خلافاً لما يعتقده البعض، وما يُروِّج له كثيرون، فإن السلطة الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها محمود عباس (أبو مازن) أولاً: لم تفاجأ بكل هذه التطورات الأخيرة على صعيد القضية الفلسطينية، وثانياً: أنها تمتلك أوراقاً فاعلة ومؤثرة كثيرة، وعلى رأسها حل «السلطة»، وإذا استدعت الأمور الإقدام على هذه الخطوة، فإن البديل سيكون عنفاً لا سابق له، ليس على صعيد فلسطين المحتلة، أي الضفة الغربية وإسرائيل فقط، وإنما على صعيد هذه المنطقة كلها والعالم بأسره.
والمفترض أن كل الذين سمعوا تصريح العاهل الأردني الذي قال فيه إن انهيار السلطة الفلسطينية سيعني عنفاً في هذه المنطقة كلها، وبمقدمتهم الأميركيون والإسرائيليون، قد أدركوا أن ذهاب نتنياهو بهذا الشوط وإنْ تم تطبيق «صفقة القرن» بحذافيرها، سيترتب عليهما وضع شرق أوسطي غير ما هو عليه الآن، وسيعني أنه على كل الذين تعاطفوا مع خطوة «الضم» الإسرائيلية التي جرى تأجيلها حتى مطلع يوليو (تموز) المقبل، أن يضعوا أيديهم على قلوبهم منذ الآن، وأن ينتظروا مستجدات مرعبة، وليست فقط مزعجة، وبخاصة بالنسبة لمصالحهم الاستراتيجية بالشرق الأوسط كله.
لم يبدر أي شيء رسمي بهذا الخصوص حتى الآن، لا عن السلطة الفلسطينية ولا عن منظمة التحرير التي لا تزال هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني كله، ثم – وحسب مسؤول فلسطيني في موقع القرار – فإن الرئيس محمود عباس قد ترك إعلان الرد على أي خطوة بالنسبة لعملية «الضم» التي يتحدث عنها الإسرائيليون، إلى ما بعد بداية شهر يوليو المقبل؛ لكن وفي كل الأحوال فإن الرد الفلسطيني على ما بات مؤكداً أن نتنياهو ومن هم معه سيقدمون عليه، بات جاهزاً ولا خلاف عليه.
وإن ما يوجع قلوب الفلسطينيين بالفعل، ومعهم كل عربي يقدر أهمية فلسطين والقضية الفلسطينية بالنسبة للعالم العربي كله وللأمة بأسرها، ومعهم أيضاً كل صاحب ضمير حي بالعالم، هو أن هذه القضية التي من المفترض أنها قضية حق مقدسة، بات يستخدمها الذاهبون للانتخابات الرئاسية الأميركية، والذاهبون للانتخابات الإسرائيلية، كورقة لـ«دغدغة» عواطف اليمين المسيحي بأميركا، وعواطف الأكثر صهيونية بالدولة الإسرائيلية.
وعليه؛ فإن المفترض أن يدرك أصحاب القرار، إنْ في أميركا وإنْ في إسرائيل، معنى أن يعلن الفلسطينيون أنهم: «سيقطعون كل أشكال العلاقات مع الإسرائيليين ومع الأميركيين، بما فيها العلاقات الأمنية»، والمفترض أن يفهم هذا التحذير على أن السلطة بكل أجهزتها ودوائرها وبالطبع معها منظمة التحرير، لن تكون مسؤولة عن أي انفجار للعنف، وأيضاً لـ«الإرهاب»، لا في فلسطين المحتلة كلها ولا بإسرائيل، ولا في هذه المنطقة كلها، ولا في العالم بأسره.
وحقيقة أنه عندما تصبح حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة التي عنوانها اتفاقيات أوسلو كما هو معروف، دولة فلسطينية مستقلة بالضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى حدود ما قبل حرب يونيو (حزيران) 1967، موضع مساومة وبيع وشراء بالانتخابات الأميركية والانتخابات الإسرائيلية، فإن هذا يعني دفع الفلسطينيين دفعاً إلى العنف و«الإرهاب»، وهذه تجربة كان قد مر بها الفلسطينيون سابقاً بمرحلة تاريخية معروفة، ومرت بها شعوب كثيرة، من بينها الشعب الجزائري العظيم، وعديد من شعوب القارة الأفريقية، وهذا علاوة على الشعب الفيتنامي وشعوب أخرى اضطرت لحمل السلاح، عندما لم تفلح الحلول السلمية مع مُغتصبي أوطانها.
وهنا، فإن ما تجدر الإشارة إليه هو أن الفلسطينيين ومعهم بعض العرب، هذا إنْ لم يكونوا كلهم، يعتبرون أن أي مفاوضات لن تكون ممكنة، إنْ مع الأميركيين وإنْ مع الإسرائيليين، من دون إعلان صريح وواضح، أن «الضم» لم يعد وارداً؛ لا بل ومرفوض من قبل إسرائيل كدولة، وأن هناك استعداداً أميركياً لإعادة النظر في «صفقة القرن»، بحيث ألا تعني أي مصادرة لأي من الأراضي التي احتلها الإسرائيليون في عام 1967، وفي مقدمتها القدس الشرقية التي تضم المسجد الأقصى، وقبة الصخرة المشرفة، ومسجد عمر بن الخطاب، وكنيسة القيامة.
وبالطبع، فإن المعروف أن السلطة الفلسطينية قد أعلنت سابقاً وحالياً أن الفلسطينيين يتمسكون بالمفاوضات وبعملية السلام على قاعدة الشرعية الدولية، وعلى أساس المبادرة العربية، ووفقاً لحل الدولتين: أي دولة فلسطينية على حدود عام 1967، عاصمتها القدس الشرقية، ودولة إسرائيلية هي الدولة القائمة الآن على حدود عام 1948.
وأن ما هو مهم بالفعل هو أن مصادر موثوقة، فلسطينية وإسرائيلية، تؤكد أن هناك خلافاً حقيقياً بالنسبة لهذه المسألة في إسرائيل، وحتى في أجهزتها الأمنية، وأن هناك اتجاهات بين الإسرائيليين تقول: «إن من أراده كله أضاعه كله»، وإنه يكفي الحفاظ على ما هو قائم منذ عام 1948 وحتى الآن، وبخاصة وقد أصبحت هناك متغيرات كونية كثيرة وفاعلة، بعدما أصبح «كورونا» يسيطر على العالم بأسره، وباتت حتى دول أوروبا مشغولة بهذه «الجائحة» المرعبة، ولم تعد معنية لا بالإسرائيليين ولا بقضاياهم التي معظمها وفي كل الأحوال غير عادلة.
لكن الواضح أن الرئيس ترمب مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأميركية، لم يعد يهمه إلا البقاء في البيت الأبيض لـ«دورة» ثانية، ولذلك فإن تركيزه الأساسي هو على المسيحيين (المجددين) وأن عديداً من الذين يخوضون معركته الانتخابية يواصلون تعزيز قناعاته بأن الشرق الأوسط ممزق، وأن انشغالات العرب بالتحديات التي تواجه معظمهم، وأخطرها التحدي الإيراني، تجعلهم على الأقل في هذه المرحلة يعتبرون أن أولوية التصدي والمواجهة ليست مع «العدو الصهيوني» وإنما مع هذا العدو الذي ينطلق من «ثارات» تاريخية قديمة، والذي استطاع أن يحقق بعض الاختراقات «الاستراتيجية» في أربع دول عربية، هي: العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن.
وهكذا، فإن البعض يرى، وربما معهم الحق، إن لم يكن كله فبعضه، أن هذا الاختراق الإيراني لا تنظر إليه فئات عربية معروفة من الزاوية التي ينظرون من خلالها إلى إسرائيل: «العدو الصهيوني»، وهذا «انحراف» يتحمل مسؤوليته قادة هذه المرحلة الإيرانية بداية بالخميني، وصولاً إلى خامنئي وإلى «الحرس الثوري» الذي حتى بعد مقتل قائده قاسم سليماني في العراق لا يزال الحاكم في هذا البلد، وحقيقة أنه الأكثر «تعصباً» والأكثر عداوة للعرب الذين يشكلون الأكثرية الإسلامية.
إن هذا يجب أن يقال وعلناً وعلى رؤوس الأشهاد، فالوجود الإيراني العسكري والأمني وكل شيء في الدول العربية التي يوجد فيها ليس هدفه تحرير فلسطين، ولا مواجهة العدو الصهيوني، وإنما تصفية حسابات مذهبية. وهذا بالتأكيد يعرفه بنيامين نتنياهو، ويعرفه الإسرائيليون كلهم، وإلا ما معنى كل هذا السكوت عن احتلال «العدو الصهيوني» لهضبة الجولان السورية؟ وما معنى أن تكون فوهات بنادق «حراس الثورة الإيرانية» وبخاصة في «القطر العربي السوري» موجهة في اتجاه آخر غير اتجاه فلسطين، وغير اتجاه هضبة الجولان؟!
ويقيناً أن هذا هو ما يجعل الإسرائيليين، وتحديداً بنيامين نتنياهو ومن معه، ويجعل الأميركيين، إنْ ليسوا كلهم فبمعظمهم يتصرفون بهذه الطريقة؛ لكن ما يجب أن يأخذه هؤلاء في عين الاعتبار أن هناك حسابات غير حساباتهم هذه، وأنه إذا استمرت عملية «الضم» وتحققت، وإذا فرضت على الفلسطينيين والعرب «صفقة القرن»، فإن الانفجار في هذه المنطقة قادم لا محالة، وإن «الإرهاب» الحالي في معظم مناطق الشرق الأوسط سيكون مجرد «مزحة» صغيرة أمام القادم الأعظم، الذي من المعروف أنه منذ الآن بات يقف على الأبواب.