العيد في 2020، كيف سيكون عيداً بلا صلاة عيد؟ كيف سيمر علينا هذا اليوم؟ أو السؤال الأدق كيف سيمر علينا وقت صلاة العيد ونحن في المنازل؟ كيف يمكننا استشعار أجواء العيد، استشعار أجواء الذهاب لصلاة العيد بالملابس الجديدة ومقابلة الأحبة ومعايدتهم بأرق الكلمات بدون صلاة في المساجد والساحات الواسعة، ثم الجلوس لسماع خطبة العيد من الإمام، ثم الرجوع مرة أخرى لتبادل التهاني ومعايدة الأقارب والأصدقاء وجهاً لوجه مع تبادل القبلات والأحضان؟!
ماذا يعني لنا العيد إذن بدون صلاة في الساحات، بدون أقارب، بدون ملابس جديدة، بدون عيدية؟ الإجابة هي للأسف 2020 بدون عيد فطر حقيقي.. حقيقة وليس حلماً.
ويكأنها سنة المفاجآت والتحولات والتغيرات، ويكأنها غير كل الأعوام السابقة، أو تحديداً التي عاصرتها، ففيها انقلب كل شيء رأساً على عقب، فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة قلب كل شيء في حياتنا.
جائحة “كوفيد-19″، المنبثقة من سلسلة فيروسات عائلة “كورونا”، ألزمت العالم أجمع المكوث داخل المنازل، أغلقت الجوامع، والمدارس، والجامعات، والمحاكم، والنوادي، والمقاهي، ودور السينما وجميع الأماكن الترفيهية، علقت الأنشطة الرياضية والدوريات في جميع البلاد، عطلت رحلات العمرة، والسفر من وإلى جميع البلاد، حيث أغلقت المطارات على مستوى العالم، لمكافحة انتشار الفيروس الذي أطل علينا من الصين آخر 2019، ليبدأ بقوة في الانتشار في جميع أنحاء العالم مطلع 2020، ليستمر في غزوه للعالم حتى وقتنا هذا، مع إعلان الصين تعافيها من انتشار “كوفيد-١٩” والعودة لحياتها الطبيعية، حيث أعادت فتح المدارس، والشواطئ تدريجياً أمام مواطنيها.
كان أيضاً رمضان بلا مساجد، بلا صلاة تراويح، بلا صلاة تهجد، بلا عزومات أو تجمعات للملتزمين، لكننا استطعنا استشعار روحانياته، بالصلاة جماعة في المنزل، بقراءة القرآن الكريم، وبكل العبادات التي يستطيع الإنسان القيام بها بمفرده أو جماعة مع باقي أفراد أسرته، حاولنا قدر المستطاع استشعار الروحانيات بتعليق الزينة والفوانيس أيضاً داخل البيوت، بممارسة كافة الطقوس عدا العزومات والتجمعات، واستطعنا استثمار وقت العزومات في أشياء تقربنا إلى الله ورسوله.. لكن العيد، كيف؟ فالعيد يعني لنا صلاة العيد، يعني لنا التجمع في الساحات الواسعة لأداء الصلاة في جماعة مع الأهل والأصدقاء، يعني زحمة الصلاة لمقابلة الجميع ومعايدتهم بقدوم العيد، يعني تجهيز الملابس الجديدة حتى وأنت كبير، يعني العيدية سواء “تأخذ أو تعطي”، يعني البلالين التي تملأ الشوارع، يعني، ويعني ويعني.
لكن قدر الله وما شاء فعل، ليس هناك ثوابت في هذه الدنيا “الغدارة”، التغيير وارد في أي لحظة، قدرة الله أيضاً كفيلة بأنها ترجعنا إلى صوابنا، وأن نراجع أنفسنا وطريقة تفكيرنا في الحياة، وأن الحياة من الممكن أن تتوقف رغم ما توصل له الإنسان من تقدم وتطور، لدرجة جعلت العالم أجمع قرية صغيرة، لكن تأتي قدرة الله ومشيئته، لتثبت لنا أن دوام الحال من المحال، وأن الله هو الواحد الأحد القادر على قلب حياتك رأساً على عقب، هو الواحد الذي بمقدوره أن يغلق هذه القرية الصغيرة على نفسها، لا طيران لا رحلات، الكثيرون فقدوا وظائفهم، الكثيرون عادوا إلى أوطانهم مجبرين بعد غربة وسنين عمل، بكل سهولة تم الاستغناء عنهم وترحيلهم من عملهم، وفيات وصلت لحوالي أكثر من ربع مليون شخص، وإصابات وصلت لأكثر من 4 ملايين شخص حول العالم مصابين بكوفيد-19.
لكن الله كريم لطيف بعباده، قادر على أن يزيح هذه الغمة عنا في لمح البصر، قادر على تغيير حالنا لأفضل حال.
وأيضاً يمكن أن يكون هذا الفيروس فيه خير لنا، فرب خير لم تنله كان شراً لو أتاك، ورب شر يكمن فيه خير كثير.. ويقول تعالى في كتابه العزيز: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
ففي ظل أزمة كورونا.. سقطت أقنعة كثيرة لبعض من رجال الأعمال، حيث المصلحة الأهم، ولا أهمية لحياة الإنسان مقابل استثماراته.
– ظهر جشع بعض التجار واستغلالهم لحوائج الناس.
– معدن الإنسان النقي أيضاً ظهر، في تقديم المساعدة لجيرانه، للفقراء والمحتاجين.
– حتى صلة الرحم، لم تنقطع.. فهي ليست بالزيارات والمجاملات التي في أغلب الوقت “مظاهر وشكليات”، رفعنا سماعة الهاتف وتلقينا العديد من المكالمات، وعن طريق السوشيال ميديا، واتساب، ماسنجر.. وغيرها.
فالحب ليس بالمظاهر، فهي مشاعر صادقة نبيلة تخرج من القلب فتوصل للقلب.
حتى العيد.. الذي أحزن على ضياعه، فأمهاتنا وآباؤنا كعادتهم في تلك المناسبة السعيدة كانوا حريصين على تطبيق نفس الطقوس الخاصة بالعيد، من تحضير الكعك والبسكويت وغيرهما من مخبوزات العيد، الترمس والحمص وغيرهما من التسالي.
الأب سيصلي بنا جماعة مثلما فعل طوال شهر رمضان، سيصلي بنا صلاة العيد.. ويكأننا “راحت علينا نومة” واستيقظنا متأخرين.. وهذا هو نصف الكوب الممتلئ.
فإرادة الله وقدره نفذ.. فلعلنا نتعظ، نتفكر، وندرك حقيقة وجودنا في هذه الدنيا التي نحارب من أجل الاستمتاع بها طوال الوقت، وهي:
- عبادة الله
يقول تعالى في سورة [الذاريات: 56]: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }، كما بعث الله الرسل للخلق؛ لأجل تحقيق هذه الغاية من خلق الإنسان؛ فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
- عمارة الأرض
يقول تعالى في سورة [هود: 61]: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، فـقوله: ﴿اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ أي: جعلكم عُمَّارها وسكَّانها.
كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا” رواه أحمد.
- تزكية النفس
قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۞ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۞ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۞ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10].
وهنا نتأكد أن النصر والتوفيق مرتبطان بهذه التزكية، وأيضاً الهزيمة مرتبطة بالتقصير والإهمال في حقِّها.
الاستمتاع بالحياة مطلوب، وجميعنا نسعى في هذه الدنيا من أجل حياة كريمة عادلة، لكن الأهم أن هذا السعي لا ينسينا الهدف من وجودنا في هذه الحياة التي مهما أطال الله في أعمارنا سنغادرها لحياة أفضل، حياة أبدية، لا فيها ظلم، أو كذب أو كراهية، حياة من أجل الاستمتاع فقط، حياة فيها “ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”.
فاللهم ارزقنا الجنة، واجعلنا من عبادك الصالحين.