عندما نُشرت سلسلة «ثلاث لبنانيات من مصر» كان في نيّتي أن ألحقها سريعاً بمسلسلة مشابهة تحت عنوان «ثلاث سوريات من مصر»، تعرقلت الفكرة عند الرقم ثلاثة. بالنسبة إلى اللبنانيات المصريات كان العدد وافراً، ويمكن الاختيار منه بسهولة، خصوصاً وأنّه يشمل الأدب والفن، من غناء وطرب. وكانت نجمة السلسلة بالتأكيد الكاتبة مي زيادة التي شغلت مصر بصالونها الأدبي الذي استقبلت فيه كبار المفكرين والشعراء وعمالقة النهضة جميعهم تقريباً، مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، ووليّ الدين يكن ومصطفى صادق الرافعي. والثلاثة الأخيرون هاموا بصاحبة المجلس كما هام بها كثيرون سواهم. عندما فكرتُ بالأثر السوري، أو الشامي، بالمقارنة مع شخصية مثل «الآنسة مي» وجدتُ ذلك صعباً لم يكن يكفي العثور على شخصية فائقة أو ذات شهرة، بل كان لا بدّ كذلك من سردية مثيرة. وكنتُ أصرفُ النظر عن البحث لأنني ألزمتُ نفسي بالرقم الثلاثة. الصعوبة كانت في الرقم الثالث.
عندما حاولتُ البحث مرة أخرى في تاريخ «الشوام» في مصر كان هناك الكثير من الرجال، ثمّ تنبّهتُ خلال البحث أن ثمة سيّدة من سوريا تفوق قصة حياتها القصيرة جميع ما حوت قصص كل النساء، شاميات أم مواطنات.
كلّما قرأ المرء في تاريخ آمال الأطرش التي سوف تُعرف باسمها الفنيّ أسمهان، شعر أنه ليس أمام حكاية أو قصّة أو رواية وإنّما أمام ملحمة حقيقية مليئة بالأحداث السياسية والاكتشافات الفنية والغموض المثير. كلّ شيء فيها كان غامضاً وبعيداً عن المألوف منذ لحظة ولادتها على سفينةٍ مبحرة من تركيا إلى بيروت، بينما كانت عائلتها تهرب من تركيا حيث كان والدها فهد الأطرش يتولى منصباً دبلوماسياً. حتىّ أنّ أمها فكرت في أن تطلق عليها اسم «بحرية».
لكنها عدلت عن ذلك بسبب اعتراض العائلة. أطلّت آمال الأطرش على الحياة بينما كانت الإمبراطورية العثمانية في المراحل الأخيرة من الغروب وكانت المنطقة برمتها تعيش في حالة من المخاوف والاضطراب لا أحد يدري إلى أين المصير ومن هي القوى العسكرية المستقبلية. وسوف تكون المولودة الجديدة المولودة بحراً، خارج برّ الأمان. ليس كامرأة عادية ولكن كأميرة من أميرات جبل العرب أو جبل الدروز، وكمغنيّة تصعق العالم العربي بحيث قالت إحدى الخرافات من الروايات الكثيرة التي حًكيت عن موتها، إنّ أم كلثوم هي التي دبّرت مسألة غرقها في الترعة الأخيرة.
ثلاث سوريات من مصر: الهويتان (2)
عاشت أسمهان في هويّتين: الهوية الدرزية وولائها الكلّيّ للجبل، والهوية المصرية وحياة الشهرة والثراء والبذخ، وأيضاً الولاء الكلّيّ. هنا أميرة بلا مال، وهناك مغنية ثرية وممثّلة سينمائية تدرّ المال، بما يمكّنها من ممارسة الكرم المشهود حيثما حلّت. وكانت كثيرة السفر، لها في كل مدينة معجبون ومهلّلون، يوماً يحملها القطار إلى بيروت ويوماً إلى القدس وأياماً إلى الإسكندرية، إضافةً إلى الفترات المتقطعة التي عاشتها في دمشق زوجةً للأمير حسن الأطرش، الرجل الكريم هو أيضاً الذي تزوّجت منه أسمهان مرتين في حياة التنقّل والترحّل، في مزاج من الحيرة والطموح وعدم الاستقرار.
كان هذا النوع من العيش غريباً على المجتمع العربي بصورة عامة، وعلى العشيرة الدرزية بصورة خاصة. فالدروز، أو الموحدون، قومٌ شديدو المحافظة. والقاهرة رغم انفتاحها آنذاك، كانت لا تزال تَحْذَر المرأة السافرة أو العاملة في الفن أو حتّى الموظفة في عمل عاديّ. لذلك سَرَت الإشاعات من حول أسمهان في كلّ مكان، ومنها التعامل مع «الإنجليز»، غير أنّ الحقيقة التي أجمع عليها العارفون أنّها كانت «مأخوذة» بقضية الدروز وحال العرب، وفي عواطفها ومشاعرها كانت تنتمي إلى أهل الجبل وثورتهم، وتفعل في هذا السبيل كلّ ما تستطيع.
كان طبيعياً أن يلمع نجم أسمهان في سماء القاهرة والعرب. ولم يكن يقاسمها هذا البريق سوى أم كلثوم، طبعاً مع الأولوية لمطربة مصر وكوكب الشرق. وبينما جاءت أم كلثوم من وسط فقير وعائلة بسيطة، ما لبثت أن خرجت من تحت مظلّتها، فإنّ الأميرة جاءت من وسط ميسور أصابه الفقر. وبينما أبدعت كوكب الشرق في التعامل مع الجماهير، كانت الأميرة الشابة تكره التجمّعات ويقال إنها كانت تُرهبها أيضاً. ولم يكن غريباً في قاهرة الثلاثينات أن تلتقي أسمهان مع أم كلثوم أو العكس. وكانت ذروة تلك اللقاءات عندما لحّن محمد القصبجي، العازف في فرقة «الست»، للمطربة الشامية. ولم تُسمَّ كذلك فقط لأنها من بلاد الشام، بل لأنّها كانت على خدها «شامة» ميّزت الجمال الخارق وأعطت المزيد من الجاذبية للعينين الزرقاوين. غير أن أسمهان لم تبقَ طويلاً في كنف القصبجي وأخذت تغني من ألحان شاب سوري آخر هو شقيقها فريد الأطرش.
كان هناك شقيق آخر هو فؤاد، الأكبر في العائلة. وكان من كبير معارضي دخول أسمهان عالم الغناء والليل، مع أنه سوف يكون وريثها المالي فيما بعد، وحتى بعد وفاتها كان يُصرّ على الحديث عنها كونها الأميرة آمال الأطرش. غنيٌّ عن القول: إن ذلك يذكّر بأنّه أمير هو أيضاً. وكان فريد يحرص دائماً على التصرّف «كأمير». وقد افتتح في أواخر أيامه نادياً في بيروت رُويت عنه الحكايات، ومنها أنّه عندما كان يربح أو يخسر في الميسر، كان يصرّ على أن يفعل ذلك «كأمير».
ثلاث سوريات من مصر: التابعي في الظل (3)
كانت أسمهان شديدة الاندفاع وكثيرة الحذر في الوقت نفسه. وقد حذرت بصورة خاصة الصحافة، مقتنعة في داخلها بأن للصحافة المصرية موقفاً كاملاً من «الشوام». غير أن ألمع صحافيي وكتّاب ذلك الوقت وقف إلى جانبها في حياتها وفي غيابها. لعب محمد التابعي دوراً مهماً في حياة أسمهان الشخصية، وفي كتابة سيرتها، والإضاءة على فصول غير معروفة من حياتها. مع أنه ظل غامضاً هو أيضاً. فقد أوحى بأن ثمة علاقة حميمة جمعته بالنجمة الطاغية، لكنه اكتفى بالتلميحات وإيماءاته الذكية. وفي الوقت نفسه كان لديه نوع من الحرص على أسمهان، والخوف عليها، إذ كان يشهد عن قرب تهورها في التعامل مع الناس وعدم اهتمامها بما يُقال أو يُشاع. غير أن ما كتبه في حياتها، ولفترة طويلة بعد وفاتها، يظل أحد المراجع المهمة في تدوين سيرتها وسيرة مصر في تلك الحقبة الجميلة. وبلغ به الأمر ذات مرة أن كتب وصفاً دقيقاً لها، وقال: «كان أنفها مدبباً قليلاً، وفمها واسعاً، وذقنها بارزة بعض الشيء، وكلها ملامح غير محببة، أما عيناها؟ كانت عيناها كل شيء. كان فيهما سحر وأسرار، وكانتا خضراوين تشوبهما زرقة».
صحيح أن التابعي كان في بداياته ناقداً فنياً في مجلة روز اليوسف، غير أن اسمه رفع من شأن النقد والفن على السواء. وما لبث أن أصبح صحافي الشؤون الملكية، يسافر حيث يكون الملك فاروق، وكان واحداً من تلك الكوكبة ادّعى أن أسمهان كانت سطحية لا اهتمام لها في شؤون الثقافة والقراءة. وإنها كانت تؤمن بالخرافات. غير أنه يقرّ بأنها كانت بالغة الحساسية رقيقة الشعور، تبكي لرؤية الغروب أو سماع الأغاني. ولا شك أنه ساهم أيضاً في صناعة شهرتها بالكتابة عنها وعن رحلاتها إلى سويسرا، ولبنان، أو القدس. ولم يخف غيرته عليها إذ كان يوحي بأنه يعترض على مبالغاتها ويذكّرها دائماً بالمجتمع المحافظ الذي جاءت منه. بل حتى بالمجتمع المصري الذي لمعت فيه، فهو أيضاً كان لا يزال شديد المحافظة. في هذه المرحلة ربطت الإشاعات بين اسمها ورئيس الديوان الملكي حسنين باشا. وقيل إن ذلك أثار غضب الملكة نازلي، ويبدو أنها لم تمانع بإشاعات على هذا المستوى فهي جزء من مرتبتها الفنية والاجتماعية على السواء.
طوال كل هذا الوقت كان شقيقها الأكبر فؤاد يحاول استعادتها من الوسط الذي صارت جزءاً منه، وجزءاً منها. وتروي شريفة زهور في كتابها «أسرار أسمهان» (دار المدى) أنها أصبحت تقضي الليالي خارج المنزل برغم تهديده لها وضربها. ولم يذكر فؤاد أنه أساء معاملة أخته، لكنه قال إنه فعل ذلك بتحريض من التابعي وخالد محسن باشا، وبعض أصدقاء الأسرة الآخرين. وبدل أن تستجيب، قامت بعمل غير مسبوق وهو الانتقال إلى شقة خاصة.
لم يعد من الممكن مراقبة أسمهان في نشاطها السياسي، ولم تترك شكاً بولاءاتها الوطنية وإخلاصها لمعارك أهل الجبل. وعلى شرفة فندق كونتيننتال، حيث يكثر المخبرون، كانت تقابل من تشاء وتتحدث بصوت عالٍ وحماس عن حقوق أهل الجبل وكرامتهم العالية التي يجب ألَّا تمس. وذلك يعني أن تعادي الفرنسيين الذين أقام عليهم سلطان باشا الأطرش الثورة الدائمة.
ثلاث سوريات من مصر: على جواد إلى القدس ( 4)
كانت أسمهان، في ما كانت من شخصيتها المذهلة، فارسة من طراز أول. وكانت ترافق زوجها حسن في رحلات الصيد الصعبة على ظهر جوادها. وسوف تراها على جوادها مرة أخرى عندما تهرب ليلاً من فندق «أمية» في دمشق إلى القدس يرافقها الأمير فاعور الفاعور، كما روى الصحافي فوميل لبيب، يبدو عن عيني أسمهان «كانتا كل شيء» كما وصفهما التابعي. كتب سبيرز «كانت وستبقى دائماً، إحدى أجمل النساء اللواتي رأيتهن في حياتي. كانت عيناها هائلتين، خضراوين مثل لون البحر الذي عليك أن تمخره في طريقك إلى الجنّة. وكانت كريمة تنفق المال مثل المطر».
ذات مرة ذهبت إلى زيارة المفوض الفرنسي الجنرال كاترو في مقره ترتدي ثوباً وحجاباً على الطريقة المصرية. وأعطت كل جندي أدّى لها التحية مائة ليرة وكانت تعادل ثروة. كانت باذخة في كل شيء. عاشت سريعة وماتت سريعاً. كان أحد العرافين قد تنبأ لها بالموت غرقاً. وذلك اليوم كانت ذاهبة مع صديقتها ماري قلادة إلى رأس البر، رمى السائق نفسه من السيارة وتركها تندفع إلى المياه. قال فيما بعد إنه لم يستطع التحكم في المقود. وقيل إنه أحكم إغلاق الباب بعد خروجه لكي لا تستطيع أسمهان النجاة. ولم تعد الروايات تتوقف.
خلال 37 عاماً تحولت الأميرة القادمة من جبل الدروز أسطورة في الغناء والتمثيل والسياسة. شغلت مصر وشغلت العالم العربي، وشغلت بريطانيا وفرنسا وألمانيا. عاشت كمغنية وتصرفت كأميرة… جنت الكثير من المال وصرفت أكثر منه بكثير. ضبطت خادمتها تجرّب أحد فساتينها فأعطتها إياه.
على صعيد الغناء، غنت أجمل الأغاني وهددت عرش أم كلثوم، وسحرت الشامية الصغيرة مصر، ولا تزال أغانيها من أروع وأجمل ما طرب له العرب. والذين كتبوا ولحّنوا لها، كتبوا ولحنوا لأم كلثوم: أحمد رامي ورياض السنباطي ومحمد القصبجي.
من أكثر المناطق العربية محافظةً، طلع اثنان من أشهر أصوات الشرق: فريد الأطرش، الذي لم يتخذ لنفسه اسماً فنياً، وشقيقته أمل، التي صارت «أسمهان»، الاسم الفارسي. وكان العراف الذي تنبأ لأسمهان بالغرق، تنبأ لفريد بمرض طويل، فظل يعاني من مرض القلب حتى وفاته. كما تنبأ لفؤاد بأنه لن يتزوج، ومات عازباً أوائل التسعين من العمر.
ثم أسمهان التي في خوف الله، والتي قيل إن أحداً سواها لم يعطِ مثلها معاني الابتهال عندما أنشدت: عليك صلاة الله وسلامه/ شفاعة يا جد الحسنين/ ده محملك رجعت أيامه/ هنية واتمليت للعين/ كرامة لله يا قاصد مكة ونيتك بالكعبة تطوف/ تبوسلي فيها تراب السكة أمانة من مؤمن ملهوف.
«خلي بالك من زوزو»” 5″
غريبة أوجه الشبه بين الأميرة من جبال سورية. وبين السورية التي ولدت في حي «الفوالة»، القاهرة، خصوصاً وعلى النحو التراجيدي الإغريقي، في غموض النهايتين: واحدة سقطت في الماء، وقيل إنها أُسقِطت، وواحدة سقطت من الدور السابع في أحد مباني لندن، وقيل أيضاً أُسقِطت. الأولى لأسباب لها علاقة بالمخابرات، والثانية أيضاً. أسمهان في عز نجاحها وألقها وشبابها، وسعاد حسني، وقد جفف العمر نضارتها وزادت في سمنتها سموم «الكورتيزون» والأدوية بحيث لم يعد أحد يتعرف إلى «السندريلا».
روى ساخر مصر الكبير ومحزونها محمود السعدني أنه كان متوجهاً إلى عيادة طبية في «هارلي ستريت» عندما التقى سعاد في الشارع، فدعاها أن ترافقه. كان الطبيب مصرياً. ولم ينتبه السعدني إلى تقديم سعاد، فقررت أن تغادر. عندها قال الطبيب بكل براءة: «الست ليه عاوزة تروّح»؟ وانفجرت الست بالبكاء. لم يعد أحد يتعرف إلى هذه الفاتنة التي مثلت 85 فيلماً بينها «خللي بالك من زوزو» الذي حطم أرقام شبابيك التذاكر.
عاشت سعاد حسني البابا، ابنة الخطاط السوري الشهير محمد حسني البابا، زمناً طويلاً تبهر طوابير مشاهدي السينما في مصر والعالم العربي. كانت تريد أن تكون مغنية، مثل شقيقتها نجاة الصغيرة، لكن نداء الشاشة غلب عليها، ولم تكن الخيارات عديدة أمامها. فالأب الناجح في الخطوط كان مهملاً في الأبوة. ملهيا بالنساء. ووجدت الصبية واسعة العينين أنها لا تجيد القراءة والكتابة، ولكن قدر لها النجم إبراهيم سعفان يعلمها نطق الحروف. وكان الجو من حولها مليئاً بالعاملين في الفن، وشقيقها عازف كمان في فرقة أم كلثوم. وسوف تعمل هي مع 37 مخرجاً، وتعقد خمس زيجات، أكثرها من فنانين، دام أحدها 10 أيام. وكان الزواج الأشهر من عبد الحليم حافظ، وقيل إنه دام ست سنوات، غير أن عائلة العندليب أصرت على أن الزواج لم يتم.
غنت السندريلا الصبية «أنا سعاد أخت القمر/ بسبب حسني بالبلاد اشتهر». لكن ها هو السعدني يكتب عن لقاء هارلي ستريت: «مليئة بالهم والغم وسوء الحال»، و«الكركورة»، و«صارت بدينة»، و«مصادر الناس في يد القدر وخطواتهم على جناح غراب».
كتب «العبد لله» هذا الرثاء المسبق دون أن يعرف عن الخاتمة المرعبة، وسواء كانت انتحاراً، أو لم تكن، فقد كانت أشبه بنهاية مفجعة من النوع الذي يتجنبه المخرجون عادة. المشاهد بفضل النهايات السعيدة، والناس تعودت على صورة السندريلا تضحك وترقص وتغزل عينيها الواسعتين وتغني «أنا أخت القمر».
كان غيابها الحزين مثار إشاعات ومشاحنات ورخائص كثيرة. الأقربون أكثر من الأبعدين.
ثلاث سوريات من مصر: الثالثة لم تحضر”6 “
ترافق الشاشة حياة المشاهير وكأنها امتداد لروايات الشاشة. ويتحول السرد الواقعي أحياناً إلى سيناريو يتعدى رغبة المخرجين وطموحهم. وفي المقارنة بين حياة أسمهان وحياة سعاد حسني، نرى التراجيديا دائماً في أقصاها: أقصى الشهرة والثروة، وأقصى البؤس والعوز. ومثلما كانت أسمهان طائية الكرم، هكذا كانت السندريلا. النهايتان كانتا فقراً وأسى.
الجميلتان أفسدت عمرهما السياسة. الأولى أوصلت الغناء إلى ذروته منذ بداياتها، والثانية عرف فيلمها «خلي بالك من زوزو» نجاحاً لم يعرفه أي فيلم آخر في تاريخ السينما المصرية. وكما تدخّل أهل أسمهان في شؤونها حيّة وميّتة، هكذا فعل أهل الشامية الأخرى. كلٌّ في عصرها وزمنها. واحدة في مصر الملكية، وواحدة في مصر الثورة، قدران متشابهان في تضاد الخطوط. قمران في غيوم ملبّدة، أولاً وأخيراً.
تنقلت سعاد حسني بين منزل والدها اللاهي، ومنزل أمها، ثماني مرات. وضاعت عليها المدرسة، ثم تحكّم بها المرض، وضاع عليها كل شيء.
ولكن من هي السورية الثالثة في هذه السلسلة؟ سامحونا. فمن أين آتي بنجمة ثالثة لها كل هذا الألق وهذه الأحداث وهذه الخواتم؟ السوريات الأخريات عشن حياة عادية مثل جميع النساء. أحببن وتزوّجن وغنّين ونجحن، وبدايات صعبة. ودخلت فايزة أحمد تاريخ الأغنية على أنها المطربة التي غنّت للأم «ست الحبايب»، حصتها من النجومية. وتألقت نجاة الصغيرة في الغناء وشعر نزار قباني، لكنها ظلت في أذهان الناس مجرد شقيقة سعاد حسني. كان لقب «الشوام» يطلق على السوريين واللبنانيين معاً. لكن عدد اللبنانيين العاملين في الفن والصحافة أكبر بكثير؛ لأن لبنان بلد هجرة، كما كان آنذاك بلد قلّة أيضاً.
الغريب في ظاهرة الشوام في مصر غياب الفلسطينيين عن تلك الحقول. قبل النكبة وبعدها.
هل كان السبب انشغال فلسطين بحالتها النضالية، أيضاً قبل النكبة وبعدها؟ لعل ذلك يفسر أن كبار المناضلين خرجوا من مصر. وفي طليعتهم ياسر عرفات، الذي ظل يتحدث باللهجة المصرية حتى اليوم الأخير.