الطوبى والتبشير في مواجهة التحريض والنزعة القياميّة!
«القياميّ» أو «الرؤيويّ» تعبير يصف نهاية العالم، لكنّه في دلالة أعرض وأشمل، يصف حدوث ما لا يحدث عادةً أو عدم حدوث ما يحدث، ممّا يرفضه العقل. هكذا، وبموجب القياميّ، ينهض الموتى من قبورهم مثلاً، أو يموت الأطفال كلّهم، أو يجرف طوفانٌ ما العالم برمّته، أو تغدو الأشجار وحوشاً مفترسة، أو أمور غرائبيّة أخرى من هذا القبيل. وقد برع أنبياء اليهود في «العهد القديم»، خصوصاً منهم إيزايا (أشعيا)، في توجيه الإنذارات القياميّة لشعبهم، وفي وصف ما قد يُبتلى به هذا الشعب فيما لو مضى في عصيان أمر الله.
ولو لم يغضب أولئك الأنبياء، ولو لم يأتوا بتلك الصور والفانتازيّات الموسّعة، لخسرَ الأدب العالميّ الكثير ممّا جعله أدباً عالميّاً. لكنّ ما يكسبه الأدب، من جرّاء القياميّة تلك، يعلن عن هشاشة الحياة ومدى المخاطر التي قد تحيق بالبشر.
ومَن يتابع الحرب المتواصلة على قطاع غزّة، بما يُفعل فيها وما يُقال، وبصيغ التهديد والوعيد التي ترافقها، أو بإعلانات النصر المتبجّحة التي تهبّ من جانبيها، يكاد يشعر أنّ الوجهة القياميّة تنافس الواقع على واقعيّته. وإذا كانت الأمثلة على هذا، ممّا يقدّمه الطرفان المتحاربان، أكثر من أن تُحصى، بقي أنّ احتمال تحقّقها، أو تحقّق بعضها، إيذانٌ كافٍ بانقلاب سائر المعاني، والانقلاب واحد من إشارات النهايات. فما الذي يوصف به تحقيق إسرائيل انتصاراً شاملاً كاسحاً في ظلّ قطيعة متعاظمة عن العالم وعزلةٍ هي غالباً ما تمهّد لاندحار صاحبها؟ وكيف يُترك لمستوطنين مهووسين أن يغيّروا بالعنف طبيعة الأشياء؟ وبأيّة تسمية يُسمّى جزم عدد من القابعين في أنفاق تحت الأرض بأنّهم سوف يحرزون للشعب الفلسطينيّ انتصاراً يتأرجح بهم بين البحر والنهر؟
وفي هذا جرعة من اللاعقلانيّة تتجاوز الناطقين المباشرين بها إلى من يتلقّونها مُصدّقين ويستقبلونها محتفلين، بحيث يتبدّى لوهلة كأنّ اللاعقلانيّة هذه هي عين العقل.
والحال أنّ فكرة «الإبادة»، إن كفعل جريميّ موسّع ترتكبه إسرائيل يوميّاً منذ نيّف وسبعة أشهر، أو قبلذاك كنوايا عبّرت عنها عمليّة 7 أكتوبر، تنطوي في ذاتها على إرهاص قياميّ يعيش معنا الآن في أعداد القتلى وإجلاء السكّان واحتلال الأراضي وجوع الأطفال وتغيير كلّ ما كان قائماً… وحين نتذكّر أنّ الإبادة والإباديّة حصلتا مرّات عدّة في تاريخنا الحديث، وفي المشرق العربيّ خصوصاً، يصيبنا الذعر المبرّر من أن لا تكون قياميّةُ حدثٍ ما ضمانةً ضدّ حدوثه.
والصورة هذه لا تكتمل من دون الإلماح إلى الشلل والعجز اللذين يصيبان البشر أمام حالة كهذه متخمة باليقين وباللاعقلانيّة وبالدمار، ممّا لا يبعد كثيراً عمّا يسبّبه احتمال استخدام السلاح النوويّ، سيّما متى كان احتمال كهذا يحظى بجماهيريّة واسعة تحضّ على استخدامه!
لكنْ هل يستطيع اليوم أيٌّ كان، أكان في منطقتنا أو في العالم، أن يقلب فكرة «النهاية»، بكلّ ما تنطوي عليه من وعي قياميّ، إلى «بداية»؟ وهل يمكن بالتالي إحداث انتقال تدريجيّ من العنف إلى السياسة، ومن القطع إلى التسويات، ومن الحرب إلى السلام؟
تساؤل كهذا قد يبدو ضرباً من الطوبى في ظلّ ذينك العجز والشلل اللذين يجاوران ساحة الحرب ويغلّفانها، أو في ظلّ توزّع القوى السياسيّة المؤثّرة بين تلك المنحازة كلّيّاً إلى إسرائيل وتلك التي تفتقر إلى كلّ تأثير، وهذا فضلاً عن هيمنة فكرة الانتصار بأيّ ثمن كان على كلّ فكرة أخرى. مع هذا فبلوغ الكارثة المستوى الذي بلغته، وهي أصلاً هائلة الحجم، واحتمال توسّعها إلى مناطق وبلدان أخرى، يُلحّان على جعل مبارحة الحرب كهدف إنسانيّ وأخلاقيّ تتقدّم على كلّ هدف آخر وعلى كلّ مكسب محتمل لأيّ من أطرافها.
وحين تبدو حظوظ السياسة معدومة أو شبه معدومة، لا بأس برفع الطوبى سياسةً وهدفاً وشعاراً، والتمسّك بها تالياً في مواجهة القياميّة الزاحفة علينا من شتّى المواقع والأمكنة.
أمّا المعادلتان اللتان يبدو القول بهما طوباويّاً في يومنا هذا، وفي ظلّ سطوع الوعي الحربيّ بجذريّته وباستئصاليّته، فهما نفسهما لا تتغيّران:
– أنّه لا بدّ، سياسيّاً وحقوقيّاً وأخلاقيّاً، من دولة للشعب الفلسطينيّ، وبهذا يُذلّل نصف المشكلة،
– وأنّه لا بدّ من الإقلاع عن وهم إزالة إسرائيل وعن عقليّة حلّ النزاعات بالإزالة والمحو من أيّ نوع، وهنا يكمن تذليل نصف المشكلة الآخر.
هل يُعدّ هذا تبشيراً في ظلّ ضعف الأدوات وضعف الاستعدادات؟ ربّما. لكنّ التبشير يبقى، ولو كره الكارهون، خيراً من التحريض الذي ينتهي بنا جميعاً إلى مقبرة جماعيّة ضخمة وذات شهيّة لا تنضب
لم يتبقَّ من رجال آية الله الخميني سوى المرشدِ الأعلى علي خامنئي، فقد رحلَ عن السَّاحة الرئيس إبراهيم رئيسي، وقبله هاشمي رفسنجاني، وغادرَ الساحة آخرون مثل حسن روحاني ومهدي كروبي وعلي أكبر ولايتي وعلي جنتي.
هذه أيامٌ مهمَّةٌ للإيرانيين. بوفاةِ رئيسي، وتقدُّم عمرِ آية الله خامنئي، توشك حقبةُ الجيلِ الذي وضعَ أسسَ الجمهورية الإسلامية الإيرانية على نهايتِها، ليفرض السؤال نفسه، ما هو مستقبل النظام الإيراني؟
عُرف رئيسي بأنَّه من صقور السياسة الإيرانية، مع هذا اختتم آخرَ يوم له في حياتِه بلقاءٍ تصالحي مع رئيس جمهورية أذربيجان، من جيرانِ إيران المهمين، وخصومِها الشَّرسين. افتتحا معاً سدّاً للمياه واستقل رحلتَه الأخيرة في ليلة عاصفة، التي لن تصلَ أبداً إلى طهران. ومثل حوادثِ مقتل الشخصيات المهمَّة في التاريخ سيبقَى سقوط مروحيتِه لغزاً مفتوحاً للشكوك والتأويلات.
ما يعرفه العالمُ عن حكام إيرانَ يقتصر على شخصيات الثورة، وشخصياتٍ جاءت معه من الجيل الجديد من القادة، لكنَّ معظمَهم لم يبقَ طويلاً، حيث خرجَ الرئيس السَّابق محمود أحمدي نجاد، وقُضِيَ على قاسم سليماني وعدد ممن خلَفه من قادة «الحرس الثوري» العاملين في الشأن العسكري الخارجي.
سينشغل الإيرانيون، والمهتمون بها، خلال الأسابيع الأربعة المتبقية في تخمين من سيكون الرئيس، وكذلك قيادات المستقبل الجديدة، فالبلاد على شفيرِ تجديد دماء القيادات. الرئاسة تُحسم قريباً، وسيزيدُ من الاهتمام بمستقبلِ الحكم، وبالسيد مجتبى ابن المرشد، مرشح للقيادة الأعلى منذ سنوات. لكن من الصعب الجزم وفهم المتغيرات في إيران في ظلّ وجودِ مؤسسة حكم معقدة، ذاتِ مجالسَ موازيةٍ لبعضها ومتعددة، ومراكزَ عسكرية مهمة.
أسماء المرشحين وانتخاب أحدهم للرئاسة سيعطي إشارات مهمة عن توجهات الحكم في طهران. فقد صادفَ رحيلُ رئيسي زمن الأحداث الكبيرة والقرارات الصعبة، وبقي عامٌ ونصف عام من رئاسته، والأرجح، كانَ سيجدّد له أربع سنوات أخرى رئاسية في ولاية ثانية. في هذه الفترة تنتظر إيران استحقاقات مهمة في التعامل مع صراعات المنطقة، وهي طرف فاعل في معظمها، العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة.
منصبُ الرئاسةِ مرآةٌ للدولة، وليس صاحب القرار الوحيد فيها. فقد عكست كل رئاسة مرحلة توجهات القيادة الإيرانية، حيث ترافق تقليد حسن روحاني «المعتدل» الرئاسة مع مرحلة المصالحة مع الولايات المتحدة في فترة أوباما، وتقلد رئيسي «المتشدد» الرئاسةَ في مرحلة العداء مع أميركا، بعد قرارات ترمب الذي مزَّق الاتفاق النووي وضيَّقَ على طهران نفطياً وسياسياً. فأيُّ رئيسٍ وأي مرحلة مقبلة تنتظر ايران؟ هل سيستمرُّ النظام في مواجهة العالم، واختيار أحد الصقور من المحافظين ليكونَ الرئيس المقبل، أم أنَّ غيابَ رئيسي سيمهّد لمرحلةٍ جديدة تنحو إلى المصالحة الإقليمية والدولية؟
وليس جديداً اختلاف التوجهات بشأن سياسةِ الدولة الخارجية في داخل النظام الإيراني، فهو منذ عقود. الخلافُ حول التعامل مع العالم، بين اليدِ الممدودة للمصالحة وبين المؤدلجة القابضة على السَّلاح المستمر منذ بداية الثورة. الغلبة دائماً كانت للفريق الأكثر تشدداً.
في غضون شهر، سنلمس التوجهات من الترشيحات الرئاسية ثم من نتيجة انتخاب الرئيس. وستوحي باتجاهات رياح إيران للسنوات الأربع المقبلة، هل هي ستهبُّ نحو التصالح أم ستستمر تقاتل على جبهات متعددة في مرحلة بالغة الخطورة، وأعظم ممَّا مضى؟