توزع على الإنترنت هذه الأيام نشرة عن أفضال العقل الفلسطيني على اقتصاد لبنان، وتقدم مثالاً على ذلك «بنك إنترا»، وبعض الشركات الأخرى. وليس لديّ شك في أن صدور مثل هذا الكلام سببه صدور كلام مشابه من الفريق الآخر، يمنّن الفلسطينيين بما قدمه لبنان لهم.
بصرف النظر عن لا أخلاقية القول على الجانبين، وفي أي وقت من الأوقات، فإن ما يزيده ضعة صدوره في الوقت الذي يرهن لبنان مصيره بوقف الحرب على غزة، سياسة واقتصاداً وكياناً.
يحمل الفلسطينيون شعوراً بالأسى منذ الهجرة الكبرى. ويكررون أن ضياع فلسطين مسؤولية عربية. وهذا الشعور جعلهم يبحثون عنها في البلاد العربية، كما حدث في الأردن ولبنان والكويت. ففي عمان مثلاً، اعتبر الأخ أبو داود أن الملك حسين معتد على الحكم، وفي لبنان أُرغم مجلس النواب على التوقيع على «اتفاق القاهرة» مع منظمة التحرير من دون أن يسمح لهم بالاطلاع عليه. وهذا ما حدا بالرئيس ياسر عرفات إلى القول إنه حكم لبنان مرتين. وعاد واتخذ سياسة مشابهة خلال احتلال صدام حسين للكويت. وكان الموقف خطأ من حيث المبدأ، أي مبدأ الفلسطيني والاحتلال: هل يعقل لمن احتلت أرضه وسيادته أن يقف لحظة مع الاحتلال في أي مكان، فكيف في بلد يضم نحو 300 ألف فلسطيني؟ لا شك أن الفلسطينيين لعبوا دوراً جباراً في نهضة الكويت، وفي كل الحقول، خصوصاً التربوي والاقتصادي. لكن مَن ساند الآخر أكثر؟ وهل يقارن دعم صدام للانتفاضة بما لقيه الفلسطينيون في الكويت؟
لبنان منقسم حول غزة الآن، كما كان منقسماً حول «اتفاق القاهرة» العام 1969، فريق (المقاومة) يربط كل شيء بالوضع في غزة، وفريق يتساءل مع رئيسة تحرير «النهار» نايلة تويني: «هل مات أحد من أجلنا في أي يوم، كي نموت الآن من أجله»؟ دائماً ينازع البلد الصغير منطقان: حرب في الداخل بسبب الموقف من حرب في الخارج. وفي الحرب الأهلية التي دامت نحو 20 عاماً ذهب ضحيتها 150 ألف قتيل، وهاجر نحو مليون إنسان، وانتهت – أو علقت – بخروج الكفاح الفلسطيني المسلح من بيروت إلى تونس والسودان.
مرة أخرى ينقسم اللبنانيون حول مسألة يفترض أن توحدهم. ومرة أخرى ينقسم العرب حول فلسطين بينما تسفح إسرائيل ديارهم، ومثلما هو الأمر منذ 75 عاماً، اتهامات بالخيانة، وأنهار من الدم، تصب في بحر من الخواء.
في العام الماضي، انضم الكرملين إلى الحكومات التي تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، وأشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مستوى العنف على أنه «مرتفع جداً من كلا الجانبين».
لم يضع بوتين اللوم على «حماس» أو إسرائيل، ولكن على «فشل سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط». كما خمن أن الأسلحة الغربية التي كانت متجهة إلى أوكرانيا، قد انتهى بها الأمر في إسرائيل لاستخدامها ضد الفلسطينيين عبر السوق السوداء.
أيضاً في أواخر العام الماضي، مدح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بينما قارن بين حرب إسرائيل على «حماس» في غزة والغزو الروسي لأوكرانيا.
وأدان العديد من المعلقين والمحللين والسياسيين الروس البارزين ما أسموه «المعايير المزدوجة» للغرب لدعم إسرائيل مع إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. ومن المؤكد أن الصراع المتأجج بين إسرائيل و«حماس» يعدّ بمثابة نعمة لبوتين.
ومع ذلك، يسير بوتين على خط رفيع بين الطرفين المتحاربين. وبالنسبة إليه، فإن الحرب في الشرق الأوسط بمثابة فرصة ناضجة ليس فقط لإدانة واشنطن وتقويضها في النظام الدولي، ولكن أيضاً للظهور بوصفه وسيطاً لوقف التصعيد، وإعادة تأكيد نفسه لاعباً بارزاً في المنطقة.
في وقت لاحق، كما يقول المحللون، ستستفيد روسيا بأكثر من طريقة، فإدانة الولايات المتحدة عند الرأي العام العربي الآن تعدّ مكافأة لروسيا، ويرى بوتين أن الصراع في غزة طريقة فاعلة لإلحاق الضرر بمكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ومن المرجح أنه على استعداد لقبول بعض المطبات في الطريق مع إسرائيل باعتبارها وسيلة لإيذاء الولايات المتحدة؛ لأنه بالنسبة إلى روسيا، فإن توسيع النفوذ الروسي في العالم العربي على حساب الولايات المتحدة هو الهدف الرئيسي المتعلق بصراع غزة.
وهناك فائدة أخرى لبوتين من هذه الحرب هي أنها تصرف انتباه الغرب عن الصراع المستمر في أوكرانيا، وتجبر الحكومة الأميركية والعواصم الأوروبية على اتخاذ قرارات صعبة حول كيفية توجيه مواردها المحدودة بين حليفتين محتاجتين: إسرائيل وأوكرانيا.
إن فكرة تحويل الولايات المتحدة بعض الأسلحة المخصصة لكييف إلى الشرق الأوسط بدلاً من ذلك، تعني أيضاً انتصاراً آخر للكرملين. فكلما طالت فترة حرب الشرق الأوسط، زادت فرص احتياج إسرائيل إلى أسلحة أميركية، بما في ذلك قذائف المدفعية والطائرات من دون طيار المسلحة، والتي تعاني أوكرانيا أيضاً من نقص منها. ووفقاً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ستكسب روسيا أيضاً من خلال إغراق أوروبا بالتناحر حول من وكيف تدعم طرفاً أو آخر في الشرق الأوسط.
وقال زيلينسكي: «روسيا مهتمة بإشعال حرب في الشرق الأوسط حتى يتمكن مصدر جديد للألم والمعاناة من تقويض الوحدة العالمية، وزيادة الخلاف والتناقضات، وبالتالي مساعدتها على تدمير الحرية في أوروبا».
وبصفتها منتجاً عالمياً بارزاً للنفط، ستزدهر روسيا من ارتفاع أسعار النفط الخام وسط تقلبات الشرق الأوسط، مما يزيد بشكل أساسي من قيمة صادراتها ويتيح المزيد من الأموال لأغراض الدفاع.
وهناك انقلاب مفيد آخر لبوتين هو افتراض أن الحرب من المرجح أن تكون قد أوقفت، أو ربما دمرت، جهود إدارة بايدن الطويلة لتطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية. لطالما كان الرأي في موسكو بشأن اتفاقات أبراهام أنها مشروع خلافي، يساهم في هيمنة الولايات المتحدة ويدفع روسيا للخروج من هذا التشكيل.
وسعت موسكو أيضاً إلى تعزيز علاقات دبلوماسية قوية مع «حماس» نفسها، والتي لا تعدّها منظمة إرهابية. وأكدت وزارة الخارجية الروسية في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أن وفداً من «حماس» التقى بمسؤولين في موسكو لمناقشة الحرب في غزة. ومن بين الرهائن الذين لا يزالون لدى «حماس» ثمانية مواطنين إسرائيليين روس مزدوجي الجنسية.
ويلفت أحد الخبراء العسكريين الانتباه من أوكرانيا إلى إسرائيل، ويقول إنه كلما زاد الدعم الاقتصادي والعسكري لإسرائيل من الحلفاء الغربيين، وبخاصة الولايات المتحدة، أصبح الأمر متاحاً أقل لدعم أوكرانيا في المستقبل. وقال: «هذا يمنح روسيا، وتحديداً بوتين، الفرصة لمحاولة الظهور بوصفه صانع سلام». وأضاف: «يمكنك أن ترى محاولته في هذا بالفعل من خلال جلب وفد من (حماس)، وكذلك في إدانة روسيا لحملة الضربات الجوية الإسرائيلية على غزة».
من جهة أخرى، كشفت الاستخبارات الأميركية مؤخراً أن مجموعة «فاغنر»، تعتزم إرسال دعم لـ«حزب الله» في لبنان، (وهو عدو لدود لإسرائيل على جبهتها الشمالية)، وهو عبارة عن نظام دفاع جوي قصير المدى موجود حالياً في ترسانة الجيش السوري.
وكان لوحظ أن بوتين تأخر في الإعراب عن تعازيه لنتنياهو في مقتل أكثر من 1200 إسرائيلي في الهجمة الأولية من قبل «حماس». وفي الوقت نفسه، كانت «حماس» تمجد «صداقتها» مع روسيا، حتى إن موسكو استضافت وفداً من مسؤوليها مباشرة تقريباً، مما أثار ذعر إسرائيل إلى حد كبير. ومع ذلك، كان بوتين يحاول وضع موسكو وسيطاً أو وسيطاً محتملاً بين «حماس» وإسرائيل. من الصعب أن نرى كيف ستكون إسرائيل منفتحة على ذلك بالنظر إلى تصرفات بوتين حتى الآن. ففي الأسبوع الماضي، قام وفد آخر من «حماس» بزيارة موسكو، من بين مطالبه: ضمانات دولية بأن تبقى «حماس» الحاكم الوحيد لقطاع غزة، والتعهد من إسرائيل بوقف عمليات الاغتيالات، كما التقى الوفد مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط.
التقى بوتين ونتنياهو عشرات المرات خلال وجودهما في السلطة، وكشهادة على قوة علاقاتهما، لم تنفذ إسرائيل أبداً عقوبات يقودها الغرب ضد روسيا ورفضت تزويد كييف بالأسلحة. ومع ذلك، بغض النظر عن الاتجاه الذي تتخذه الدبلوماسية بين البلدين الآن، ما دامت الحرب ضد «حماس» تطول، فإن إسرائيل لن تكون في أي وضع يمكنها من تعزيز مخزون أوكرانيا في أي وقت قريب، وهذا فوز آخر لبوتين.
يجادل بعض خبراء الدفاع أيضاً بأن هناك عيباً محتملاً لموسكو في كل هذا. الجانب السلبي هو أن الحرب يمكن أن تضر بالعلاقات الإسرائيلية – الروسية. وسيحاول بوتين تجنب ذلك، ولكن قد يكون من المستحيل عليه تحقيق هذا الهدف. فالرسائل المناهضة للولايات المتحدة المتعلقة بغزة والروس تغمر العالم، إضافة إلى تورط إسرائيل. وستأتي اللحظة التي سيحتاج فيها بوتين إلى اتخاذ القرار الصعب بشأن الجانب الذي هو إلى جانبه.
يسود الاعتقاد بأن بوتين لا يمكنه الحفاظ على هذه المعادلة لفترة أطول، أو أن نتنياهو والإسرائيليين في هذه المرحلة سيكون لديهم التسامح مع أي دولة لا تعلن بشكل كامل وتظهر توافقها مع إسرائيل.
لدى الولايات المتحدة القدرة على إدارة دعمها لكل من إسرائيل وأوكرانيا، بخاصة إذا كان بإمكانها احتواء الحروب من التصعيد إلى صراعات تتطلب أحذية أميركية على الأرض على سبيل المثال، وتجنب سيناريو المادة 5 من حلف «الناتو» على الجبهة الشرقية.
على الرغم من أن المشاركة في حرب على جبهتين من شأنها بالتأكيد أن تضع ضغطاً على الموارد، فإن نوع المعدات العسكرية المطلوبة للنزاعين المعنيين مختلف بما فيه الكفاية لتجنب الكثير من التداخل.
على جبهة الاستعداد السياسي، فإن إسرائيل وأوكرانيا حليفتان مقربتان جداً من الولايات المتحدة، وقد أوضحت إدارة بايدن حتى الآن نيتها البقاء ملتزمة بدعم كلتيهما، على الرغم من الاقتتال الداخلي في مجلس النواب ومجلس الشيوخ. ومع ذلك، فإن الوضع عرضة للتغيير وعدم اليقين.
في نظر بعض الدول، فإن من أحد «عيوب» أميركا وتغييرها الديمقراطي لسلطتها كل أربع سنوات هو أن تحالفاتها ونواياها واستراتيجياتها المعلنة تخضع لتغيير هائل مع «نزوة» أي إدارة مقبلة. كم من الوقت سيستمر هذا الاستعداد، الذي سيتم إملاؤه بطريقة ليست بسيطة من خلال الانتخابات المقبلة، ومن سيصبح الرئيس التالي؟