غضب واستنكار واسعين بعد اعتراف جندي إسرائيلي باخـ.ـتطاف …
ضابط إسرائيلي يختطف طفلة رضيعة من داخل منزلها في قصة صادمة جديدة من وحي الحرب على غزة
أتخيل أن تكبر يافا لتقرأ رواية “عائد إلى حيفا” بالعبريّة، وتكتشف حقيقة نجاتها المزيفة، وقد تصرّ على تعلم العربيّة لتقرأ الرواية، وتكرر السؤال التراجيديّ الذي تحضر أصداؤه الآن،”أتعرفين ما هو الوطن (يا يافا)؟ هو ألا يحدث ذلك كله”.
كشف الجندي شاحار مندلسون عن اختطاف/ إنقاذ “صديقه في السلاح” الجندي هارئيل إيتاخ، لطفلة من غزة بعد أن وجدها تبكي في منزل اقتحمه. أشار مندلسون أن أسرة الطفلة قتلت بقصف جويّ، مضيفا أن إيتاخ نقل الطفلة إلى مستشفى في إسرائيل قبل أن يقتل في الاشتباكات.
قد تكون الطفلة اليوم في مستشفى لا يتلقى اتصالات من ذويها. لا تلبس إسوارة تحمل اسمها الحقيقي. ربما سموها “يافا”، لكنها لم تتعلم اسمها بعد. قد تعطى اسما جديدا بلغة جديدة تنافس “لغتها الأم”، التي لم تحظ يافا بفرصة تعلمها بعد. قد تكبر يافا، دون أن تتصارع اللغتان في عقلها، بل تمضي بخطى حثيثة بحديث طبيعي بالعبرية التي أصبحت لغتها “الجديدة”.
إذا لم تستقبل الطفلة في كنف عائلة، ستُربى في الكنيس حيث تتلقى تعليما يهودياً أورثوذوكسيا صارما. الذي يشمل عدم طلب “أمور غير معقولة” من الأطفال أو معاقبتهم بقسوة تدفعهم “إلى الثورة”.
وإذا اقترنت بعائلة فقد تكتسب حياة جديدة، تتيحها العائلة بعد أن ضمن الجندي “المستشهد” حياة ثانية. هكذا، تتنقل يافا بين حيوات عديدة لم تختر أيا منها. بل اختيرت لها وفرضت عليها. من الاستغاثة في المهد لعائلة قتلها قصف الجيش الإسرائيلي “عن بعد” دون التحديق بأوجه أسرتها الخائفة، تلك التي نفترض أنها شطبت من سجلات القيد المدني، حالها حال أكثر من خمسين عائلة في غزة لقت الحتف ذاته.
انتقلت يافا بين زخات الرصاص والحطام إلى مستشفى لا نعرف عنها شيئاً. إذ تقبض على يافا الطفلة اليوم اليد التي قبضت على يافا المدينة. فهل الطفلة يافا ناجيةٌ؟ هل ستذكر من قتل أسرتها حين تكبر؟
أظن أن “يافا” ستصبح النسخة المؤنثة لخلدون س. من رواية كنفاني (عائد إلى حيفا)، لكنها هذه المرة ضحية نكبة جديدة، إذ سلخت من بيت لآخر بعد خسارة عائلتها ونفسها. يافا وخلدون وغيرهم من الفلسطينيين أثبتوا أن إسرائيل تسرق (كل شيء)، حتى الأطفال، حتى الحياة، فعليا ومجازيا.
يافا الطفلة، ستكبر ضمن حياة أمليت عليها، سرقت/خطفت/ أنقذت من مهدها، لتسكن بيتاً ما تحته من أرض ليست لسكان المنزل، المشكوك بملكيتهم أصلاً للمنزل، ربما من تكبر معهم يافا أوروبيون، بيض وشقر، لا يشبهونها، ألن تسأل يافا حين تكبر، لم لا أشبه أولئك الذين يغنون لي قبل النوم؟
يمكن أن يكون ضمير إيتاخ ارتاح في حياته الأبدية تحت تراب محمّل بالعنف والأساطير والاستعمار. إذ “أنقذ حياة” طفلة من بيت ربما سيصبح عما قريب حطاماً، (إن لم يكن أصبح حطاماً إلى حين كتابة هذا المقال.
ربما سموها “يافا”، لكنها لم تتعلم اسمها بعد. قد تعطى اسما جديدا بلغة جديدة تنافس “لغتها الأم”، التي لم تحظ يافا بفرصة تعلمها بعد.
ما لا يعرفه إيتاخ أنه سرق حياة. انتشلها من براثن الموت والحياة معا. مغلقا قبضته على مستقبل لم يعش ليشهده. لكنه حتما شهد مثيلا له من فلسطينيين سرقت إسرائيل عبر إيتاخ وغيره منهم “فلسطينيتهم” وحولتها إلى “إسرائيلية”. تاريخ وأشخاص وقصص وبيوت تنتزع كل يوم أمام مرأى من لم يمت، لكنه مُنع من الحياة.
ألم تتعرض يافا للإبادة؟ الإبادة الجماعية الإثنية المتمثلة بتفكك الشعب الفلسطيني وحل وجوده على أرضه بحيث يهجر إلى دول أخرى، أو ينصهر تحت تهديد السلاح بالمجتمع الإسرائيلي الذي يرفضه كل يوم أكثر. هل يافا على قيد الحياة حقا فقط لأنها تتنفس؟ هل ما زالت يافا أم أنها تحولت لشخص آخر؟ وهل الحياة تقاس فقط بالعيش أو “النجاة”؟
يافا ليست الوحيدة، هي ضمن جملة فلسطينيين خطفهم الجيش الإسرائيلي من الضفة الغربية أو غزة أو سائر الأراضي المحتلة. منهم أطفال سرقهم الجيش بذريعة أنهم شقر فظن أنهم رهائن! ومنهم من سُرقت طفولته، فأمسى صغيرا بدون طفولة كالأطفال اللذين بقوا تحت الأنقاض، أو خسروا يدا أو أما أو شقيقا من طفولتهم. هي طفولة تستمر بالانتقاص حد التلاشي ونسيان الاسم واللغة.
تطالب وزارة الصحة الفلسطينية باستعادة يافا، تتشبث الطفلة بالحياة، أيا منها. لا يهم. عندما ترقد طفلة على سرير مستشفى تطوق الحياة من عنقها آملة أن تعانقها الحياة بدورها. شاء القدر، أو الاحتلال وإيتاخ، أن تعانقها حياة لا تشبهها قد تدفعها بعد 18 سنة أن تقف أمام سرير آخر في بيت مهدم ترنو إلى طفلة أخرى تصرخ في سريرها الوثير لعائلة لم تعد موجودة. قد تخونها الذاكرة، وتقرر اصطحابها وإنقاذ حياتها كجزء من خدمة وطنية قيدت مثل كثيرين غيرها على القيام بها. خدمة في وطن لم يخترها جندية بل ضحية.
قد تشكر الطفلة- الجندية إيتاخ قبل أن تنام كل ليلة، على الرغم من أنه أملى عليها حياة كاملة سمحت لها أن ترى فلسطين، وتعيش فيها، ولو تحت الإحتلال، ومن خلف جدران فرضت على القاطنين خارجها مثلما فرضت عليها هي التي تقطن مع “منقذيها” على الجهة الأخرى.
تمنى غسان كنفاني عندما كتب “عائد إلى حيفا” أن تفتح بوابة مندلبوم، التي كانت تفصل القدس حتى عام 1967، من الجهة الأخرى. معتبرا أن بعض الأبواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة وإلا اعتبرناها “مغلقة لا تزال”.
سنة 1973، توفي غسان كنفاني، ولم يتح له العمر أو الاحتلال العيش حتى يرى السياج الذي يحاصر غزة “يفتح” من الجهة التي يجب أن يفتح منها. وقبل أن يقرأ على الصحف تحقق نبوءته، قفعتباطية الحرب الحالية وصلت حد تحقيق خيال كنفاني الخصب.
أتخيل أن تكبر يافا لتقرأ رواية “عائد إلى حيفا” بالعبريّة، وتكتشف حقيقة نجاتها المزيفة، وقد تصرّ على تعلم العربيّة لتقرأ الرواية، وتكرر السؤال التراجيديّ الذي تحضر أصداؤه الآن،”أتعرفين ما هو الوطن (يا يافا)؟ هو ألا يحدث ذلك كله”.