الخاسر… الثاني من اليمين
في الصحافة العالمية منصب خاص «لمحرر كلام الصور». هو الذي يختار الصورة الأهم بين مجموعة ملتقطة، وهو من يكتب كلامها، وهو خصوصاً، من يكتب عنوانها. بعد فوز دونالد ترمب نُشرت في صحف أميركا صورة يظهر فيها (وقوفاً) الرئيس جو بايدن، وقرينته، والرئيس السابق باراك أوباما وقرينته، ونائبة الرئيس كامالا هاريس من دون قرينها.
خطر لي أن أضع عنواناً للصورة التذكارية التي تركت من دون عنوان. مثلاً: «الخاسرون والخاسرات»، أو «الخارجون»، أو «وداع الألوان المختلفة في البيت الأبيض»، أو «رئيسا الفعل والظل في صورتهما الأخيرة». إذا تأملت المشهد على طريقة «محرر الصورة»، فسوف تجد أن الخاسر الأكبر ليس كامالا هاريس. فهي قد دخلت المعركة سيدة مجهولة بلا رأسمال يذكر، وأصبحت نجمة سياسية. وليس جو بايدن، فقد كسب مرتبة الرئاسة ودخل التاريخ يحمل رقماً ولقباً. يبقى إذن، باراك أوباما، الذي كان «يحرك» في الظل المكشوف، بايدن وهاريس معاً، وقد خسرا وخسر معهما، وتسبب في هزيمة كبرى للحزب الديمقراطي.
كان أوباما رهاناً خاسراً في كل شيء، إلا في فوزه بصفته أول رئيس أفرو – أميركي. بعد فوزه خذل الأقليات، وخذل قضاياها، وتخلى عن الوساطة في القضية الفلسطينية بالسرعة التي بدأها، وتفرج على «الربيع العربي» يمطر المنطقة شتاء وعواصف فارغة، وكان مقتنعاً بأن الوقوف إلى جانب المتشددين أفضل من صدهم على «الطريقة الواقعية». وعندما غادر البيت الأبيض، ظل يمارس من خلال جو بايدن، نوعاً من التأثير. وكان له دور في تعيين هاريس نائبة للرئيس، ثم في اختيارها مرشحة للرئاسة.
هل كان أوباما أيضاً وراء دعوة الرئيس المنتخب إلى البيت الأبيض أمس الأربعاء، بعكس ما فعل ترمب يوم خسر أمام بايدن فغادر واشنطن لكيلا يحضر حفل التنصيب؟
كانت «ضربة معلم» أن يتعالى بايدن على جروح المعركة، ويقرر تسليم الرئاسة ومفاتيح البيت الأبيض خلفه. وهو تقليد توقف منذ عام 1992 عندما سلم جورج بوش الابن الرئاسة إلى بيل كلينتون.
خلال الحملة الانتخابية اتهم بايدن خلفه وسلفه ترمب بأنه عدو الديمقراطية وتقاليدها. لكنها سوف تبدو في أفضل حللها عندما يلتقي الرئيسان وجهاً لوجه، وقد أصبحت خلفهما العبارات السيئة، والإهانات، وخصوصاً مقذوفات الرئيس الجمهوري على خصمه، بكل الوسائل وكل الأوقات.
أحصى المؤرخون نحو مائة تهديد أطلقها ترمب ضد «مجانين اليسار»، واتهم بعضهم بالخيانة، لكن الرئيس يبدو أكثر هدوءاً من المرشح. إنها آخر المعارك للرابحين والخاسرين معاً.
في الحرب الأهلية اللبنانية، لم تبق دولة أو جهة، لم ترسل أسلحة القتل إلى لبنان. والبعض الآخر كان أكثر اهتماماً، فأرسل السلاح وحملته. وفي ذروة الخراب والقتل والانقسام، وصلت بيروت قوافل من الشاحنات السعودية تحمل المؤن الغذائية والطبية، وظلت تلك الحرب توسع المقابر والمهاجر، إلى أن دعت المملكة فرقاءها إلى مدينة الطائف، وأغلقت عليهم الأبواب، وقالت لهم، لا تخرجوا من هنا إلا بتوقيع السلام الأهلي الدائم، الذي سمي «اتفاق الطائف».
ما إن انتهت حرب العرب في لبنان، حتى قام صدام حسين باحتلال الكويت. أدارت الرياض حرب التحرير على ثلاثة مستويات: أولاً السياسي، وثانياً: حفظ كرامة الكويتيين أميراً وشعباً، وثالثاً: على المستوى العسكري. ثم تبنت الرياض في قمة بيروت المبادرة العربية الأولى لحل دائم في الشرق الأوسط، الذي لا حل من دونه: دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية.
دور بدأ قبل قرن ولم يتغير: وحدة العرب وأمانهم. واقتصاد المملكة وازدهارها. وفي هذه القمة، تبلَّغ الضيوف أن القاعدة تتطور ولا تتغير، وشاهدوا مدينة نادرة المثال بين عواصم العالم. هكذا حقق سيد الريادات العمرانية، وهكذا يكمل ولي عهده.
وجهت القمة العربية الإسلامية رسائل أساسية في كل اتجاه، العرب والعالم: لا تغيير في حجم أنملة في ثوابت الثوابت. ولا تأويل ولا تفسير ولا اجتهادات. السياسات الكبرى تقوم على الرؤية البعيدة. وفي الرؤية البعيدة، لا تحسب المسائل العابرة. لذلك عندما شجب الأمير محمد بن سلمان بكل قوة العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، استنكر أيضاً الهجمات على الأراضي الإيرانية. حسن الجوار قاعدة عامة لا انتقائية. ولن يصدر من الرياض، خصوصاً وهي تستضيف الأمتين، إلا ما هو في مصالح شعوبهما، التي أصبحت تشكل ثلث البشرية. وهذا الثلث بدا في القمة مثل «قوس قزح» متعدد الألوان، كما يحدث في الصحو بعد غيم ملبد.
غير أن الكثير من الغيوم لا تزال تعتّم أجواء المنطقة. والحقيقة أنها تبدو منقسمة إلى قسمين: واحد يمتلئ عماراً، وآخر يلجّ عليه الخراب والدمار وما هو أسوأ. أي الإصرار عليهما.
مصادفة أو مقصودة، كانت القمة رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي المنتخب قبل الجلوس وراء مكتبه في البيت الأبيض.
انتهت الانتخابات الأميركية بفوز ساحق للمرشح الجمهوري دونالد ترمب، فأصبح الرئيس الـ47 للولايات المتحدة، حيث حصل على 312 صوتاً من أصوات المجمع الانتخابي مقابل 226 صوتاً لمنافسته الديمقراطية كامالا هاريس.
أما وقد حسمت الأمور لصالح ترمب، فإن التركيز انتقل إلى السؤال عن توجهات وبرامج الرئيس في السياسات الخارجية، خصوصاً في منطقة شرق المتوسط، التي احتلت قضاياها وتطوراتها مكانة مهمة في المعركة الانتخابية، وشغلت حيزاً ملموساً من اهتمام ترمب نتيجة ما شهدته المنطقة من تطورات بعد عملية «طوفان الأقصى» 2023، والرد الإسرائيلي الواسع في حرب غزة، وتمددها في الإقليم، وما جلبته من تداعيات في منطقة غارقة بالأزمات والمشاكل، سواء في المستويات الداخلية، وفيها حروب وصراعات، وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، تغذي عدم الاستقرار والهجرة والعنصرية في المنطقة ومحيطها الدولي، أو في المستويات الخارجية سواء في مستوى العلاقات البينية التي يسودها التوتر والاحتقان بين مختلف الدول، وفي علاقات دول المنطقة بالعالم، وفيها ملفات شديدة الحساسية أبرزها الصواريخ الباليستية وملف إيران النووي، وظواهر التطرف والإرهاب والهجرة وملف الكبتاغون.
وتحتل منطقة شرق المتوسط مكانة مهمة في سياسة واشنطن الخارجية لأسباب متعددة. وبغض النظر عن الرئيس والحزب الذي ينتمي إليه، فإن علاقات الولايات المتحدة مع إسرائيل ذات أهمية كبرى، والتزام الأولى بـ«أمن» ووجود الثانية موضوع لا نقاش فيه، ودعم سياسات إسرائيل حيال جوارها غير محدود، حسبما ظهر في العام الماضي من حرب إسرائيل ومعاركها، وكلها توجهات أكد ترمب التزامه بها، وحرصه على السير فيها إلى أبعد الحدود، وألحق بها إشارات إلى مساعي سلام في المنطقة، وقول من أجل دولة فلسطينية، وهي إشارات سمعها العرب مرات من كبار المسؤولين الأميركيين على مر عقود مضت.
ويشغل موضوع إيران حيزاً من اهتمام واشنطن في عهد الرئيس ترمب، خصوصاً أنه صاحب أهم إجراءين شهدتهما علاقات الطرفين في العقد الماضي. أولهما إلغاء الاتفاق النووي مع إيران 2018، وإصدار أمر اغتيال الجنرال قاسم سليماني 2020. ويمكن أن تتصاعد سياسة ترمب في المرحلة المقبلة وسط توافق أميركي مع إسرائيل، ورضا ضمني من تركيا وربما دول أخرى، خصوصاً لجهة معالجة موضوع الميليشيات في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وإتاحة الفرصة لهذه البلدان لإعادة ترتيب أمورها بعيداً عن تدخلات هذه ميليشياتها.وإذا كانت سياسة واشنطن حيال إسرائيل وإيران داعمة للأولى ومناهضة للثانية، فإن العلاقات مع أغلب دول المنطقة، ستكون في نسقها الطبيعي، وسط ميل لمرحلة أفضل في علاقات واشنطن مع تركيا والبلدان العربية، خصوصاً بعد تصريحات ترمب عن تحسين وتطوير العلاقات مع المملكة العربية السعودية وشقيقاتها في الخليج والأردن ولبنان، وتفرض الضرورة على تحسُّن العلاقات دوراً نشطاً لواشنطن في وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، والمشاركة في استعادة الأوضاع عبر حل، يعيد الحياة هناك إلى طبيعتها بعد كل ما حصل من وحشية مدمرة جراء الحرب الإسرائيلية.
ووفق مؤشرات متعددة، هناك اهتمام أميركي متصاعد بالقضية السورية، يتَّجه نحو تغييرات، يتم العمل على تحديد معالمها قبل مباشرة الرئيس وإدارته المسؤوليات، وسيكون أساس التغييرات ما هو معروف من مواقف ترمب عن الوضع السوري، ومحصلة لقاءات الرئيس وبعض أركان فريقه الانتخابي مع سوريين أميركيين، كان بين نتائجها تصريحات للرئيس، أظهرت تغييرات في الموقف من النظام السوري، وأكدت ضرورة معالجة القضية السورية، وما تركته تردياتها من صعوبات في حياة السوريين، وكل ذلك يتناغم مع فكرة مفصلية في الحل السوري، خلاصتها إخراج إيران وميليشياتها من سوريا، وهي الفكرة التي تؤيدها واشنطن.
خلاصة القول، إن منطقة شرق المتوسط تستعد لمرحلة جديدة من السياسة الأميركية تحت إدارة ترمب، وهذه المرحلة بحاجة إلى رعاية وتحرك العرب المستفيدين من إيجابياتها، ليس من أجل تطوير تلك الإيجابيات فقط، بل مواجهة السلبيات والعمل على تغيير ما فيها من أضرار تصيب العرب، خصوصاً دعم ومناصرة إسرائيل من جانب الإدارة الأميركية، ودفع الأخيرة إلى مواقف متوازنة. وهي مهمات صعبة جداً في الوضع الحالي، لكن لا شيء يمنع من المحاولة، خصوصاً المحاولة الجادة، وفي تاريخ السياسة الأميركية حيال إسرائيل مواقف أخرى غير التأييد الأعمى للعنجهية الإسرائيلية.