة في الخلق والطباع والطيبة المصريّة.
وبدا من مشاعر الكُتّاب أن القبطيّ منهم كان يتمنى لو أنه جورج إسحق، والمسلم كان يؤمن أن إسحق مسلمٌ متميّز. وقارن الزميل عبد الله السنّاوي بينه وبين الزعيم القبطيّ التاريخيّ مكرم عبيد، برغم فارق العصر والزمان. ويبدو أن جاذبيّة الرجل كانت في صدْقه وبساطته. كل شيء صدقٌ. كل صداقةٍ إلى الأبد. كل خطوةٍ من أجل مصر. كل كلمةٍ في سبيل مصر، ولا فرق بين مصريٍ وآخر إلا في محبتها. في كل ما كُتب عن جورج إسحق، لم تصدر كلمة نقصٍ واحدة أو تهمةُ. أو كتبٌ أو شكٌ أو اشتباهٌ. محبة مطلقة لشخصٍ مطلق الصفات والشمائل، مع أن السياسيين في العادة لا يتوقعون الإجماع ولا يحصلون عليه.
ثمة أمرٌ آخر وضاربٌ في القِدَم، وهو أنّ مصر تُعرف أيضاً كيف تحب وكيف تخلصُ وكيف تفي من يُحبها. لم يتجاوز جورج إسحق العمل السياسي إلى الزعامة السياسيّة، ولا هو طلبها أو حرص عليها، ولعلّ كل ما أراده هو أن يكون ما كانَهُ. اكتفى بهذا القدر من المحبة والاحترام، ولم يكن ذلك بالقليل.
يبدو من كتابات الزملاء أن جورج إسحق كان سَمِحاً في المعارضة، وفي الولاء. وفي الحالتين كان أسلوبه واحداً وراقياً. تلك هي المدرسة المصرية القديمة، التي تخرج منها الكثيرون من العرب أيضاً. ولكنهم ظلوا دون النسبة المطلوبة، وإلا لكان حالنا اليوم أفضل بكثير من هذا الخراب.
لبنان: المواجهة الانتخابيّة الأخيرة في أربعة أسئلة وأجوبة مبسّطة
سؤال: كيف يُقرأ ما حصل الأربعاء الماضي في البرلمان اللبنانيّ؟
جواب: يُقرأ على مستويين: عجز «حزب الله» وحلفائه عن إيصال مرشّحهم إلى رئاسة الجمهوريّة، وهجوم الحزب وحلفائه لقضم رئاسة الجمهوريّة. صحيح أنّ الحزب تعرّض لانتكاسة، كما يقول خصومه، لكنّها انتكاسة ضمن استراتيجيّة هجوميّة متواصلة، وهذا كثيراً ما يفوت انتباهَ خصومه. لهذا فالانتكاسة تلك لا توقف الهجوم الذي سيستخدم ملهاة الحوار وتعطيل البرلمان وابتزاز القوى الإقليميّة والغربيّة المؤثّرة، وربّما ما هو أكثر وأخطر.
سؤال: ما معنى استراتيجيّة الهجوم لقضم موقع الرئاسة؟
لنفترض لوهلة أنّنا نعيش في نظام غير طائفيّ لمجتمع غير طائفيّ. في هذه الحال سيكون من الهرطقة أن يقال: إنّ للموارنة القول الأوّل في اختيار رئيس الجمهوريّة المارونيّ، وللشيعة القول الأوّل في اختيار رئيس البرلمان الشيعيّ، والشيء نفسه للسنّة في اختيار رئيس الحكومة السنّيّ. والحال أنّ هذا التقسيم الطائفيّ للرئاسات كان هو نفسه ليبدو هرطقة وتحريضاً على استقرار البلد وعلى قيمه وأعرافه.
لكنْ أيضاً في نظام غير طائفيّ، سيكون هرطوقيّاً أن يقرّر الشيعة وجود مقاومة مسلّحة أو عدم وجودها، بحجّة أنّ الطائفة المذكورة هي التي تقيم في جوار الطرف الذي يُفترَض باللبنانيّين أن يقاوموه.
إذاً، لا هذه الطائفة تكون المقرّر الأوّل في موضوع بأهميّة رئاسة الجمهوريّة، ولا تلك الطائفة تكون المقرّر الأوحد في موضوع كالمقاومة ليس أقلّ أهميّةً وحساسيّةً.
بالمعنى نفسه، ولكنْ على نحو مقلوب: في نظام طائفيّ كالنظام القائم، يُفترض أن يكون الحكم فيه «بالتوافق»، لا بدّ أن يكون للموارنة اليد العليا في تقرير رئاسة الجمهوريّة (المارونيّة)، خصوصاً أنّ الشيعة هم الطرف الأوحد في تقرير مصير المقاومة (الشيعيّة).
إلاّ أنّنا نحصد ما هو أسوأ حين نتذكّر أنّ الطرف الشيعيّ هو الذي يعترض على الحقّ المارونيّ في موضوع الرئاسة، ما يوحي أنّ المطلوب إقرارٌ بالحقّ الشيعيّ، لا في موضوع المقاومة فحسب، بل أيضاً في موضوع الرئاسة.
لضمان الحقّ الشيعيّ في الرئاسة، كما في المقاومة، صنّف أنصار الحزب الاختيارَ المارونيّ لمرشّحٍ يخوض معركة الرئاسة بأنّه «ابتزاز» و»تحدٍّ» و»لعب بالنار» و»تهديد للسلام الأهليّ». وصل الابتزاز والتشهير إلى سويّة فلكيّة مع خطاب المرجع الدينيّ الشيعيّ الأوّل من أنّ «ما لم تستطع أن تأخذه تلّ أبيب وواشنطن بالغزو الإسرائيليّ لن تحقّقاه بالانتخابات الرئاسيّة»، أي تخوين «الشريك» الذي يُفترض «التوافق» معه.
هذه هي محاولة القضم، بكلّ الأسلحة الثقيلة، التي يُراد لها أن تضع في جيب واحدة رئاسة المقاومة، وهي فعليّاً أهمّ الرئاسات، ورئاسة البرلمان، ورئاسة الجمهوريّة (المارونيّة)، فيما رئاسة الحكومة (السنّيّة) محكومة بتصريف الأعمال ومشرفة على تصريف القوّة الذاتيّة للسُنّة. هذا أشبه بحركة استيطان سياسيّ تجتاح المواقع المؤثّرة أو تعطّلها وتُجلي أصحابها عنها بعد التشهير بهم.
سؤال: لكنْ لماذا الآن؟
جواب: لقد نقلت معركة رئاسة الجمهوريّة (من دون أيّة حماسة لأيّ من مرشّحَيها) الموضوع إلى مكان يصعب التستّر عليه. ذاك أنّ الوضع الإقليميّ الملائم للحزب وإمساكه بالمفاصل الفعليّة للقرار صُدما بالعجز عن إيصال رئيس جمهوريّة مطواع له. جاء هذا مترافقاً مع الموقف الجديد للعونيّين الذي حرم الحزب من الغطاء المسيحيّ الذي غطّاه منذ 2006. لهذا بات مطلوباً الانتقال إلى سويّة أعلى من العلنيّة والتوكيد الطائفيّين، والتخلّي عن أوراق التوت طالما أنّ هذه الأوراق تتساقط. وراء هذا القرار تقيم تجربة الميشالين: فـ»التوافق» دفع ميشال سليمان، رغم ركاكته، إلى استقلاليّة لا يحتملها «الحزب»، وميشال عون كرّس تأويل «التوافق» كما يشتهيه. بعد عون، لا يمكن الرجوع إلى سليمان. الرجوع إلى لحّود هو وحده الممكن والمقبول.
سؤال: أليست هذه قراءة طائفيّة؟
جواب: لا. ما يحصل اليوم هو أنّنا نتصرّف كأنّنا بلد غير طائفيّ لا يجوز فيه للموارنة تقرير اختيار رئيس الجمهوريّة. لكنّنا نتصرّف، في الوقت ذاته، كأنّنا بلد طائفيّ يجوز فيه للشيعة وحدهم تقرير وجود المقاومة. من يعترض على التفرّد الشيعيّ بالقرار الأخير يكون طائفيّاً، ومن يوافق على الأولويّة المارونيّة في رئاسة الجمهوريّة يكون طائفيّاً.
وفق هذا المنطق، من لا يكون طائفيّاً هو الذي يقول بوحدانيّة الحقّ الشيعيّ في موضوع المقاومة، وبانعدام الحقّ المارونيّ في موضوع الرئاسة.
وغالباً ما يقال ردّاً على تسمية الأشياء بأسمائها: هذا كلام طائفيّ، إذ ينبغي الفصل بين ما نعيشه وما نقوله. نعيش طائفيّاً، وتُفرض هيمنة طائفيّة في الواقع، لكنّنا نتحدّث كما لو أنّ الطائفيّة لا توجد. هذا يشبه ما عرفته بلدان عربيّة كثيرة اتّبعت فيها الأنظمة سياسات طائفيّة، فحين وصف معارضوها ذاك السلوك بالطائفيّة، وُصفوا هم بأنّهم الطائفيّون.
لقد سبق لأستاذ الفلسفة اللبنانيّ بشّار حيد أن تساءل: إذا كان ثمّة نظام تمييز عنصريّ، أو إثنيّ، أو جندريّ، بات مطلوباً كشفه ومقاومته. لكنْ لماذا يسود الصمت والتمويه في مواجهة نظام تمييز طائفيّ؟
قبل 1975 نُسب إلى «المارونيّة السياسيّة» أنّها طرحت على المسلمين صيغة تعايش مفادها: «ما لنا لنا وما لكم لنا ولكم». المؤكّد اليوم أنّ «الشيعيّة السياسيّة» تطرح على باقي اللبنانيّين صيغة تقول: «ما لنا لنا وما لكم لنا».