حينما حكمت محكمة عسكرية إسرائيلية على القائد في حماس يحيى السنوار بالسجن بتهمة التخطيط والتنفيذ لعمليات متعددة ضد إسرائيل عام 1988، كان ردّه على الحكم دراسة اللغة العبرية. كان ذلك قبل عقود من تنسيقه للهجمات التي شنتها حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 كما تتهمه تل أبيب الآن.
يقول ميخا كوبي، الذي استجوب السنوار لصالح جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشاباك”، لصحيفة فايننشيال تايمز الأمريكية: “لقد قرأ السنوار كل الكتب التي صدرت عن شخصيات إسرائيلية بارزة مثل فلاديمير جابوتنسكي ومناحيم بيغن وإسحاق رابين”.
كيف خدع يحيى السنوار إسرائيل منذ أن كان بسجونها؟
استخدم السنوار عبريته بطلاقة خلال مقابلة مع قناة تلفزيونية إسرائيلية بعد خمس عشر عاماً من سجنه، وكانت رسالته أنه بدلاً من الحرب، يجب على الجمهور الإسرائيلي أن يدعم هدنة أو وقف إطلاق نار مع حركة حماس المسلحة قائلاً، وهو يرتدي بذلة قرمزية اللون: “نحن نفهم أن إسرائيل تمتلك مئتي رأس حربي نووي وأن لديها سلاح جو هو الأكثر تطوراً في المنطقة، ونحن نعلم أننا لا نملك القدرة على تفكيك إسرائيل”.
يُعتبر السنوار البالغ من العمر 61 عاماً اليوم أهم رجل مطلوب لدى إسرائيل في غزة، ويشير إليه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ”رجل ميت يمشي”. وتتهم إسرائيل زعيم حركة حماس في غزة بأنه الشخص الأكثر انخراطاً في الهجوم المفاجئ في السابع من أكتوبر على غلاف غزة، الذي أدى لتدمير فرقة غزة، ومقتل أكثر من 1500 إسرائيلي.
القضاء على السنوار هو الهدف الرئيسي من الحملة الإسرائيلية المتصاعدة لـ”تدمير” حماس، والتي يقول المسؤولون الفلسطينيون إنها أدت إلى استشهاد 10 آلاف شخص في غزة معظمهم من الأطفال والنساء، منذ أن بدأت إسرائيل انتقامها من الهجوم، مدمرة مناطق مدنية واسعة عبر القصف المكثف من البر والجو والبحر.
امتلكت إسرائيل قبل هجوم حماس سجّلاً يمتد إلى ما يقرب من أربعين عاماً من الخبرة في التعامل مع السنوار، وهو رجل تصفه إسرائيل بأنه “شديد الحدة والعنف ذو جسد نحيل وشعر قصير”، لكن تلك المعرفة المتراكمة في السنوات الأخيرة لم تساعد سوى في خداع كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين في إحساس كاذب بالاطمئنان من جانب حماس.
كانوا يظنون أنه “متطرف خطير ولكنه قابل للإرضاء”
تقول صحيفة فايننشيال تايمز إن إسرائيل كانت تنظر إلى السنوار قبل انطلاق الحرب، على أنه “متطرف خطير ولكنه قابل للإرضاء، وأنه أكثر اهتماماً بتوطيد حكم حماس في غزة والحصول على تنازلات اقتصادية” لمصلحة القطاع.
كان سوء فهم شخصية السنوار مقدمة لأكبر فشل استخباراتي إسرائيلي، ويبدو أن البعض يرى أن السنوار تمكن من تحقيق الخداع الأقصى، ويقول مايكل ميلشياين، ضابط الاستخبارات العسكري السابق والخبير في الشؤون الفلسطينية: “لم نفهمه على الإطلاق، فهمنا عنه قيمته صفر”.
تقول الصحيفة الأمريكية إن الصورة التي رسمها العديد من الأشخاص الذين قضوا وقتاً معه على مدار عقود، هي صورة رجل له حضور قيادي وكاريزما، قليل الكلام، سريع الغضب ويستذكر كوبي استجواب السنوار في عام 1989 عندما اعترف بقتل إسرائيليين، وكان ذلك في ذروة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وكان كوبي ضابطاً في جهاز الشاباك يطارد أعضاء حماس، التي كانت آنذاك مجموعة مسلحة إسلامية صغيرة بدأت تبرز في غزة.
ساعد السنوار، المعروف على نطاق واسع باسم أبو إبراهيم، في بناء (كتائب القسام) الجناح العسكري لحماس منذ بدايتها، ولكن عندما اعتُقل في أواخر الثمانينيات، كان ذلك بسبب دوره الخاص داخل حماس والمتمثل في مطاردة العملاء المتعاونين مع إسرائيل والقضاء عليهم. وبحسب كوبي، أدانت محكمة عسكرية إسرائيلية سرية السنوار بالتخطيط للعمل العسكري وتصفية العملاء المتعاونين مع الاحتلال.
“السنوار لديه قدرات غير عادية على التحمّل، والمكر والتلاعب”
ارتقى السنوار ليصبح زعيم جميع أسرى حماس في السجون الإسرائيلية، وهو منصب مؤثر داخل هرمية الحركة وفي مرحلة ما في عام 2004، أزال الأطباء الإسرائيليون خراجاً مجاوراً لدماغه، مما أنقذ حياته، وفقاً للسلطات الإسرائيلية.
حاول تقييم استخباراتي إسرائيلي كتب عن السنوار أثناء وجوده في السجن رسم شخصيته وقال: “قاسٍ، ذو سلطة، مؤثر، مقبول من أصدقائه، ولديه قدرات غير عادية على التحمل، والمكر، والتلاعب، يكتفي بالقليل.. يحتفظ بالأسرار حتى داخل السجن بين السجناء الآخرين.. ولديه القدرة على تحريك الجماهير”.
نشأ السنوار في أحد الأحياء الفقيرة في خان يونس جنوب قطاع غزة، وظهر لأول مرة على الساحة السياسية في غزة أوائل الثمانينيات كمستشار ومساعد لمؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين.
كان جار السنوار في خان يونس هو محمد الضيف، القائد العسكري الغامض لكتائب عز الدين القسام والرجل المطارد منذ عقود.
تم تكليف السنوار بقيادة جهاز الأمن الداخلي في الحركة والذي يسمى (قوات المجد) والمكلف بالقضاء على المشتبه بتعاونهم مع إسرائيل، بالإضافة إلى مساعدته في تأسيس الجناح العسكري للجماعة.
تقول الصحيفة الأمريكية إن السنوار أو أبو إبراهيم أصبح شخصية شبه أسطورية تقريباً بالنسبة للفلسطينيين، وخاصةً داخل غزة. يقول أحد الناشطين الفلسطينيين البارزين في القدس للصحيفة الأمريكية: “الكثير من الفلسطينيين يشعرون بالفخر، والسنوار محبوب للغاية في الشارع الفلسطيني”.
الرجل الذي تحوم حوله “الألغاز”
أُفرج عن السنوار عام 2011 بعد قضاء 22 عاماً في سجن إسرائيلي في صفقة تبادل أُطلق فيها سراح أكثر من ألف فلسطيني مقابل جندي إسرائيلي واحد، وهو جلعاد شاليط الذي احتجزته حماس في غزة. وبحلول عام 2017، تم انتخابه زعيماً للحركة في غزة، ليحل محل إسماعيل هنية، الذي أصبح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والمقيم في قطر.
استضاف السنوار الدبلوماسيين الأجانب وأقام مسيرات حاشدة حماسية، وقامت حماس تحت قيادته بضبط استخدام القوة -عبر احتجاجات الحدود وبالونات الحريق وخاصة إطلاق الصواريخ- لدفع إسرائيل إلى مزيد من المحادثات غير المباشرة عبر وسطاء مصريين وقطريين وأمميين.
قال أحد كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين في وقت سابق من العام الحالي: “الصواريخ هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيعون بها إجراء محادثات معنا”، وقد أدى ذلك إلى قيام إسرائيل بمنح تنازلات غير مسبوقة لغزة في السنوات الثلاث الماضية، بما في ذلك المزيد من الدعم المالي القطري وآلاف تصاريح العمل الإسرائيلية.
لكن لا تزال دوافع السنوار لتحوله المفاجئ عن مساره السابق في السابع من أكتوبر شيئاً من لغز. قال مصدر غير إسرائيلي لديه خبرة طويلة في التعامل مع السنوار في السجن: “إنه ليس شخصاً عادياً، هو رجل يرى نفسه في مهمة ما في هذا العالم”.
احتاج السنوار في عام 2021 إلى جولة إعادة انتخاب في الانتخابات الداخلية، وهو ما يراه بعض المحللين نقطة تحول محتملة، وبعد أشهر قليلة، في مايو 2021 خاضت إسرائيل وحماس حرباً استمرت 11 يوماً سُميت “سيف القدس” ويراها البعض منجزاً لحماس، حيث خرج السنوار حينها وتحدى إسرائيل أن تقوم باغتياله، وهو جالس على كرسي في أنقاض منزله المدمر.
خداع لكسب الوقت
سافر أحد المسؤولين الفلسطينيين ذوي الصلات الوثيقة بغزة إلى الأراضي عدة مرات على مدار العام الماضي، في محاولة للتفاوض على اتفاق وطني أوسع مع حماس، والتقى مع السنوار كثيراً، مؤكداً وجود “احترام متبادل”، لكن في آخر زيارة للمسؤول إلى غزة في وقت سابق من هذا العام “اختفى السنوار تماماً”، مضيفاً: “كانت هناك إشارات كان يجب أن نفهمها”. ومضى يقول: “كان يستخدم التمويه بوجود مسار دبلوماسي من أجل إخفاء مساره العسكري”.
كان التقييم الرسمي الإسرائيلي أن حماس بقيادة السنوار لا تميل نحو خوض حرب أخرى وكانت مهتمة باتفاق أوسع مع إسرائيل، وأن أي هجوم لحماس على إسرائيل سيحتاج إلى عام واحد على الأقل من التخطيط، ويزعم المسؤولون والمحللون الإسرائيليون الآن أن الواجهة البراغماتية الظاهرة للسنوار كانت مجرد خداع محض لكسب الوقت.
قال ميلشتاين، ضابط الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي، لصحيفة فايننشيال تايمز: “علينا مواجهة الحقيقة: إنه مدفوع بكراهية وتدمير إسرائيل”.
قد تواجه غزة الآن هجوماً مدمراً هدفه الرئيسي الحصول على السنوار، ولكن وجود إسرائيل وهي تشعر بالإدانة، ومصير المنطقة المعلق قد يشكل انتصاراً كافياً بالنسبة للسنوار وكما يقول كوبي: “لن يستسلم، سيموت هناك في غزة”، حسب تعبيره.