ترفض إسرائيل صدور مذكرات توقيف بحق مسؤولين فيها، معتبرة أن المحكمة الجنائية الدولية لا تمتلك اختصاصاً في جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة. كما تتبنى الولايات المتحدة الموقف نفسه، علماً أن الدولتين لم تنضما إلى الدول الأعضاء في محكمة العدل، شأنها شأن روسيا والصين وإيران.
أثارت إمكانية إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتانياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) ويوآف غالانت (وزير الدفاع الإسرائيليّ) صخباً في العالم، بعدما قدمت لجنة من الاختصاصيين القانونيين مجموعة أدلة تدين نتانياهو غالانت، بالإضافة إلى قادة من حماس، وهم اسماعيل هنية ومحمد ضيف ويحيى السنوار.
لخّص هذا الجدل المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان في مقابلة حين قال: “أحد القادة الغربيين قال لي إن هذه المحكمة أنشئت لأجل أفريقيا والبلطجيين مثل بوتين”، تلخص هذه العبارة الجدل القائم حول إصدار مذكرات اعتقال، إذ إنها المرة الأولى التي يتم فيها إصدار مذكرة اعتقال بحق مواطنين إسرائيليين ذوي أصول أوروبيّة.
منذ تأسيس المحكمة الجنائية الدولية سنة 2002 بعد اتفاقية روما، صدرت مذكرات اعتقال بحق 54 شخصاً من روسيا، جورجيا، ليبيا، السودان، كينيا، مالي، ساحل العاج، جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية أفريقيا الوسطى.
حادثة الاعتقال الوحيدة التي نتجت من قرارات المحكمة، هي عندما اعتقلت السلطات الصربية رئيس “جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية” سابقاً، سلوبودان ميلوسوفيتش، الملقب بـ”جزار البلقان”، سنة 2001، بعد توجيه 60 تهمة ضده بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في كوسوفو وحروب كرواتيا والبوسنة.
إصدار مذكرات توقيف: لمن الصلاحية؟
ترفض إسرائيل صدور مذكرات توقيف بحق مسؤولين فيها، معتبرة أن المحكمة الجنائية الدولية لا تمتلك اختصاصاً في جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة. كما تتبنى الولايات المتحدة الموقف نفسه، علماً أن الدولتين لم تنضما إلى الدول الأعضاء في محكمة العدل، شأنها شأن روسيا والصين وإيران.
يظهر السجال في ما يتعلق بصلاحية المحكمة الجنائية الدولية تضليلاً لآلية عمل المحكمة والأدلة التي تستند إليها قراراتها. بحيث أن المحكمة الجنائية الدولية تعتبر “أداة قانونية مهمة قادرة على محاسبة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم دولية خطيرة مثل جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية”.
تصدر الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية “مذكرة التوقيف إذا وجدت أن مجموع الأدلة التي قدمها المدعي تُعد “أساساً منطقياً للاعتقاد” بأن الشخص المذكور ارتكب جرائم تدخل ضمن الاختصاص القضائي للمحكمة”، بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش.
في هذا السياق، يوضح كينيث روث، المدير التنفيذي السابق لمنظمة هيومن رايتس ووتش (1993-2022)، وأستاذ زائر حالياً في كلية السياسة العامة والشؤون الدولية في جامعة برينستون، في مقابلة مع موقع “درج” أن إسرائيل تستند إلى حجتين لتبرير ادعاءاتها، “أولًا، لم تنضم إسرائيل إلى المحكمة، وبالتالي لا يمكن محاكمتها أمامها. ومع ذلك، يمنح ميثاق روما، وثيقة تأسيس المحكمة، الاختصاص للمحكمة للنظر في الجرائم المرتكبة على أراضي دولة عضو (فلسطين)، حتى لو ارتكبها مواطن من دولة غير عضو (إسرائيل)”.
تظهر هذه الحجة ازدواجية المعايير التي تُستخدم حين التعامل مع القضايا التي تتعلق بفلسطين. يضيف كينيث في هذا الإطار، “لسنوات عدة، كانت حكومة الولايات المتحدة تشارك وجهة نظر إسرائيل الخاطئة حول سلطة المحكمة الجنائية الدولية، ولكن الرئيس الأميركي جو بايدن تخلى عن ذلك الموقف بعد اتهام المحكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. استخدمت المحكمة الاختصاص الإقليمي نفسه – حيث لم تنضم روسيا إلى المحكمة، ولكن أوكرانيا منحت الاختصاص – ووصف بايدن ذلك بأنه “مبرر””.
كما تستند إسرائيل والولايات المتحدة إلى فرضية أن فلسطين ليست دولة، حجة تتلاشى مع اعتراف إسبانيا والنرويج وإيرلندا بدولة فلسطين، وإعلان كولومبيا فتح سفارة في رام الله. وهي تطورات تدحض ادعاءات إسرائيل، التي تواجه اعتراف أكثر من 143 دولة حول العالم بدولة فلسطين.
يوضح كينيث في هذا الإطار، أن إسرائيل والولايات المتحدة “تدعيان أن فلسطين لا يمكنها الانضمام إلى المحكمة لأنها ليست “دولة”. ومع ذلك، رفضت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية هذه الحجة بالفعل، مشيرة إلى اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين كـ (دولة مراقب غير عضو)، وبصفتها هذه صدّقت فلسطين على الكثير من معاهدات حقوق الإنسان، بما في ذلك ميثاق روما”.
إسرائيل وحماس أثر غير متساو
تكمن أهمية إصدار مذكرات التوقيف في أنها تجبر الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية، والتي بلغ عددها 124 دولة، على اعتقال غالانت ونتانياهو ما إن يصلوا إلى إحدى هذه الدول. وهذا ما قد يسبب بعزلة قادة إسرائيل عالمياً، إذ تمنعهم من المشاركة في المؤتمرات والفعاليات الدولية تحت طائلة اعتقالهم.
على سبيل المثال، بعدما دعت 39 دولة الى التحقيق في الهجوم الروسي على أوكرانيا، أصدرت المحكمة سنة 2022 مذكرة توقيف بحق بوتين لارتكابه جرائم حرب على الأراضي الأوكرانية. ما أجبر بوتين على إلغاء مشاركته في قمة بريكس في جنوب أفريقيا العام الماضي مخافة من الاعتقال.
اضطر الرئيس السوداني السابق عمر البشير أن يفر من مطارات نيجيريا وجمهورية جنوب أفريقيا بعد إصدار مذكرة اعتقال بحقه سنة 2009، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لكن البشير سافر الى دول عدة ولم يُعتقل حتى اليوم، لأن الدول التي سافر إليها تعتبر أن “القانون الدولي العرفي يعترف بحصانته كرئيس للدولة”.
دحضت منظمة “هيومان رايتس ووتش” الفرضية السابقة، ضمن بيان يوضح أن “نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية ينطبق على الجميع بغض النظر عن مناصبهم الرسمية. وأية حصانة يتمتع بها الشخص في بلده بناء على منصبه الرسمي لا تمنع المحكمة الجنائية الدولية من نسب الاتهامات إليه. والمادة 27 من نظام روما ورد فيها بشكل صريح أن رؤساء الدول ليسوا مُحصنين من الملاحقة القضائية”، وهو تفسير يخالف تصريحات نتانياهو بشأن “عدم خوفه من السفر”.
في المقابل، لا يخاف قادة حماس مذكرات الاعتقال، هم “آمنون” في غزة، لا دول تستقبلهم، ولا نظرة في السياسة الدولية تجاههم سوى “النظرة الإرهابية”.
لا علاقات دبلوماسية لقادة حماس مع دول العالم إلا مع قطر وتركيا، اللتين ليستا عضواً مع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية.
تضييق إسرائيل الخناق على غزة وحصارها لمدة تقارب العقدين وإلحاق بها صفة “الإرهاب”، ذلك كله جعل من عقوبة دولية بحجم إصدار مذكرة توقيف بحق قادة حماس عقوبة لا تؤثر على قادة الحركة، إذ فرضت إسرائيل عليهم هذه العقوبات قبل أن تصدرها المحكمة الجنائية بكثير.
إسرائيل وحلفاؤها ينكرون الإبادة
تنكر الولايات المتحدة التهم الموجهة الى إسرائيل، إذ صدر عن بايدن تصريحات من قبيل “لا يوجد مجاعة في غزة” على رغم التقارير الأممية التي تبرهن ذلك. كما تلوّح الولايات المتحدة بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية في حال أصدرت مذكرات الاعتقال. وهي ليست المرة الأولى التي تفرض بها الولايات المتحدة عقوبات على المحكمة لأسباب سياسية، منها حماية إسرائيل.
فرضت الإدارة الأميركية في عهد ترامب عقوبات على المدعي فاتو بنسودا، منها قيود على السفر وقيود مالية، عندما فتحت تحقيقات في أفغانستان، والتي تضمنت أميركيين متورطين في قضايا تعذيب.
كما عوقبت المحكمة لأنها فتحت تحقيقات في فلسطين، ما عنى أن مسؤولين إسرائيليين كانوا عرضة للمساءلة. ثم رفع بايدن العقوبات سنة 2021.
يقول كينيث في هذا الخصوص: “تُناقش العقوبات المفروضة على مدعي المحكمة الجنائية الدولية وربما على الموظفين فيها، إذ يهدد بعض أعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس الأميركي الآن بفرض عقوبات مرة أخرى، ولكن المدعي العام الحالي للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، أصدر تحذيراً مفاده أن أي انتقام ضد المدعي العام أو موظفيه لأداء واجبهم قد تنتج منه تهم بعرقلة سير العدالة. آمل ألا تصبح هذه التهديدات الجديدة بفرض عقوبات واقعاً، ولكن إذا حدث ذلك، أعتقد أن خان لن يستسلم لها”.
شجّع السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، على فرض هذه العقوبات “ليس فقط بسبب الاستياء من إسرائيل ولكن أيضاً لحماية مصالحنا الخاصة في المستقبل”. وهو السيناتور نفسه الذي صرح أن المحكمة الجنائية “ستفعل ذلك بإسرائيل وسيلاحقوننا بعدها”، باعتراف ضمني أن الولايات المتحدة وإسرائيل هنا فوق القانون.
على رغم أهمية صدور هذا القرار وفرادته، إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن مذكرة الاعتقال لا تحقق العدالة، بل تشكّل خطوة أولى نحو تحقيقها، وذلك في حال تم الاعتقال.
وقد لا يؤول التحقيق إلى إثبات أي من الجرائم ضد نتانياهو أو غالانت، ناهيك بموقف مسؤولي إسرائيل وحلفائهم المُتعالي، إذ برفضهم مذكرات الاعتقال هذه (إن صدرت)، على رغم العلاقات التي بنوها والدعم غير المشروط الذي يتلقونه حول العالم، فإنهم بهذا الرفض، يقولون إنهم محصنين ليس فقط من العقاب، بل أيضاً من المساءلة.