عندما يكثر الحديث عن التراجع الأميركي كما هو الحال اليوم، يشتد في المقابل دفاع المحافظين عن النموذج الأميركي. كمثل القول إن سائق الشاحنة في ولاية أوكلاهوما يتقاضى راتباً يعادل راتب طبيب في البرتغال. وهناك من يكرر الحديث عن التفوّق الشديد والمستمر للحياة الجامعية. فإذا كان الصينيون والهنود يتميزون في الاندفاع على طلب العلم، فإنهم لا يزالون طلاباً له بالمقارنة مع أميركا. ولا تزال النخبة الصينية والهندية، ناهيك بالنخب الأخرى حول العالم، تأتي إلى الجامعات الأميركيّة لتطلب منها الشهادات والإفادات.
ثلاثة أشياء وضعها الأميركيون في صلب النظام العالمي لم تتغير بعد: النظام الاقتصاديّ، التكنولوجيا، وأسلحة الدمار الشامل. إذا كان هناك من أزمة أو تراجع، فهما بالمقارنة مع المقياس الأميركي نفسه، كما يقول الدكتور حسين كنعان في كتابه الجديد «مسار الليبرالية في الولايات المتحدة الأميركية» (دار نلسون). قدّمت أميركا للعالم الفكر الليبرالي على أساس من اليوتوبيا الأخلاقية، لكنها اليوم تعاني من «الليبرالية الجديدة» التي تحولت إلى عكس ما كانت عليه، وجعلت أهم قضاياها الحق في الإجهاض، أو الدعوات للحرية الجسدية، أو غيرها من المسائل التي طغت على المُثل السابقة.
عاش الدكتور كنعان فترة طويلة في الولايات المتحدة وحاضر في جامعاتها الكبرى. وطالما اعتبر أن النموذج الأميركي الأول خليقٌ بأن يُعمم في الدول الأخرى. ويبدو شرحه للدستور الأميركي في هذه الفترة بالذات وكأنه مقارنة لما حدث ويحدث للدستور في لبنان، أو دول العالم الثالث الأخرى.
يظل المؤلف أسير نشأته الأكاديمية وأميناً لأصولها في شرح موضوع سياسي معقد بالنسبة إلى شعوب لا تعطي اهتماماً كثيراً لأحكام القانون وفرائض الأعراف. ويبدي في هذا المجال إعجاباً واضحاً بتجربة باراك أوباما على ما قدمه في سبيل اللحمة الاجتماعية. ويؤيد أيضاً السياسة التي اتبعها أوباما في العالم العربي، ولعلّنا نختلف معه هنا إلى حدٍ بعيد.
منذ أن أدخل إدوارد غيبون «مصطلح»، «تراجع انهيار الإمبراطورية الرومانية، والعالم يضع أمامه معايير الترهل في الإمبراطوريات».
ولعل ما نشهده في واشنطن شيء من هذا القبيل.
«زارنا النبي»؛ عبارة تقال عند عودة الحجاج وهم في زفة اجتماعية قوامها صبية يرقصون وبأيديهم سعف النخيل الأخضر، وصبايا يحملن الدفوف ويغنين للعائدين من الحج والزيارة، مشهد أقرب إلى استقبال النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم دخوله المدينة، وفيها الأغاني ذاتها: «طلع البدر علينا»، ومن هنا تكون عودة من زار النبي ويحمل في طيات ملابسه عبق المكان، فكأنما النبي هو الذي قد زارنا بعد أن زاره نفر من أهلنا.
«النبي يرد الزيارة»؛ قال رجل صوفي من أهل القرية، ونحن نثق ونصدق ما يقول: «هؤلاء يا بني ذهبوا للمدينة لإجراء عملية قلب مفتوح»، هكذا أكمل، وشرح لي ما لم أكن أعرفه، بأن عملية القلب المفتوح هذه حدثت لرسولنا الكريم مرتين: مرة في الاختيار الأول، ومرة في الإسراء والمعراج. تتغير طبيعة القلب لتحمل الوحي في الأولى، ولكي يتأهب لسدرة المنتهى في الثانية، أو هكذا قال. المهم أن الذين عادوا بعد عملية القلب المفتوح أثناء الزيارة، هم من يحملون عبق بردته (صلى الله عليه وسلم)، ويقسم البعض أنه شم رائحة النبوّة، ومن هنا يكون النبي قد زارنا كما زار قبرَه أهلُنا.
وقال: «يا ولدي، زيارة النبي هذه مرة واحدة، وذلك لأنه متى ما زار النبي قلبك فإنه لا يغادره أبداً، ولكن الناس يكررون الزيارة مرات، رغم أن كل ما تحتاجه هي زيارة واحدة، فهو لا يغادر قلبك». كان ذلك مفهوماً جديداً بالنسبة إليَّ؛ ليس في حبه (صلى الله عليه وسلم) ولكن في الحب على إطلاقه، فإن فتحتَ قلبك للمحبوب فهو لن يغادرك أبداً، القلب المفتوح، إلا من أتى الله بقلب سليم.
تستمر الاحتفالات في القرية، ويأتي الناس إلى بيوت الحجاج للسلام والتهنئة بالعودة، وأخذ هداياهم التي هي تحمل رائحة النبي. البعض يكون نصيبه مسبحة، والبعض سجادة صلاة. قال الحاج إنه اشترى المسبحة هذه من مكان معلوم في المدينة، وهي مسبحة مستعملة «فيها شغل»، هكذا قال؛ أي أن هناك من أهل البركة من سبَّحوا عليها من قبل، وفيها من أسرارهم وأسرار أورادهم التي تلقنوها عن شيوخهم الذين لا نعلمهم ولكن الله يعلمهم.
يحكي الحجاج ما شهدت أرواحهم في مكة والمدينة، وينصت القوم بقلوبهم مشدوهين وكأنهم يشاهدون المشهد كله، وهذا ربما كان «السيلفي» الروحي أيامها، فبدلاً من كاميرات حجاج هذا الزمان و«الموبايل» و«السيلفي» الحديث، كان هناك «سيلفي الأرواح»، قصص يرويها الحجاج عند عوتهم في رائحتهم ورائحة الحج، فيها تهدج أصواتهم، شيء أعلى بكثير من «السيلفي الميت» الذي يتصدر «الترند» هذه الأيام، فبينما تُبتذل الصورة الكلية في الفيديوهات القصيرة و«السيلفي» اليوم، كان السرد المباشر يضفي على الحج بهاءً، من خلال وجوه نيرة تحكي تجربتها الروحية.
بعد حالات الوصل هذه، كانت تنهمر الرؤى على أهل القرية، ليقول بعضهم إنه وبعد التسبيح بمسبحة المدينة، رأى النبي في منامه «ومن رآني فقد رآني حقاً»، هكذا يورد بعضهم الحديث بعد رواية منامه. وتبقى القرية أشهراً معدودات في تلك الحالة الروحية، أما الحاج فيدخل في مداخل أخرى تثبت تغير الحال، فما كان يفعله قبل الحج لا يصح أن يفعله بعده، يدخل مدخل الصدق لأنه لو كذب قيل له من المجتمع كله: «كيف تكذب وأنت حاج لبيت الله وزائر لقبر رسوله؟!»، إذن، الحج ينهى عن الفحشاء والمنكر بالضغط الاجتماعي، وبالشهود الذين شاهدوا الحاج يوم الخروج للحج، ويوم العودة.
وتجدد زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى قريتنا كلما زاره أحد من أهلنا، وتجدد العهد أو هكذا كان يرى جماعتنا، أو هكذا ألقي في قلوبهم أو أوحي إليهم، وإن الله بصير بالعباد، أو هكذا قال الشيخ ذو القلب المفتوح.