في غمرة الوباء الكاسح، رحل «الذي كان يقرأ روايات الحب» تحت وطأة الإصابة الفيروسية، وانطفأ الذي أهدى العالم أعذب الأدب الأميركي اللاتيني في العقدين المنصرمين. فبعد أسابيع من الصراع مع الفيروس الذي أصيب به إثر عودته من البرتغال حيث شارك في المهرجان الأدبي الشهير «تيارات الكتابة» على مقربة من لشبونة، غاب الكاتب التشيلي لويس سيبولفيدا في مدينة «أوفييدو» الإسبانية حيث كان استقرّ منذ سنوات مع زوجته الأولى بعد عشرين عاماً من الفراق. ومنذ إعلان وفاته ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بشهادات الوداع لهذا الكاتب الذي كان يجلس على أورف أغصان الأدب الأميركي اللاتيني الحديث، ورحل معزولاً عن أقربائه وأحبائه هو الذي قال عنه يوماً غارسيّا ماركيز: «تقرأه وتشعر برغبة شديدة في التعرّف إليه، تتعرّف إليه وتتمنّى أن تدعوه للعشاء كل يوم في منزلك».
وكانت الشهرة، الأوروبية أولاً ثم العالمية، قد جاءته، على غرار العديد من كتّاب أميركا اللاتينية في العقود الماضية، في العام 1993 بعد صدور الترجمة الفرنسية لروايته «العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية» التي ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة وجعلت منه الكاتب الأوسع انتشاراً في أوروبا بين أدباء الإسبانية. وترسّخت شهرته بعد أربع سنوات مع صدور روايته «حكاية النورس والهرّ الذي علّمه الطيران» التي لاقت رواجاً واسعاً ونُقلت إلى السينما في إيطاليا حيث كانت أعماله تتصدّر لوائح المبيعات ومنحته عدة جامعات الدكتوراه الفخرية قبل أن تمنحه فرنسا الوسام الأعلى للفنون والآداب.
أتذكّر اليوم ما قاله لي في ربيع العام 2011 خلال لقاء نظّمته المكتبة الوطنية بمدريد: «الرواية الجيّدة كانت دائماً هي تاريخ المهزومين، لأن المنتصرين عندهم من يكتب لهم تاريخهم. وقدَرنا نحن الكتّاب أن نكون صوت المنسيين والخاسرين في هذا العالم». يومها كان سيبولفيدا قد بدأ يشعر بلذّة الانتصار في الحياة بعد فاصل طويل من الخسائر والهزائم والألم في طوابير المنفى اليساري الأميركي اللاتيني.
كان سيبولفيدا يحمل في عروقه دم السكّان الأصليين من أمه المتحدّرة من مجموعة «مابوتشيه»، وكان يردّد أن تلك الدماء هي التي ساعدته على الصمود والمقاومة في السجون والمنافي والمحن الكثيرة التي مرّ بها. انخرط في صفوف الحزب الشيوعي التشيلي عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وكان من أوائل الناشطين البيئيين الذين اعتقلهم نظام بينوشيه بعد الانقلاب على سالفادور الليندي، وأمضى عامين في سجون الديكتاتورية قبل أن يُفرج عنه بفضل وساطة الفرع الألماني لمنظمة العفو الدولية.
بعد خروجه من السجن بدأت رحلة المنافي في أوروغواي ثم في البرازيل والباراغواي قبل أن ينتقل ليعيش ثلاث سنوات مع السكّان الأصليين في إكوادور. وفي العام 1979 انضمّ إلى الثورة الساندينية التي كانت تقاتل ضد نظام سوموزا في نيكاراغوا، وبعد انتصار الثورة انتقل إلى ألمانيا حيث أصبح ناشطاً في حركة «غرين بيس» البيئية.
كان يذكر دائماً أن حياته رواية طويلة وقاسية وصلت في خواتيمها إلى ما يشبه السعادة التي لا يصنعها النجاح بقدر ما تنسج الأحلام صوفها. وفي «حكاية النورس» يقول: «وحده الحلم، والوفاء للحلم، هو السبيل لنكون أفضل. وإن تعذّر علينا أن نكون أفضل، سيكون العالم أفضل مما هو عليه».
الطبيعة والبيئة كانت دائما حاضرة بقوّة في أعماله الأدبية ومقالاته الصحافية، وفي الأفلام الوثائقية التي أخرجها وفازت بجوائز عالمية مثل «الفؤاد الأخضر» الذي نال الجائزة الأولى في مهرجان البندقية عام 2003. ورغم فصول المنفى والعذاب كان سيبولفيدا فرِحاً ومقبلاً بنهم وسخاء على الحياة. يقول: «ثمّة أسباب عديدة تجعلك سعيداً في هذه الحياة، منها واحد اسمه الماء، وآخر اسمه الهواء، وآخر اسمه الشمس التي تأتي دائما كمكافأة بعد المطر».
في روايته الجميلة «حكاية النورس والهرّ الذي علّمه الطيران» عندما يكتشف النورس الصغير على رصيف ميناء هامبورغ أنه ليس هرّاً، يساوره الاعتقاد بأن قطط المرفأ يحتقرونه لأنه يختلف عنهم. لكن الهرّ الأكبر، الذي سيعلّمه بعد ذلك على الطيران، يقول له: «العكس تماماً هو الصحيح، نحبّك كثيراً لأنك لست مثلنا». أصدقاؤه الكثر يقولون إنه كان يعيش هاجس الاختلاف الذي كان يدفعه إلى الشغف الدائم بالتواصل ويغذّي عنده الرغبة في الشعور بمحبة الآخرين الذي كان سخيّاً في معاملتهم. ويعترف العديد من الكتّاب الشباب في أميركا اللاتينية بأن الفضل يعود له في مساعدتهم على نشر أعمالهم الأولى هو الذي كان يقول «الأدب والصداقة وجهان لقمر واحد».
تقول زوجته الشاعرة كارمن يانييس التي رافقته وحدها طوال فترة إصابته وعند الوداع الأخير: «تزوّجنا للمرة الأولى في أيام الليندي الجميلة يومها كان الغرام مثل معانقة السماء في ليلة صيفية مقمرة، ثم جاءت الديكتاتورية وضيّعنا بعضنا إلى أن عدنا والتقينا من أجل تشيلي بعد عشرين عاماً».
تحتفظ كارمن برماد رفاته وتقول إنها ستعيده إلى البلاد التي كانت تسري في عروقه كلما كان يعرّف عن نفسه بالقول: «أنا إنسان من تشيلي»، وتذكر ما أجابها به في لحظات وعيه الأخيرة عندما قالت له إنه شجاع وتجاوز محناً اصعب من هذه: «الشجعان ليسوا إلّا أشخاصاً قرّروا معانقة الخوف في حياتهم».
الكاتب الكولومبي سانتياغو غامبوا، الذي كان من أقرب أصدقاء سيبولفيدا، كتب في وداعه يقول: «كان كاتباً مقروناً بالسعد والسعادة، وصديقاً فريداً يختلف عن كل الأصدقاء، ولعلّ هذا هو السبب الذي لأجله كنا نحبّه… إلى الأبد»
المتنبي مشخّصاً علاج «بنات الدهر»
قدم شاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي وصفات علاجية لمصائب الدهر المتعددة، كتبها في «روشتات» شعرية غاية في الروعة والجمال، انطلقت من تجربة ومواقف تعرض لها الشاعر شخصياً في حياته الضاجّة الصاخبة، لكنها وصفات تعدت واقعه الشخصي إلى واقع الإنسانية كلها.
ولعل من الصعوبة الإحاطة بكل وصفات المتنبي الشعرية، لكن، وفي ظل جائحة «كوفيد – 19». التي اجتاحت العالم بأسره بعد أن خلفت موتى ومصابين بالملايين، وما سببته من ذعر وخوف وإجراءات احترازية، يمكن الوقوف على نماذج من هذه الوصفات التي قدمها شاعر العربية لمحبي شعره لعلاج كثير من الجوائح والمواقف والمصاعب والآمال والآلام التي تواجه الإنسان، ويقف عاجزاً عن حلّها ولا يجد إزاءها من خيار سوى اليأس واختيار الموت.
أولى هذه الالتقاطات ما قاله المتنبي، عقب مفارقته سيف الدولة الحمداني، وتوجُّهه إلى مصر، بعد أن كاتبه كافور الإخشيدي بالمسير إليه في الفسطاط، وأنشده إياها عام 957م، التي يعرّض فيها بسيف الدولة، بعد قصة جرت أحداثها في مسألة باللغة، بحضرة سيف الدولة والشاعر، بين أبي الطيب اللغوي، وابن خالويه، فتكلَّم أبو الطيب المتنبي، وضعّف قول ابن خالويه، ولم يجد ابن خالويه من رد غير أن يخرج من كمه مفتاحاً من حديد، ويشير به إلى المتنبي. فقال المتنبي: «ويحك اسكت فإنك أعجمي وأصلك خوزي فمالك والعربية؟!»، فضرب وجه المتنبي بذلك المفتاح فأسال دمه على وجهه وثيابه، فغضب المتنبي من ذلك، لا سيما إذ لم ينتصر له سيف الدولة، لا قول ولا فعل، وكان ذلك أحد أسباب مفارقته لسيف الدولة.
بدأ المتنبي قصيدته بمطلع يخاطب فيه نفسه:
كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافيا
وحَسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا
ثم فسر ما ذكره في هذا البيت بالقول:
تمنيت المنية لما تمنيتُ أن تجد صديقاً مصافياً فأعجزك أو عدواً يداريك، فلم تجده، وهذه نهاية اليأس الذي يختار فيه الموت على البقاء.
تمنَّيتها لما تمنيتَ أن ترى
صديقاً فأعيَا أو عدواً مُداجياً
ثم أعطى المتنبي في ذات القصيدة حلاً للتعامل مع «الغادر»، حتى ولو جاء الغدر في موقف عارض، كما حدث للشاعر عندما لم ينتصر له سيف الدولة، وهو يشاهد الدم يسيل على وجهه، فأخذ يعرض بسيف الدولة ويقول لقلبه: إني أحببتك قبل أن تحبه، أي سيف الدولة، وهو قد غدر بي فلا تغدر أنت أيضاً، بمعنى: لا تكن مشتاقاً إليه ولا مقيماً على حبه، فإنك إن أحببت من غدر بي فلست بوافٍ لي.
حَببتكَ قلبي قبلَ حُبّكَ من نأى
وقد كان غداراً فكُن أنتَ وافيا
مواصلاً في بيت آخر القول لقلبه: أعلم أنك تشكو فراقه (أي سيف الدولة) لإلفكَ إياه، ثم هدد قلبه فقال: إن شكوتْ فراقه تبرأت منك:
وأعلم أن البين يشكيك بَعدهُ
فلستَ فؤادي إن رأيتكَ شاكيا.
ليعلن أن الدموع إذا جرت على فراق الغادر، كانت غادرة بصاحبها لأنه ليس من حق الغادر أن يُبكى على فراقه:
فإن دموعَ العين غُدرٌ بربها
إذا كُنَّ إثرَ الغادرينَ جواريا
ثم يواصل أبو الطيب طرح مزيد من الوصفات حول إبطال العطايا والصداقات والجود بالمن والأذى، وكأنه ينظر إلى الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ»، معتبراً أن الجود إذا كُدر بالمن بطل الحمد ولم يبق المال، فيُفقدان كلاهما، مشدداً على أن أخلاق النفس تدل على صاحبها فيعرف جوده أطبع هو أم تكلف:
إذا الجودُ لم يُرزقْ خلاصاً من الأذى
فلا الحمد مكسوباً ولا المالُ باقيا
وللنفس أخلاق تدلُّ على الفتى
أكانَ سخاءً ما أتى أم تساخيا
ويبحر المتنبي في إعطاء «وصفات حكمية»، ناهياً عن المبالغة في الاشتياق والهيام به لمن لا يبادل الود بمثله، مخاطباً قلبه بألا يشتاق إلى مَن فارقه، لأنه بذلك يصفي وده من ليس بصاف له، كما أعطى وصفاً في صحة «الإلف» بتفضيله الشيب على الصبى لو خُيّر بينهما لكثرة إلفه للأول وهو من الاستحالة أن يتحقق:
أقلّ اشتياقاً أيها القلب ربما
رأيتكَ تصفي الود من ليس صافيا
خُلِقتُ ألُوفاً لو رجعتُ إلى الصّبى
لفارقتُ شيبي موجعَ القلبِ باكيا
وفي موضع آخر وبالتحديد عام 959م، أي بعد عام على مفارقته سيف الدولة، نالت أبا الطيب حمى وهو في مصر وصف حاله معها بقصيدة رائعة، حيث كان رهن الإقامة الجبرية بما يشبه الحجر الصحي في زمن «الكورونا»، ويعرض في القصيدة بالرحيل بعد أن أصابه اليأس من تحقيق آماله ومطالبه عند كافور الإخشيدي، بمنحه ضيعة أو ولاية، وفي القصيدة وصفات حكمية، بل وعلاج لمصائب الدهر، بنات الدهر، ومنها الحمى التي أتت من الزحام، حيث ألزمته الفراش وغادر بعدها مصر هارباً فيما يمكن تسميته بـ«الهروب السياسي الأكبر»، بدأ قصيدته الميميمة بمخاطبة صاحبيه اللذين يلومانه على ركوب الأخطار، طالباً منهما تركه يسلك الصحارى بغير دليل يهديه لأنه خبير بمسالكها، لافتاً في أحد أبيات القصيدة إلى إحدى الظواهر في المجتمعات الإنسانية، وهي ظاهرة انتشار الفساد في عموم الخلق، وهو ما جعل الشاعر يتهم من اختاره لمودته لعلمه أنه واحد منهم:
وصرتُ أشكُّ فيمن أصطفيهِ
لعلميَ أنهُ بعض الأنامِ
ولم أرَ في عيوبِ الناسِ شيئاً
كنقصِ القادرين على التمام ِ
ثم يعبّر الشاعر عن ملله من لزومه الإقامة الجبرية في أرض مصر، بعد أن أصابته الحمى ومراقبة كافور له، خشية الهروب، وكأنه يعيش أيام العالم هذا اليوم في الحجر الصحي الإجباري في زمن «الكورونا»، مبرزاً مرضه الذي طال حتى ملّه الفراش، بعد أن كان هو يمل الفراش، معبراً عن ألمه في غربته وقلة عائديه في مرضه، وتراكم الهموم عليه، وكثرة حساده، لوفور فضله وصعوبة مراميه؛ لأنه يطلب شيئاً عظيماً وصعب المنال وهو «المُلْكْ»، مقدماً وصفاً لأعراض الحمى، من خلال صور وخيال رهب لا يجيده إلا هو، معتبراً أن وصفة الطبيب الذي عاينه وشخّص حالته لم تكن دقيقة عندما أرجع سبب علته إلى الطعام والشراب الذي يتناوله، مشدداً على أن الطبيب ليس في قاموسه الطبي أن مرضه كان بسبب طول إقامته والقعود عن الأسفار، مثله في ذلك مثل الفرس الجواد:
أقمتُ بأرض مِصْر فلا ورائي
تخبُّ بي الركاب ولا أمامي
ومَلني الفراش وكان جنبي
يمل لقاءه في كل عامِ
قليلٌ عائدي سقم فؤادي
كثيرٌ حاسدي صعبٌ مرامي
وزائرتي كأنّ بها حياءً
فليسَ تزور إلا في الظلامِ
أبنتَ الدهرِ عندي كلُّ بنتٍ
فكيفَ وصلتِ أنتِ من الزحامِ
يقولُ ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئاً
وداؤكَ في شرابكَ والطعامِ
وما في طبهِ أني جوادٌ
أضرّ بجسمهِ طول الجمامِ
وفي قصيدة أكثر فيها التشاؤم على نفسه بما لم يقع له في غيرها، وما لم يخطر على قلبه في جميع أسفاره مع كثرتها، وكأنه ينعى بها نفسه، وإن لم يقصده، يشخّص المتنبي في أبيات رائعة خصصها بمدح عضد الدولة بعد ارتحاله من شيراز، ومفارقته لأعمال فارس، بعد أن نال عطايا كثيرة ليلقى حتفه على يد فاتك الأسدي، بعد اجتيازه دير العاقول وهو على مشارف بغداد، وذلك في عام 964م وهي آخر شعر قاله:
أروحُ وقد ختمتَ على فؤادي
بحبكَ أن يحلّ به سواكا
وقد حمَّلتني شكراً طويلاً
ثقيلاً لا أطيقُ به حراكا
إذا استشفيت من داءٍ بداءٍ
فأقْتَلُ ما أعلّكَ ما شفاكَ
وأنى شئتِ يا طرقي فكوني
أذاة أو نجاة أو هلاكا
ونختتم هذه الالتقاطات من شعر شاعر العربية الكبير ببيت من الشعر ضمن قصيدة طويلة قالها في سيف الدولة، في أحد معاركه مع الروم:
فكانَ أثبتُ ما فيهم جسومَهُمُ
يسقطنَ حولكَ والأرواح تنهزمُ