عبد الرحمن شلقم سنوات ومذكرات
جاء عبد الرحمن شَلْقَمْ من قريةٍ صغيرة في ولاية فزّان تدعى الغُرَيفَة «تصغير غرفة»، تلك القرية كمثل معظم القرى العربية في الأربعينات الماضية، كان موردها الوحيد هو الزراعةُ الصعبةُ والشحيحةُ. من أجل دخول المدرسة الابتدائية كان لا بد من الذِهاب إلى «سبها». وأعقب ذلك الثانوية في طرابلس، ثم الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة القاهرة. أول شيءٍ أراده عندما سمع الأستاذ يلقي الشعر على تلامذته هو أن يصبح شاعراً. وقد كان له ما حلِمَ به بدأ حياته العملية في الصحافة، ثمَّ اتخذ درب الدبلوماسية سفيراً في روما لتسع سنوات، ووزيراً للخارجية لعقد كامل من السنين.
عندما بدأ عهد العقيد معمر القذافي بالانهيار، كان شَلْقَمْ مندوباً للجماهريّة في الأمم المتحدة. وتحول الصراع في ليبيا نفسها إلى مظاهر بشعة من القتل والدمار. بلغت هذه المشاهد ذروتها بالطريقة التي اغتيلَ فيها معمّر القذافي. وكان الأكثر بشاعةً من طريقة الاغتيال «عرض جثمان» الرجل طوال أيام عدّة في كاراج سيئ الشكل، كي يمرَّ به الشامتون.
تفرَّق رجال القذافي كلهم في طريق. منهم من اعتُقل، ومنهم من استطاع الفرار، ومنهم من أُعطي اللجوء لدولٍ أخرى. «شلقم» كان أحد أبرز تلك الأسماء، وكانت له ميزة إضافية عن سائر السياسيين، هي ملكتهُ الأدبية، وقدرتهُ على الكتابة، وأسلوبهُ المباشر والسهل في رواية الأحداث. لذلك؛ كان أبرز من أرّخ للمرحلة التي استمرّت نحو أربعين عاماً. ومنذ ذلك اليوم لم يتوقف عن تدوين الحالة السياسية التي مرّت بها ليبيا تحت عُنوانَيْن لا يُنسيان: الجماهريّة واللجان.
الآن يقدمُ الدكتور شلقم ما يمكن اعتبارهُ الخلاصة الأخيرة لسنوات الضياع. يُعطي سرديتهُ الطابع الرسميّ باعتبارها «مذكرات» وليست مجرد شهادات شخصية. وكالعادة، لا بدّ أن ينقسم الناس حول «سنواتي»، قسمٌ يتمتع بقراءة الرجل مهما كتب، وآخر يعترض أو يناقش. وفي كل الحالات سوف يخرج القارئ من المذكرات راسماً لنفسه لوحةً متشابكةً مرهقةً من الأحداث والتحولات والفوران الاجتماعي والسياسي بقيادة رجل واحد.
تحملُ فصول المذكرات عناوين أحداثٍ تابعناها جميعاً. فقد كانت كلها مثيرةً ومتفجرةً وفي أغلب الأحيان غرائبيةً. وقد اختار العقيد أن يكون مختلفاً عن جميع الزعماء وسائر البشر. واختار لبلده أن يكون متفرداً بين الأمم، فلا هو مملكةٌ ولا جمهوريةٌ ولا إمارةُ ولا دوقيّة وإنما جماهيرية محكومة من الشعب، والشعب هو العقيد.
لا يزال قادة العالم بغالبيتهم يعتقدون أن بمقدورهم محاربة التغير المناخي بأسلحة مزورة، مع أنها كارثة بحجم حرب كونية، وأدواتهم الهزيلة لا تسعف سوى في تضييع الوقت، ولن تؤدي بالتأكيد إلى كسب معركة.
من سوء حظ الجميع، أن الدول الأكثر إضراراً بالكوكب ديمقراطية ورأسمالية، باستثناء الصين التي لوحظ أنها رغم اعتمادها بشكل كبير على الفحم الحجري تنجح بخطى حثيثة في خفض انبعاثاتها، ولو اضطرت أحياناً إلى قطع التيار الكهربائي عن مواطنيها. وهو ما لا تستطيعه دولة ديمقراطية مثل أميركا، هي الثانية في المسؤولية بعد الصين في التسبب بالانبعاثات التي تتحول جهنم تحرق وفيضانات تغرق وتصحّر وجفاف قاتلين.
الصين نفسها تعاني بشدة من تلوث الهواء، ونضوب المياه الجوفية، وتلوث خُمس تربتها، وأن تخصص أكثر من واحد في المائة من ميزانيتها الضخمة أصلاً، هو أقل ما تستطيع فعله لحماية سكانها، والتحدي الأكبر هو أن تحافظ على تصنيع وإنتاجية عاليين وتخفض انبعاثاتها، في وقت واحد. ومع أنها لا تزال متأخرة، إلا أنها تمكنت من أن تصبح البلد الأكثر إنتاجاً للطاقة النظيفة في العالم، ومن بين الأكثر تصديراً لمعدّاتها من بطاريات وألواح شمسية، هذا عدا الهكتارات التي زرعتها شجراً وخضرة.
يبقى أن الغرب يلوّث والدول الفقيرة تكتوي بنيران القيظ، دون أن يتمكن من كبح الاستهلاك، خاصة أنه يعاني أقسى الأزمات الاقتصادية، بعد الوباء وحرب أوكرانيا ولا تملك الدول الديمقراطية ترف الرئيس الصيني تشي جينبينغ أن تأمر مواطنيها فتُطاع. وجلّ ما تستطيعه هو بعض الإجراءات المقبولة، والتركيز على تعزيز حساسية الفرد، ليأخذ المبادرة بنفسه، فيركب دراجة بدلاً من السيارة، ويستبدل كيس النايلون بالقماش، لكن هذا لا يشفي الكوكب.
لم يملك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكثر من إطفاء برج إيفل وواجهات المَحال التجارية لتوفير الطاقة، أما البيوت فمُحال أن يضع شرطياً عند كل مكيف ليلزم مواطنيه بضبط أجهزتهم عند 19درجة مئوية.
الاستغناء عن الوفرة بعد ازدهار، وعن الحرية الفردية، والاستهلاك المفرط، وتغيير نمط العيش في الدول الغربية الملوثة التي تتسبب في خنق البشر، وحرمانهم من أكسجينهم، لن يتم بين ليلة وضحايا، مع أن الوقت لم يعد يتسع لرخاء المدللين. فالعالم يتكلّف سنوياً عدا الأرواح التي تزهق والأمراض التي تتفشى، ما يقترب من تريليوني دولار سنوياً؛ ليتمكن من التكيف مع التغيرات. ثمة معدات تسحب أو يتم تعديلها، مثل أنواع من السيارات والطائرات والأجهزة الإلكترونية، قبل انتهاء فترة خدمتها، وهذا مكلف ويحتاج إلى تصنيع، وبالتالي المزيد من التلويث البيئي. أي أننا ندور أحياناً في حلقة مفرغة، بينما يحذر العلماء من أن الاحتباس الحراري سيستمر أقله حتى 2050، حتى لو انخفضت الانبعاثات، ببطء في السنوات المقبلة. فموجات الحرارة، والجفاف، والأمطار الغزيرة، والفيضانات، ستصبح مزمنة وجزءاً من يومياتنا.
صحيح أن الفرق بين متوسط درجة حرارة الأرض اليوم، وما كانت عليه في العصور الجليدية هو 5 درجات مئوية تقريباً، لكن درجة واحدة أو درجتين كافيتين لإحداث الخلل المروّع، فتحترق الغابات وتجفّ المزروعات وتفيض البحار والأنهار.
كتبت صحيفة «لو تان» السويسرية: إنها «ليست مصادفة أن يتزامن الارتفاع الجامح في درجات الحرارة وظهور أحدث صورة رمزية للاقتصاد الرأسمالي، وهي الليبرالية الجديدة. منذ نهاية القرن التاسع عشر، ارتفع متوسط درجة الحرارة العالمية بما لا يقل عن درجة مئوية حتى عام 1975»، ويكمل المقال: «هل ينبغي أن نستنتج أن أزمة المناخ لا يمكن حلها في إطار الرأسمالية، وأن البديل الاقتصادي سيكون أكثر فاعلية أو حتى التخلي عن النمو؟». ويأمل الناشط الآيرلندي الاشتراكي جون مولينو بثورة وتعبئة ضد ما أسماه «نظام الإبادة البيئية».
والناشطون لا يخشون وحدهم اللامبالاة الغربية في مواجهة الفناء. باسكال لامي، الذي كان المدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية، رمز العولمة التي تحمّل اليوم بجشعها الاستهلاكي مسؤولية استنفاد المصادر الطبيعية، يحثّ على الإسراع في إيجاد حلول جذرية قبل فوات الأوان. فبعد أن ظنت أوروبا أن ما تبثه من سموم يذهب إلى أمكنة بعيدة، ها هي مناطقها الجنوبية تتحول إلى لهب، وحتى سويسرا تتزايد فيها حالات الجفاف وموجات الحرارة والأمطار الغزيرة، وبدأت تتحضّر جدياً لحرائق كبيرة في غاباتها الخلاّبة.
صندوق النقد الدولي ليس هيئة اشتراكية، لكنه يحذّر من أن 60 في المائة من سكان العالم باتوا يعيشون في بلدان معرّضة لعواقب تغير المناخ، وهو رقم من المتوقع أن يرتفع إلى 75 في المائة بحلول نهاية القرن الحالي. وإذ تبدو الإنذارات فضفاضة، فما يحدث على الأرض يؤكد أن الوقائع أكبر من التحذيرات والشرّ يتعاظم، ونصيب الفرد من الإنتاج ينخفض بسبب الكوارث، كما أن الخشية من الاضطرابات السياسية تصبح احتماليتها أكبر حتى في الدول المستقرة، حين تحلّ الكوارث الطبيعية الكبرى، وتعجز الحكومات عن معالجة نتائجها المتراكمة، بالفاعلية الكافية.
هل تدّق كارثة التغير المناخي إسفيناً جديداً في سفينة الليبرالية وعولمتها ويصبح فرض الحلول من علٍ، على حساب الحريات، هو الحل الوحيد الممكن؟ هذا ما يتساءل عنه كثيرون. وهو لا يأتي من فراغ. فعلى مدى أكثر من عشرين عاماً، نشر الباحثون في جامعة ييل مؤشر الأداء البيئي الذي يصنّف 178 بلداً، تبعاً للحرية الاقتصادية فيها، ليتبين أنه كلما طغت الرأسمالية، وزادت الحرية الاقتصادية ارتفع مؤشر التلوث.
وهذا ما يستدعي إعادة النظر في الأنظمة الاقتصادية ككل، وليس الاكتفاء ببعض الحملات الخضراء الفولكلورية والترقيعات الهشة.