يصف نبيل عمرو الأيام الأخيرة لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، متوقفاً عند بطلين: ياسر عرفات والشعب اللبناني. الزعيم المنهك في محاربة الاجتياح الإسرائيلي، والمصر على الاستمرار، واللبنانيون المتعبون تحت القصف والحصار. يجول أبو عمار في المدينة لرفع المعنويات، ويخرج إليه البيروتيون لا يجرؤون على البوح بحقيقة الموقف: أكره ما لدينا هو أن نطلب منك الخروج، لكن لم يعد في إمكاننا الاستمرار. ارفق بنا.
خرج أبو عمار إلى اليونان، ثم إلى السودان، ثم تونس، ثم أوسلو، ثم «المقاطعة». وفي كل هذه الرحلة كان يحمل على ظهره القضية التي أعادها إلى الحياة. وعلى الطريق إلى فلسطين، كان الإسرائيليون يرسلون عليه أرييل شارون، والعرب يرمونه بالشتائم والطماطم. وكان يبتسم رافعاً شارة النصر. فهذا اللاجئ المشرد، كان أمس في البيت الأبيض، بسترته العسكرية الفلكلورية، يعانق بيل كلينتون، ويصافح إسحاق رابين، ويدفع أمامه فلسطين على كرسي متحرك، شبه مخلّع، لكنه عاصٍ على السقوط.
بالعناق والضحك والحروب والتراجع والصمود والسقوط في الصحراء، وصل شريد الأوطان إلى قطعة من فلسطين يبني عليها بيتاً، لا خيمة. وألغى مصطلح اللاجئين، واستبدل به النازحين. وجلس رئيس فلسطين إلى جانب ملوك ورؤساء العالم بصفته رئيس دولة، وليس «عضواً مراقباً».
استعاد «القرار الفلسطيني المستقل». واليوم يقول الرئيس فؤاد السنيورة إنه يجب أن تستعيد القضية الفلسطينية عروبتها قبل أن تعيد إقامة دولتها وعاصمتها في القدس.
غريب، كيف يغيب ذكر ياسر عرفات وحضوره وقد أصبحت الجبهة الفلسطينية الأولى في فلسطين، وليس في بيروت، أو عمان، أو تونس. جميع الذين يتحدثون اليوم عن التحول الذي صنعته «حماس» في مصير القضية، جميعهم لا يأتون على ذكر الرجل الذي أعادها إلى الحياة بين الأمم، بعدما كانت قد أصبحت شيئاً أثرياً متحفياً مهلهلاً يدعى «مكتب عموم فلسطين».
تحظى الولايات المتحدة، سواء أحبَبْتَها أم كَرِهتَها، برئاسة ذات صبغة إمبراطورية، وفي فترة ولايته الأولى أظهر دونالد ترمب سجلاً حافلاً باستخدام مثل هذه السلطات بقدر كبير من الاستمتاع على الساحة العالمية. وكما هي الحال في عدد من المجالات، فهو لا يتبنى نهجاً تقليدياً في التعامل مع العلاقات العالمية، ولكن قد يتبين أن ترمب، على غرار ريتشارد نيكسون، وجورج بوش الأب من قبله، يستمتع بالانخراط في السياسة الخارجية.
بطبيعة الحال، قد يكون أسلوبه في السياسة استفزازياً، ولكنه فعّالٌ أيضاً. إن نهج ترمب تجاه مكانة أميركا في العالم نهجٌ براغماتي، أو لا يمكن التنبؤ به أو كلاهما، ويمكن أن يوفر فرصاً مفاجئة للسلام.
إذا ما عاد ترمب إلى المكتب البيضاوي، فقد يسعى إلى المفاجأة في تصرفاته بشكل يلهب المقارنات حول عدم إمكانية التنبؤ به وتقلبه، مع نيكسون وسياسته الخارجية «المجنونة».
خلال فترة ولاية ترمب الأولى، لم تلق نتائج سياسته الخارجية التقدير اللازم. فبالنسبة لشخص «مجنون»، تحققت إنجازات حقيقية: لم تندلع حروب خارجية جديدة، وأبرمت اتفاقات أبراهام التي تصوّر عدد من الخبراء أنها كانت مستحيلة، وصار التركيز على الصين قضية عابرة للحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، الأمر الذي نبه الحلفاء إلى ضرورة مساهمتهم في الدفاع عن أنفسهم.
ما لم يتغير المشهد العالمي فجأة، فسيعود ترمب إلى المكتب البيضاوي في مواجهة أنواع من الأزمات الخارجية – ولا سيما الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط – التي كان يتجنبها إلى حد كبير في ولايته الأولى.
لكن من المؤكد أن الظروف لن تغيّر الطريقة التي يدير بها الشئون الخارجية. في ولايته الأولى، تقلب ترمب بين كونه أبغض الناس لدى المؤسسة والمحافظين الجدد ذات يوم (كما هي الحال في تفاعلاته مع كيم جونغ أون وقادة حلف شمال الأطلسي)، وكونه رأس الحربة الشرسة للقوة الأميركية في اليوم التالي (كما حدث وقت الضربة الجوية التي قتلت قاسم سليماني في بغداد عام 2020).
في فترة ولاية ثانية، من المرجح ألا يشكّل ترمب حكومة يمينية تتألف من مسؤولين تنفيذيين في قطاع النفط وجنرالات الجيش. بدلاً من ذلك، سيستعين بمجموعة جديدة من شخصيات المؤسسة أو البراغماتيين، فضلاً عن مجموعة من المستشارين المرتبطين باليمين الجديد، والذين يريدون حركة أشد وأوسع نطاقاً في السياسة الخارجية. وهؤلاء يتساءلون، في ظل حالة متزايدة من السخط على حالة الثقافة الأميركية، عما إذا كان عدو جديد من نمط الحرب الباردة، وربما الصين، قد يوحد الشعب الأميركي مجدداً. إن أعضاء هذه المجموعة اليمينية الجديدة يختلفون بشكل متزايد فيما بينهم، وخصوصاً حول المسافة التي يجب قطعها نحو الصين، وقدر التبدل الذي يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية المحافظة مع السياسة الإسرائيلية.
من بين البراغماتيين الجدد، من شبه المؤكد أن الرجل الذي خلف جون بولتون في منصب مستشار الأمن القومي؛ أي روبرت أوبراين، سيضطلع بدور رئيسي في فترة الولاية الثانية، ربما بصفته وزيراً للدفاع أو وزيراً للخارجية.
السيد أوبراين محام بسيط، ولكنه قوي من الساحل الغربي. (نقطة أخرى يتردد صداها في مقارنة ترمب بنيكسون: في عام 2022، جرى تعيين السيد أوبراين رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة ريتشارد نيكسون). وهو يطلق على نفسه اسم ريغان الجمهوري، وسيكون من السهل تثبيت تعيينه أمام مجلس الشيوخ.
قد يضم الفريق أيضاً المدير السابق بالنيابة للاستخبارات الوطنية ريتشارد غرينيل، الذي كان سفير ترمب لدى ألمانيا من 2018 إلى 2020. غرينيل حليف لأوبراين، وهو ينخرط في سجالات سياسية مشخصنة صادمة تميزت بها فترة ولايته المضطربة في برلين. لكن أسلوبه يتوافق جيداً مع نهج ترمب في التعامل مع الدبلوماسية كمفاوضات.
بالإضافة إلى الآيديولوجيين والبراغماتيين المتحمسين، هناك بيئة لا يمكن التنبؤ بها من المؤمنين الحقيقيين، من بينهم ستيف بانون، والعقيد المتقاعد دوغلاس ماكغريغور، وهو بطل في طائفة اليمين الجديد الذي نُصّبَهُ المُوالون لترمب في البنتاغون خلال فوضى الفترة الانتقالية 2020 – 2021، بهدف تحقيق انسحاب سريع من أفغانستان.
سيقترح هذا الفريق رؤية – تتسم بالنفور النسبي من الآيديولوجية ولكن مع تسامح إزاء الراديكالية – يمكنها أن تحقق نهج السياسة الخارجية لترمب الذي يفضل مزيجاً من الابتعاد عن المتاعب والانخراط في الصراعات بشكل حاسم ولفترة وجيزة. غالباً ما يتفاعل المحاربون القدامى في واشنطن بحيرةٍ واضحة مع فكرة أن ترمب لديه رؤية للسياسة الخارجية على الإطلاق. لكن الانطباع العالمي بأن ترمب هو بيدق بيد فلاديمير بوتين – ومعجب بالمستبدّين مثل كيم – يحفزه فقط لتحقيق المفاجأة في الاتجاه الآخر.
* المدير التنفيذي لموقع «المحافظ الأميركي»* خدمة «نيويورك تايمز»