سحماتا هي قرية فلسطينية تقع بين عكا والحدود اللبنانية، ولكن الطريق إلى سحماتا هو عنوان رواية للدكتور إبراهيم السعافين. والسعافين الذي تظهر صورته على الغلاف الأخير للرواية يبدو في صورة كلاسيكية كأستاذ عركته التجربة والزمن، ولذا فإنك ستجد في الرواية سردية فلسطينية كلاسيكية يرى الفلسطيني فيها نفسه وعائلته وأهله. ليس هناك جديد لكن قدرة الراوي على الإمساك بخيوط الرواية الحافلة بالشخصيات هي المتفوقة، وهي التي تتكفل بجذب القارئ ليتأمل صورته في الرواية.
إذاً هي حكاية شباب أغلبهم ينتمون إلى فلسطين يلتقون وقد ذهبوا للدراسات العليا في جامعات أمريكا في السبعينيات. هنا يجتمع خليل السعدي القادم من عمان والمنحدر من أسرة هاجرت من الفالوجة مع سلمى العمر القادمة من مخيم الرشيدية في لبنان، المخيم الأقرب إلي الحدود مع فلسطين والذي لا يملك والدها للمخيم فراقاً على أمل البقاء على الطريق إلى سحماتا.
هناك إحسان صباغ وخطيبته غادة ربيع القادمين من عمان. وكلاهما من جذور فلسطينية وإن كان إحسان أصلاً من عائلة مغربية قطنت يافا قبل 600 عام ثم نزحت إلى عمان. إلى جانب هؤلاء تجد بسام الضاهر المنغمس في العمل الوطني وحفيد الشيخ مخايل الضاهر أحد أعمدة الطائفة المارونية في لبنان.
كما تجد محمد الراعي الآتي من خربة الوهادنة القرية التي تنام فوق الجبال الأردنية المطلة على فلسطين. وحين يأخذنا الراوي إلى بيت كل منهم وعائلته فإنك تجد نفسك ضمن سردية فلسطينية تقليدية لكنها مثيرة معروفة النهايات، ولكن التفاصيل توقعك في شركها لترى ما رآه ابن خلدون في مقولته التي صدر بها الكاتب فصل الرواية الأول (الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء. إلى ذلك نرى بوب الأمريكي الباحث عن الحقيقة وفتاته جانيت التي تدرس العربية وتفهم عيوب أمريكا ومظلومية العرب والتي تقتل فيهاجر في بحثه عن الحقيقة إلى لبنان، حيث يلتقي روز صديقة سلمي وزميلتها في الجامعة الأمريكية.
كالمتوقع ينجذب عدنان إلى سلمى، كما انجذب صديقه إحسان إلى غادة، وتعقد خطوبتيهما في عمان وفي مخيم الرشيدية. والغريب عودتهم إلى أمريكا دون تحديد للزواج، وهو أمر غير مألوف على عادات الفلسطينيين. لكن الواضح أن المؤلف أراد أن يقول إن الزواج عند مَن يسكنهم الهمّ الوطني يبقى أحد الهموم ويتساوى مع هموم أخرى كثيرة في مسيرة الحياة، خاصة إذا كانت الهموم وطناً مضاعاً ومقاومة وشتات.
ما الذي أعاد هؤلاء جميعاً من أمريكا، حيث الحياة الواعدة المريحة، التي أكثر ما ينغصها أنك تعيش في بلد بنى نفسه على إبادة السكان الأصليين، الأمر الذي إضافة إلى أمور أخرى يجعل فلسطين لا تبارح الخيال لحظة.
العودة كانت قراراً فردياً لشباب وطني يوم أخذ العدوان الصهيوني على لبنان يلوح في الأفق. فما قيمة المستقبل الذي يقوم على دمار الوطن، في لبنان نجح العدو الصهيوني في إعادة الطائفية والاقتتال الأهلي، الأمر الذي يجد هؤلاء الشباب الواعون أنفسهم ضحايا له ومجبرين على الدخول في أتونه مكرهين حتى يذهبوا أخيراً ليواجهوا الصهاينة في الجنوب ويكونوا مَن الذين كتب تاريخ المقاومة أسماءهم بمداد من ذهب في قلعة الشقيف ضمن ما عُرف أحياناً بكتبة الجرمق، حيث جاء الصليبيون من قبل وجاءهم صلاح الدين وها هم الصهاينة يأتون ويجيئهم هؤلاء الفتية، وهنا تجد الكثير من أبطال كتيبة الجرمق، وقد أصبحوا أبطالاً في الرواية والسياق يزداد إحكاماً.
وترى بسام الضاهر الوطني في مواجهة رفيق طفولته وائل نصور الانعزالي. الصور الأدبية تترى تنتقل من تصوير البطولة في مواجهة الصهاينة إلى تصوير المشاهد المريرة للعنف الأهلي. فقد دقت إسرائيل الأسافين بين الإخوة وقطعت الوطن بين الفرقاء حتى يضيع دم بوب الأمريكي الألماني بين القبائل المتصارعة.
بوب الذي قُتل بعد أن اهتدى للحقيقة وبعد أن تزوج روز الأمريكية التي ترى بيروت أجمل ما في الدنيا وترى فلسطين موطنها وتقيم عرسها في مخيم الرشيدية، حيث يقيم معاوية العمر أبوها وأبوبوب وأبو الأحرار. معاوية العمر يرحل مع استشهاد إحسان وبكر الناقة وغيرهم من الأبطال. ويرحل مع رحيل المتبقين منهم بعد هزيمة أو نصر.. لا فرق فكلها محطات على الطريق إلى سحماتا والأمل باقٍ ما بقيت حيفا ابنة بوب وروز تتفتح على الحياة.
نجح السعافين في أن يجعلنا نقرأ أنفسنا وإخفاقاتها ونجاحاتها، وأن نحب أنفسنا أو نكرهها وأن نرثي ذواتنا أو أن نجدد ثقتنا بأنفسنا. الغريب أن السعافين لا يجعل البطولة في روايته إلا للأبطال الحقيقيين بينما يترك الشائهين والمشبوهين للهوامش وما أجدرهم بها رغم فعلهم السرطاني فينا.