تورونتو مدينة فيها 62 مهرجان سينما سنوياً ومعهداً دائم العمل على مدار السنة وجمعيات نقدية وسينمائية كثيرة. أبرز هذه المهرجانات وأكبرها هو «مهرجان تورونتو الدولي» الذي تم تدشينه سنة 1978 منضمّاً إلى النخبة من مهرجانات العالم الرئيسية بدءاً من مطلع التسعينات عندما ازداد نجاحه وتوسعت مصادره من الأفلام المحلية والعالمية.
من سنة بدايته حتى مطلع التسعينات كانت التسمية الممنوحة له هي «مهرجان المهرجانات»، لأن برمجته كانت تعتمد على نحو شبه كلي على ما تعرضه المهرجانات الأخرى من أفلام. بعد ذلك تم نفي تلك التسمية ليكتسب موقعه المميّز حيث تؤمَّه اليوم أفلام لم تُعرض في أي مكان سابق. ما لم يتغيّر هو عدم رغبة القائمين عليه في اختيار لجان تحكيم فعلية ومنح جوائز رسمية باستثناء قسم مخصص تحت عنوان «بلاتفورم برايز». إلى جانب استفتاء جماهيري لانتخاب أفضل فيلم من بين ما تم عرضه، وهو ما يزيده اختلافاً عن سواه ويحرر المشتركين فيه من حمى التنافس.
من ناحية أخرى، تكمن أهمية إضافية للمهرجان من خلال حقيقة أنه البوابة المثلى للسوق الأميركية، شأنه في ذلك شأن مهرجان «صندانس» الأميركي مع فارق أن «صندانس» يختص أكثر بالتجارب الجديدة والسينما المستقلة. لهذا السبب يضمن المهرجان الكندي وفوداً من صانعي الأفلام تأمل في أن تنجز اتفاقات وصفقات على هامش تلك العروض.
– باقة سعودية
جديد المهرجان هذا العام ليست مئات الأفلام، كما هو الحال دائماً، بل استقباله 13 فيلماً لمخرجين عرب. أربعة من هؤلاء يعيشون في فرنسا وبريطانيا ويتم إنتاج أفلامهم فيهما، لكنّ الغالبية آتيةٌ من السعودية وتونس والأردن والمغرب.
تتقدم الباقة العربية ثلاثة أفلام سعودية تبعاً للنهضة الكبيرة التي تعيشها السينما السعودية، صناعةً وإنتاجاً وعروضاً، اليوم.
ثلاثة أفلام لثلاثة شبان تتوزع بين قسمي «اكتشاف» و«مدنايت مادنس» وهي «مندوب الليل» لعلي الكلثمي، و«ناقة» لمشعل الجاسر، و«هجّان» للمصري أبو بكر شوقي، الذي أنجز سابقاً فيلمه الأول «يوم الدين»، 2018، وعرضه في مهرجان «كان». هناك طرف إنتاجي مصري – أردني أيضاً لهذا الفيلم، لكنّ الغالب أنه بتمويل سعودي كونه يدور في باديتها مع ممثلين سعوديين وموضوع يتحدث عن رحلة شقيقين في الصحراء أحدهما ينوي الاشتراك في سباق الجِمال المقبل.
أما «ناقة»، المعروض في قسم «مدنايت مادنس»، فيتّجه صوب خيارات أخرى. تقع الأحداث التي كتبها المخرج مشعل الجاسر في السبعينات. بطلة الفيلم (عدوة بدر) شابّة جميلة لديها موعد خفيّ مع صديق يأخذها معه إلى حفلة في منطقة صحراوية بعيدة. لكن الشابّة تريد العودة إلى بيتها قبل أن ينتبه والدها لتأخرها. تكتشف خداع صديقها وتنطلق للبحث عن طريق للعودة وسط صحراء مفزعة ومتاعب من كل نوع محتمل.
الفيلم السعودي الثالث «مندوب الليل» هو للمخرج الجديد علي الكلثمي ويدور حول سقوط الشاب فهد (محمد الدوخي) في دوّامة من صنعه والاختيارات الخطأ التي يُقدم عليها. يعمل ليل نهار ليعول والده ثم يُطرد من عمله فيحاول بيع زجاجات خمر سرقها من تاجر يصنعها محلياً بلا ترخيص. توابع ذلك كثيرة في فيلم اجتماعي من نوع الكوميديا السوداء.
– حدث في طبريا
هناك بعض الأفلام التي تدور حول مواضيع فلسطينية حتى وإن لم تكن من إنتاج فلسطيني (يسارع المخرجون عادةً إلى وضع أسماء بلادهم جنباً إلى جنب أسماء الدول الغربية حتى وإن كان التمويل غربياً على نحو مطلق). أولها «المعلم» للمخرجة فرح نابلسي. بريطانية المولد من أبوين فلسطينيين. تتشابك الأحداث هنا لكثرتها: المعلم بسّام (صالح بكري) يفقد ابنه ثم زوجته في حادثة. بريطاني يعمل في الخدمات الإنسانية (إموغن بوتس) يتدخل للمساعدة بعدما تم هدم منزل عائلة شقيقين. ثم دبلوماسي أميركي وزوجته يناشدان مجموعة فلسطينية خطفت ابنهما لإطلاق سراحه، لكن المجموعة تطالب بإطلاق سراح 1000 سجين فلسطيني في المقابل.
على نحو مختلف تقدم المخرجة الفلسطينية – الفرنسية لينا سويلم دراما من بطولتها، والممثلة هيام عبّاس بعنوان «وداعاً طبريا». يقدم الفيلم حكاية أُم (عبّاس) التي تعود مع ابنتها (سويلم) إلى فلسطين لتغمرها الذكريات حول شتات النكبة وما تلاها.
«وداعاً طبريا» من تمويل فرنسي، وهذا حال فيلمين آخرين هما «سيسترهود Sisterhood» حول ثلاث شابات تَصادقن منذ الصغر لكنّ أحداثاً أخيرة تفتح أعينهن على خلافات عرقية وطبقية وثقافية. الفيلم من إخراج المغربية نورا الحروش.
الفيلم الآخر هو «بَعد النار After the Fire» لمهدي فكري، ويتمحور حول عائلة فقدت ابنها الذي قتلته الشرطة الفرنسية في ضواحي ستراسبورغ.
– أوكرانيا عربياً
الفيلم العربي الذي كان له أكبر صدى منذ بداية العام حتى الآن هو جديد التونسية كوثر بن هنية «أربع بنات» الذي انتزع جائزة قيّمة من مهرجان «كان» في ربيع هذه السنة. هو مزج ما بين الدراما والتسجيل. بذلك جمع بين تناقضات مقصودة. يدور الفيلم حول أُم لأربعة بنات اسمها ألفة (هندي صبري) تبحث عن ابنتين من بناتها قررتا الانضمام إلى جماعة متطرّفة. ترغب الأم في استعادتهما من مصير مظلم وإعادتهما إلى حظيرة العائلة. ما يزيد الفيلم غرابة هو أسلوب الانتقال ما بين ممثلي الفيلم المحترفين وممثليه الحقيقيين. كأن غاية المخرجة سرد الحكاية ثم تأكيدها عوض أن تكتفي بالسرد وحده. يلفت هذا الأسلوب الاهتمام بالفعل لكن جدواه أمر آخر.
فيلمان آخران من عروض «كان» هذه السنة يُعرضان في تورونتو أولهما «طبيعة الحب» للمصرية – الكندية منية شكري، وهو دراما عاطفية بعيدة تماماً عن أي همٍّ أو موضوع عربي. والآخر هو «أُم كل الأكاذيب» للمغربية أسماء المدير. جدير بالذكر أن هذا الفيلم خرج من المهرجان الفرنسي بجائزة أفضل مخرج عن قسم «نظرة ما».
كذلك يتوغل المصري كريم عامر في الحرب الأوكرانية عبر فيلم «متحدي Defiant». في هذا الفيلم التسجيلي (بريطاني – أوكراني – أميركي) يقابل المخرج وزير الخارجية الأوكراني ديمترو كوليبا، الذي يعرض وآخرون مسارات الحرب القائمة والقضية الوطنية التي تأبى التنازل. لا يخفى أن الفيلم يؤازر أوكرانيا ضد روسيا منضماً إلى عدد متزايد من الأفلام التسجيلية والروائية في هذا الصدد.
بالعودة إلى العالم العربي، يعرض المهرجان «إنشالله ولد». فيلم جيد آخر من الأردن حققه أمجد الرشيد حول امرأة مات زوجها العاطل عن العمل. بما أنها لم تنجب ذكراً (بل فتاة) فإن من حق أقارب الزوج امتلاك المنزل الذي تعيش فيه. دراما ذكية ولو أنها تتعامل، فنياً، مع أبسط أدوات التعبير.
– نادين لبكي عضو لجنة التحكيم
• كانت المخرجة اللبنانية نادين لبكي قد فازت بجائزة الجمهور في مهرجان تورونتو سنة 2011 عندما قدّمت فيلمها «وهلأ لوين».
• في عام 2018 فازت بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» عن فيلمها الأخير حتى الآن وهو «كفرناحوم».
• ظهرت في نحو 19 فيلماً كممثلة آخرها «1982» لوليد مؤنس و«كوستا براڤا، لبنان» لمنية عقل (2021) و«أصحاب ولا أعز» لوسام سمايرة.
• تقيّم اللجنة ثلاثية الأفراد عشرة أعمال من أفلام تورونتو بينها فيلم نورا الحورش «سيسترهود».
• لدى نادين لبكي مشروع فيلم جديد لا يزال في طور التطوير عنوانه «غير المرئيين».
• كوّنت نادين لبكي لنفسها اسماً عالمياً منذ أن قدّمت أول أفلامها «كرامل» سنة 2007. نادين لبكي عضو لجنة التحكيم
– Perfect Days
– (****)
– إخراج: ڤيم ڤندرز | اليابان | 2023
في أفلام سابقة، بينها «أجنحة الرغبة» (1987) و«حتى نهاية العالم» (1991) وبينهما «باريس، تكساس» (1984)، منح المخرج الألماني ڤيم ڤندرز مشاهديه أبطالاً يعكسون الإرادة التي قد تنكسر تحت عبء الظروف العاطفية أو الحياتية المختلفة.
في فيلمه الجديد «أيام تامّة» يتطرق إلى تلك الإرادة على نحو مختلف. بطله هيراياما (كوجي ياكوشو) حوّل المتاعب قبولاً والقبول متعة. هو منظّف مراحيض عامّة يجول بسيارته كل صباح ليبدأ عمله في أكثر من مكان ويعود مع نهاية النهار لما قد ينتظره ليلاً من روتين آخر. لا يشكو العمل ولا الظروف ولا يعكس ضجراً. هو راضٍ وسعيد حتى وإن لم يكن بداخله أي حب لما يقوم به. هو بذلك واقعي يستعين بالغناء من نجوم السبعينات (أمثال أوتيس ردينغ، لو ريد، ذَ كينكس (Kinks)، باتي سميث وسواهم.
كلما صعد سيارته وضع شريطاً واستمع وغنى. لن يؤثر عليه سلباً نوع عمله ولا وضعه الاجتماعي الذي يبدو كما لو أنه لن يتغيّر. بذلك هناك تلك الصورة الإنسانية المختلفة. يقدّمه لك لكي تدرك أن الحياة قد تكون جميلة حتى وإن كان المرء في قاعها. ليست جميلة بذاتها، بل بذات ذلك الشخص الذي ينجح في تحويل عمله جزءاً من الحياة وليس كل الحياة.
الفيلم بسيط في تكوينه (على عادة معظم أفلام المخرج)، يتحلّى بإيقاع سريع مواظب، وعلى الرغم من أن أيام بطله متشابهة، فإن المخرج يفلت تماماً مما قد يسببه تكرار الحدث من ملل وعزوف. بساطة التكوين تشبه بساطة تكوين المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو على اختلاف إيقاعها دون أن يغيب عن البال أن ڤندرز حقق قبل نحو 40 سنة فيلماً تسجيلياً عن أوزو (عنوانه Tokyo- Ga).
لكن هذه البساطة ليست كناية عن بساطة شغل على الكاميرا والممثل والتوليف. كل واحد من هذه العناصر هو تنفيذ صعب بحد ذاته. يوميات المنظف تشهد تفاصيل كثيرة تتلقفها العين من دون أن تعي أنها سبيل المخرج لجمع عاطفي جيد بين المُشاهد وبطله. هناك قوّة عاطفية نبيلة وسهلة وممتنعة ومخادعة. ومن حسن التنفيذ أن المخرج، كما بطله، لا يحاول استغلال المناسبة للإضحاك من أو على أي شيء. ليس هناك أي هزء أو سخرية ولا استدرار رخيص للعواطف.هناك لحظات حزن تتبلور في المشهد الأخير. يقود هيراياما سيارته ككل صباح على أنغام أغنية نينا سايمون الآسرة Feeling Good التي تنشد كلماتها الأمل. الكاميرا على وجهه الذي يحمل تلك السعادة الذاتية، لكنها الآن مجبولة بحزن داخلي وألم.
– عروض مهرجان تورونتو Tár
– (**)
– إخراج: تود فيلد
– الولايات المتحدة | 2022
لم ينجز «تار» خلال عروضه السينمائية التي تأجلت في الولايات المتحدة إلى حين قريب (بعدما خاض غمار موسم الجوائز هذا العام) أي نجاح تجاري يُذكر. هذا ليس مدعاة للغرابة؛ كون الموضوع شائكاً ولا يحمل عنصر جذب إلا لفئة محدودة من الجمهور، و- ثانياً – لأن مخرجه تود فيلد ليس اسماً مطروحاً على نطاق فاعل. كذلك لدى الجمهور السائد حاسة سادسة حيال مشاهدة فيلم لن يعني غالبيّته شيئاً يُذكر حتى ولو كان من بطولة كيت بلانشيت.
نقدياً، هو واحد من تلك الأفلام التي أحبّها نقاد الغرب أكثر مما تستحق. مشكلته هي أن سرده مثل طريق غير معبّدة يسير الفيلم فوقها فيرتفع هنا وينخفض هناك. العنصر الوحيد الذي يتقدّم من مطلع الفيلم حتى نهايته على سياق متوحد هو ذاك الذي توفّره بلانشيت، لكن مرّة أخرى، الفيلم الذي ينجح بسبب عنصر واحد لا يمكن أن يُنظر إليه كعمل متكامل.
ليديا تار (بلانشييت) هي قائدة أوركسترا ناجحة وذات مكانة مرموقة في مهنتها. لكن لديها مشكلة واحدة هي أنها وتترك لشغفها العاطفي التدخل في حرفتها. وهناك الكثير من المشاهد التي تعكس ذلك بما فيها تلك التي تعكس كذلك كرهها بعض من عاشرتهن سابقاً. لحظات الاضطراب النفسي والعاطفي مخفية تحت تمكّن الممثلة من السيطرة على ما تود الإفصاح عنه وما تود إخفاءه. لكن كذلك حال الرغبة التي في بال المخرج فيلد. فهو يريد أن يوحي ولا يشير، لكن الفصل بين الاثنين (الإيحاء والمباشرة) لا يعتمد منهجاً ثابتاً وواضحاً هنا، بل يبدو الإيحاء مبتسراً وليس مقصوداً.
على سبيل المثال، هناك ذِكر عابر لقائد الأوركسترا الفعلي جيمس ليڤين الذي طُرد من أوبرا متروبوليتان سنة 2018 بسبب تحرّشه بأربع عضوات من فرقته الموسيقية وذِكر لقائد أوركسترا آخر، تشارلز دوتوت، الذي استقال من منصبه بعد اتهامه بالاعتداء على عدد من النساء. لا تتضح الصلة إلا من خلال القول بأن التهمة لكليهما لم تكن ثابتة وبذلك هما ضحية كذلك حال ليديا. لكن تقديمها كضحية يتنافى وتجسيدها الدور كمحقّة في حياتها الخاصة وأن مشاكلها هذه تزيد من بلورة عملها وموسيقاها وفنها. الشخصية بكاملها مكتوبة كما لو كانت فوق النقد، لكن مع القول أيضاً إنها تعاني مشكلة الجمع بين عملها وعواطفها.
كذلك هناك انفصال بين تجسيد الممثلة لدورها وهي تدير الأوركسترا بكل عنفوان وثقة، وبين طريقة تقديم هذه المشاهد والانتقال منها – على نحو روتيني – إلى الفرقة ذاتها وهي تعزف. عوض الجماليات التي كان يمكن نسجها من هذه المشاهد، يصدم الفيلم مشاهديه بانتقاله من مشهد إلى آخر على نحو يبدو فيه كل مشهد قائماً بذاته مع صلة بدهية واهية مع ما سبقه أو ما تلاه.
– عروض: DVD ومنصّات
– (*)
– Heart of Stone
– إخراج: توم هاربر
– الولايات المتحدة | 2022
لم يشاهد هذا الناقد مسلسل «حرب وسلام» الذي أخرجه توم هاربر لحساب التلفزيون سنة 2016، لكن إذا ما سمع بعضنا قرقعة عظام حينها فلا بد أنها عظام ليو تولستوي في قبره. هذا إذا ما كان تنفيذ ذلك المسلسل (تم تقديمه في ست حلقات لحساب «بي بي سي» البريطانية) يشبه تنفيذ فيلم هاربر الجديد «قلب ستون».
ستون هو الاسم العائلي لرايتشل ستون، كذلك تعني الكلمة «حجر»، بذلك هو «قلب الحجر»، لكن لا هذا العنوان ولا الآخر يعني الكثير في قصة حول هذه العميلة التي تحاول إنقاذ مؤسسة اسمها «هيرت» (قلب، لعب آخر على العنوان) من مجموعة شريرة تحاول الاستيلاء عليها.
الحبكة المذكورة هنا جاسوسية ومن المفترض أن تحمل تشويقاً، لكنها من النوع الذي يضعف باستمرار مثل نور بطارية مستهلكة. الأحداث تتواصل فقط لأن السيناريو مترهل والمخرج لا يريد حذف ما يدور لأنه لو فعل لما بقي هناك ما يستحق السرد.
الممثلة غال غادوت تجهد في سبيل ترك أثر على دور لا يستحق الجهد المبذول له. وهذا حال الفيلم بأسره، حيث لا يمنح المشاهد أي متعة مقابل الوقت الذي يصرفه عليه (نحو ساعتين).
عروض: نتفليكس
ظهر المخرج الراحل فرنسوا تروفو (1932-1984) في 21 فيلماً بينها خمسة فقط مثّل فيها فعلياً دوراً ناطقاً. معظم الأفلام الأخرى كانت ظهوراً بلا اسم في البطاقة الفنية (Uncredited). اثنان من الأفلام الخمسة كانا الأشهر: «لقاءات قريبة من النوع الثالث» لستيفن سبيلبرغ (1977) و«ليلة أميركية»، الذي حققه تروفو نفسه (1973).
هذا الثاني كان أحد أبرع ما أنجزته السينما الفرنسية وربما أفضلها ولن تجد قائمة حول أفضل أفلام ذلك العام الذي يقف على بعد خمسين سنة من اليوم، تخلو من ذكره.
سينما عن سينما
«ليلة أميركية» (أو Day for Night كما سُمّي أيضاً) فيلم جميل عن السينما. عن مخرج (تروفو) يبدأ تصوير فيلمه الجديد ومن حوله فريقه من الممثلين والفنيين ومشاكلهم. يسبر تروفو غور كل حالة بما فيها حالته هو كسينمائي يحاول (في ذلك الفيلم) حل المشكلات المتوالدة من دون أن يتأخر عن جدول العمل المحدد بسبعة أسابيع. بعض تلك المشكلات تعود لممثلين يتصرّفون كأطفال (جان – بيير ليون)، بعضهم خرج من انهيار عصبي (جاكلين بيست)، أحدهم لديه مشكلة إخفاء مثليّته (جان-بيير أومون)، إحدى الممثلات (ألكسندرا ستيوارت) تصل إلى مكان التصوير حبلى في شهرها الثالث واضعة المخرج تحت الأمر الواقع، وهناك سواهم.
يغزل المخرج تروفو طريقه في الفيلمين معاً (ذاك الذي يخرجه لنا والآخر الذي في داخله) بالنسبة إليه السينما أهم من الحياة. كل هؤلاء المحيطين به وكل مشاكلهم وسوء تصرفات بعضهم ليست أهم مما يريد هو تنفيذه.
في العام نفسه وفي المحيط ذاته، إنما على بعد ملحوظ في الوقت ذاته، قدّم الإيطالي الفذ فديريكو فيلليني رائعته «أتذكر» (Amarcord). ليس عن صنع فيلم، بل عن الذكريات التي تصنع الفيلم. عن أحلام الفتية الصغار على تعددها. عن الحب والعائلة والمدينة وفصول الحياة والبحر. لا شيء يشبه هذا الفيلم حتى بالنسبة لأفلام فيلليني الأخرى، التي بدورها امتلأت بالذكريات أو بالملاحظات أو بطرق أبواب التاريخ والفن.
نفي فيلليني في أحاديثه أن الفيلم هو سيرة ذاتية، مكتفياً بالقول إن ثمة مواقف معينة قد تكون وقعت معه. على ذلك، لا يمكن تجاهل تلك العلاقة الكبيرة بين الفيلم وذات الفنان وعلى مستوى راقٍ وبديع من مستويات التعبير.
وبينما كان فيلليني يصوّر فيلمه هذا في بلدة مولده (ريميني) وفي الفناء الخامس في استوديوهات شينيشيتا، (روما) كان البريطاني نيكولاس روغ حط في مدينة فوندامنتا سان سيفيرو، في فينيسيا، مع الممثلة البريطانية جولي كريستي والأميركي (أصل كندي) دونالد سذرلاند مقتبساً حكاية لُغزية من المؤلّفة دافني دو موريير عنوانها «لا تنظر الآن» Don’t Look Now.
تشويق تقع أحداثه بين فناءات المباني التاريخية والأزقّة المائية حول رجل وزوجته يقابلان امرأة تدّعي أنها تستطيع التواصل مع روح ابن الزوجة. هي تصدّق وزوجها يعاني، وسريعاً ما يدلف الفيلم لإشباع نهم المشاهد من الأحداث. معالجة المخرج للقصّة تتضمن تصوير فينيسيا على نحو غير رومانسي (كما فعل بول شرايدر سنة 1990 في فيلمه الجيد «راحة الغرباء» The Comfort of Strangers).
أسماء لامعة
في ذلك العام، وفي الولايات المتحدة كان مارتن شين وسيسي سبايسك يتحوّلان من عاشقين يريدان السعادة إلى قاتلين يسعيان لحماية تلك السعادة التي تحوّلت إلى فخ محكم في فيلم ترنس مالك الأول «بادلاندز».
إليوت غولد كان تحرياً خاصّاً يحقق في حادثتين معاً تبدوان منفصلتين في اقتباس حر من أعمال الكاتب البوليسي رايموند تشاندلر. في الوقت ذاته كان آل باتشينو يؤدي دور التحري الحقيقي فرانك سربيكو في فيلم سيدني لومِت Serpico.
كان «سربيكو» أحد فيلمين ظهرا لباتشينو في ذلك العام. الآخر كان «فزاعة» (Scarecrow) للمخرج الجيد النائي بنفسه عن العالم جيري تشاتزبيرغ (عمره الآن 96 سنة). «فزّاعة» كان دراما اجتماعية عن لقاء بين رجلين، شاب (باتشينو) وآخر أكبر سناً وأكثر خبرة (جين هاكمن). كلاهما بعيد في عالمه عن الآخر لكن الصداقة تربطهما حتى عندما يدخلان إصلاحية. في محيطهما الاجتماعي فراغ كبير لن يعرفا كيف يملآنه.
روبرت ردفورد وكلينت إيستوود كانا أكبر نجمين آنذاك. والمفارقة أنهما لم يلتقيا لا في السياسة ولا في السينما.
ردفورد (86 سنة حالياً) كان يساري التوجه يؤمن بأميركا للجميع لكنه في «كيف كنا» (The Way We Were) لعب دوراً مناوئاً أمام باربرا سترايسند. هو شخص محافظ سياسياً وهي متحررة وضعف الفيلم كمن في أنه لكي ينجز فكرته المؤيدة لها، كان عليه أن يفتعل لشخصية ردفورد مواقف غير مقنعة. هذا لم يكن من بين أفضل أعمال المخرج سيدني بولاك.
فيلم ثانٍ لردفورد في العام ذاته كان «اللدغة» (The Sting)، ثاني فيلم يتقاسم بطولته مع بول نيومن. المخرج هو جورج روي هِل الذي كان أخرج لهما «بوتش كاسيدي وصندانس كِد» سنة 1969. في كليهما (وقبل سنة في «هوت روك» لبيتر ياتس) لعب ردفورد دور اللص الظريف. لم لا ولديه شعبية تلائم وسامته؟
كلينت إيستوود مسألة أخرى
فيلماه في ذلك العام كانا «ماغنوم فورس» للمخرج تد بوست و«شريد السهول العالية» (High Plains Drifter). هذا كان «وسترن» من إخراجه. بعضه مسحوب، إلى حد، من فيلم جورج ستيفنز Shane قبل 20 سنة. هنا يصل هذا «الشريد» إلى بلدة صغيرة يحاول سكانها التنقيب عن الذهب لكن أحد كبار البلدة القريبة يستأجر قتلة لترويعهم. فيلم جيد لا يجب أن يفوت هاوي أفلام الوسترن.
أما «ماغنوم فورس» فهو ثاني أفلام سلسلة إيستوود المعروفة بـ«ديرتي هاري». هنا ينقلب على جماعة من رجال البوليس الذين سمحوا لأنفسهم بقتل المواطنين حين يطلق القانون سراحهم لعدم توفر الأدلة. كان هذا الفيلم نوعاً من الرد على من اتهم إيستوود بالتعصب اليميني عندما مثّل، تحت إدارة دون سيغل، الحلقة الأولى من هذا المسلسل تحت عنوان Dirty Harry سنة 1971.
وقفات أخيرة
باتشينو وردفورد وإيستوود كانوا في عز الشباب ومن جيل متقارب تلوا ممثلين قدامى سطعوا نجوماً في الخمسينات والستينات. وفي السبعينات كانوا في غمار «الوقفة الأخيرة» قبل الغروب.
أحد هؤلاء هو روبرت ميتشوم الذي كلما كبر في السن ازداد إثارة للإعجاب. في عام 1973 أعاد النقاد اكتشاف جوهره في «أصدقاء إيدي كويل» لبيتر ياتس: رجل ذو سوابق يجد نفسه مطحوناً بين عصابة وبين رجل أمن يريده أن يعمل مخبراً لديه. أحد أفضل الأفلام البوليسية في ذلك العقد.
لي مارفن، أحد كبار ممثلي الفترة السابقة للسبعينات، ظهر تحت إدارة روبرت ألدريتش في 1973 أيضاً، الفيلم المنسي «إمبراطور القطب الشمالي» (Emperor of North Pole): تحد قوّة بينه وبين الممثل أرنست بورغنين فوق قطار. بينما وجد جيمس كوبرن ضالته في أفضل فيلم وسترن للعام وهو «بات غارِت وبيلي ذَ كِد» لسام بكنباه.
إلى الجوار هناك اثنان قررا الانتقال من الكوميديا إلى الدراما. ليس للمرّة الأولى، لكن من بعد عشرات الأفلام التي كادت تحاصرهما في أدوار خفيفة. ممثلان لعبا بعض تلك الأدوار الكوميدية معاً هما وولتر ماثاو وجاك ليمون.
تحت إدارة الخبير دون سيغل لعب ماثاو دور البطولة في «تشارلي فاريك»، لص سطا وصديق له على مصرف. المصرف يغسل أموال عصابة. العصابة ترسل في أثره قاتلاً محترفاً (جو دون بايكر) في حبكة تستحق المشاهدة مراراً.
جاك ليمون أدّى دوراً ممتازاً في «انقذ النمر» (Save the Tiger) لجون ج. أفيلدسن: صاحب شركة تقترب من الإفلاس يفكر في حرقها لكي يحصل على التأمين.
جون دون بايكر كان ممثلاً ناشئاً ومجسّداً لشخصياته جيداً. في ذلك العام ظهر أيضاً في فيلمين آخرين «السير بفخر» (Walking Tall) لفل كارلسن لاعباً شخصية شريف يعمد إلى العصا في مواجهة العصابة و«المنظّمة» (The Outfit) مؤدياً شخصية أحد لصّين صديقين يسرقان من المنظمّة. فيلم رائع لجون فلِن. اللص الآخر كان روبرت دوفال، الذي كانت لديه ثلاثة أفلام في ذلك العام (ومباشرة بعد «العرّاب») «المنظّمة» كان أهمّها.
أرقام وتواريخ
* تربع The Exorcist على قمّة الإيرادات العالمية لسنة 1973 بـ441 مليون دولار
* انتقل بروس لي من النجاح الإقليمي إلى النجاح العالمي عبر فيلم Enter the Dragon لروبرت كلاوز
* توفي بروس لي قبيل بدء عرض الفيلم في صيف 1973
* من بين أهم أفلام الرعب لعام 1973:
1- «مسرح الدم» (Theatre of Blood) لدوغلاس هيكوكس.
2- «لا تنظر الآن» (Don’t Look Now) لنيكولاس روغ
3- «ذَ ويكر مان» (The Wicker Man) لروبن هاردي.
رحل في مطلع هذا الأسبوع المخرج الأميركي ويليام فرايدكن. للمناسبة نقد لثلاثة من أفلامه الشهيرة
The Exorcist**
إخراج: ويليام فرايدكن | الولايات المتحدة (1973)
* الفارق بين الروائي ويليام بيتر بلاطي وبين ويليام بيتر بلاطي كسيناريست لروايته هو أن المؤلف وضع رواية واسعة الأركان ولديها الوقت لتأليف تشويق طبيعي حول البلدة التي تدور فيها الأحداث وأجوائها وبيئتها الدينية وإلى حد الاجتماعية. كذلك كان لديه الوقت لوضع شخصيات تمتزج بالموضوع وتتجاوز الشكل الخارجي للمطلوب منها. ما عمد إليه حين وضع السيناريو هو اختيار ما يلزم فقط لسرد الحكاية عبر مواقف منتقاة تمر سريعاً ودائماً كحالة ثابتة لا جدال فيها.
شغل ويليام فرايدكن على الموضوع لا يقل فداحة. عوض تقديم حكاية تقترب من أهم مراحلها وتطوّراتها على نحو مدروس بغية أن يأتي التشويق طبيعياً، يعمد المخرج إلى الأوضاع التي من شأنها إحداث الصدمة. وإحداث الصدمة إن لم يكن مبنياً على خلفية فنية يبقى واجهة كرتونية تماماً كحركة رأس الفتاة الصغيرة، الذي يستدير حول نفسه.
بعد تمهيد يكتشف فيه الأب ميرين (ماكس فون سيدو) ميدالية ذات شكل غريب في بعض الحفريات، تنتقل الأحداث إلى بلدة جورجياتاون لنتعرّف على الممثلة كريس (إيلين بيرستِن) وابنتها ريغن (ليندا بلير). هذه الأخيرة تتصرّف تدريجياً على نحو غريب، وسواء أقرأت رواية بلاطي ذات النبرة الهادئة، أو لم تقرأها، فإنك ستدرك أن الشيطان استولى على الفتاة فيرفعها عن السرير صوب السقف أو ليلف رأسها كما الدمية. الصراع الآن بين الأب مارن والأب داميان كرّاس (جاسون ميلر). الأول يموت بالسكتة القلبية والثاني ينتحر بعدما سأل الشيطان أن يترك ابنة الثالثة عشرة وشأنها ويتلبّسه هو.
ما يقع مع الفتاة ريغن يقابله ما يقع مع الأب كرّاس الذي كان يعاني أساساً من بداية فقدانه الإيمان ويركبه الأسى لوفاة والدته. كل ذلك، وتحقيق المفتّش (ج. لي كوب) وحتى شخصية الأم وصولاً إلى مشهد ذلك الشحاذ عند محطة مترو الذي يصيح بهوس «أنا كاثوليكي» (النيل من الكاثوليكية؟) ليست سوى بطانات وضعية نجدها في العديد من أفلام الرعب قبل وبعد هذا الفيلم الذي يصنع الكعكة ويأكلها أيضاً.
The French Connection***
إخراج: ويليام فرايدكن | الولايات المتحدة (1971)
* هناك الكثير مما يستحق المديح في «الرابط الفرنسي» يقع غالبه في كيفية تعامل المخرج مع قاع المدينة (نيويورك) وما تقوم عليه حياتها اليومية من تفاصيل ميكانيكية. هنا وجد المخرج الأسلوب الصحيح لسرد حكاية بوليسية على نحو شيّق.
بعد أن قام فيليب د. أنطوني بإنتاج Bullitt قبل عامين من هذا الفيلم، المبني على حكاية بوليسية مليئة بالمطاردات حول تحري (ستيف ماكوين) في أعقاب قتلة شاهد عيان، اشترى حقوق رواية (لروبن مور) تقع أحداثها في نيويورك (مقابل سان فرانسيسكو في الفيلم السابق) وبطلها تحر آخر أمام وضع مختلف. عند هذه النقطة تنتهي الحسنات الفعلية المسجلة على صعيد التنفيذ وحسن التعامل مع المدينة وبيئتها. ذلك لأن شخصية التحري دويل (جين هاكمن) لا تحتوي على قِيَم تستدعي الإعجاب كما حال شخصية التحري بولِت. ذاك كان يؤمن بالقانون بلا حياد ويكشف عن أزمة فساد سياسي، أما دويل فهو رجل متوتر، حانق، متهوّر (يقتل زميلاً فيدرالياً في نهاية الأمر) مهووس بتأكيد ظنونه وعنصري (يعنّف السود معتدياً على حقوقهم، ولا ينسى المخرج دس مبررات لذلك في مشهد إلقاء القبض على عدد منهم في حانة).
المهمّة التي يؤديها دويل (وزميله روي شايدر) هي تعقّب فرنسيان، الرئيس (فرناندو راي) ومساعده (مارسل بيزوفي) للكشف عن شحنة مخدّرات يقومان بالإشراف على وصولها. هناك توتر بين دويل وزميله الذي يختلف في منهجه وليس في هدفه. عندما تتم محاولة قتل دويل يفقد هذا القليل مما بقي لديه من صبر ويلاحق بوزوفي في مطاردة هي لب الفيلم. هاكمن في سيارة تنطلق بتهوّر في شوارع المدينة وبوزوفي في المترو فوق الجسور المعلّقة. المطاردة مثيرة بحد ذاتها لكنها تقليد بائس حين مقارنتها بتلك التي في «بولِت». وقيادة ماكوين لسيارته في أعلى سرعة حكيمة وشجاعة في مقابل قيادة هاكمن (الملتصق بالشخصية جيداً) التي تبدو مصطنعة وبالتأكيد متهوّرة.
Bug*
إخراج: ويليام فرايدكن | الولايات المتحدة | 2006
ما بين «طارد الأرواح الشريرة» وفيلم فرايدكن المرعب الآخر هذا («حشرة») العديد من الأفلام التي حققها فرايدكن بلا قيمة فنية (وأحياناً تجارية) فعلية. أفلام مثل The Brink’s Jobو Deal of the Century وذلك الاستنساخ لفيلم هنري- جورج كلوزو «أجور الخوف» (حققه فرايدكن تحت عنوان لا علاقة له هو «ساحر (Sorcerer)» وبينها أيضاً «قواعد «الاشتباك (Rules of Engagement)» حيث العربي الجيد هو العربي الميّت
«حشرة» هو فيلم آخر عاد فيه فرايدكن لنوع الرعب. حول امرأة أسمها أغنيس (أشلي دْجد) لديها صديقة (لين كولنز) وفي أحد الأيام تأتي لزيارتها ومعها رجل اسمه بيتر (مايكل شانون في أحد أولى أدواره). يقضي بيتر الليلة الأولى نائماً على الأرض والثانية في الفراش وبين الليلتين تبدل حاله. المشكلة هي أن بيتر مصاب بشيزوفرانياً تجعله يتوهم وجود حشرات في كل مكان حتى تحت بشرته وفي دمه. المشكلة الأخرى هي أن أغنس تصدّقه ومع نهاية الفيلم تتحوّل إلى مهووسة مثله.
ما يأخذه الفيلم على محمل الجد يبقى مضحكاً أكثر منه مخيفاً بما في ذلك اعتقاد بيتر أن الحكومة الأميركية زرعت تلك الحشرات تحت جلده. هذا كان اقتباساً عن مسرحية (كما كان حال أحد أفلام فرايدكن الأفضل وهو The Boys in the Band سنة 1970) ما يفسر التصوير الداخلي والقشيب، ولو أنه لا يفسر السبب الذي من أجله يمكن لأحد الاهتمام بما يقع من أحداث. وحكاية الحشرات التي زرعتها الحكومة الأميركية (حتى ولو كانت هاجساً في بال مريض) كان يمكن لها أن تدلف بالموضوع صوب غاية ما لكنها لا تفعل.