عادت سوريا في الآونة الأخيرة لتكون محط اهتمام الإعلام العربي والدولي، ليس لوجود تطورات مهمة من شأنها أن تبعث الأمل في وضع حد لمأساة الشعب السوري وتعيد له طموحه في تحقيق أهدافه المنشودة في الحرية والكرامة والأمان والوئام، وإنما لكونها قضايا ذات طابع مثير مثل: ما يتردد عن وجود خلافات بين الرئيس بشار الأسد وابن خاله رجل الأعمال رامي مخلوف، والحملات الإعلامية المتبادلة بين موسكو ودمشق، فضلاً عما يشاع عن وجود مخطط مزعوم بين واشنطن وموسكو وأنقرة لاستبعاد الرئيس الأسد عن الحكم.
فبينما يذهب البعض إلى اعتبار تلك التطورات على أنها ذات طابع عارض أو عابر، ينظر إليها البعض الآخر كمؤشر على أن حكم الرئيس الأسد على مشارف نهايته، استناداً إلى أن إحداث أي تغيير سياسي في سوريا لا بد أن يمر عبر موسكو.
فبغض النظر عن صحة أي من هاتين وجهتي النظر، فمن المعروف أن موسكو حرصت – على الأقل على المستوى الرسمي – أن تنأى بنفسها عن الشأن الداخلي السوري.
ورغم أن التدخل العسكري الروسي – الذي جاء بناء على طلب الحكومة السورية – ساعد في الحفاظ على حكم بشار الأسد، فإن موسكو طالما حرصت بوسائل مختلفة على التأكيد أن الهدف من تدخلها هو إنقاذ سوريا من الإرهاب وليس إنقاذ نظام حكم في حد ذاته أو أشخاص بعينهم. ومع ذلك اعتبر البعض أن إنقاذ البلاد مرادف لإنقاذ النظام.
وفي هذا الإطار من المهم التنويه بأن الموقف الروسي – كما أفهمه – هو أنه طالما يوجد إرهاب يهدد الدولة في سوريا، فلا بد من الحفاظ على القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي هو رئيس الجمهورية بشار الأسد. والمنطق في ذلك أن هذا شرط أساسي للحفاظ على تماسك وصمود القوات المسلحة السورية، باعتبار أن أي خلل في تراتبية القيادة العسكرية خاصة في الظروف الحالية الاستثنائية سيؤدي إلى تفكك الجيش بالكامل، ومن ثم انهيار الدولة بأسرها.
أما الآن ورغم الانحسار النسبي للإرهاب في معظم أرجاء سوريا، فما زال للجماعات الإرهابية موطن قدم في محافظة إدلب. ولذلك فإن التركيز في المرحلة الراهنة على مكافحة الإرهاب منصب على محافظة إدلب. أما مواجهة «داعش» في الصحراء السورية فيبدو أنها قضية مؤجلة إلى مرحلة لاحقة.
فرغم أن عملية آستانة وما تمخض عنها من إقامة منطقة لخفض التصعيد في إدلب بالإضافة إلى الاتفاقات الثنائية المبرمة بين روسيا وتركيا والتي تعاملت كذلك مع الوضع في إدلب، فما زالت «جبهة النصرة» الإرهابية وحلفاؤها منتشرة ونشطة في تلك المحافظة بحيث دعمت من سيطرتها على مختلف جماعات المعارضة المسلحة الأخرى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التحدي المستمر الذي واجه الولايات المتحدة من قبل ويواجه تركيا الآن يتمثل في كيفية الفصل بين جماعة «جبهة النصرة» وحلفائها من جهة والجماعات المسلحة الأخرى من جهة أخرى.
وبالعودة إلى التدخل العسكري الروسي في سوريا، فمن المعروف أنه حظي في بدايته على تأييد واسع من قبل الشعب الروسي من منطلق أنه ينقل الحرب ضد الإرهاب إلى خارج الأراضي الروسية. وهنا يجب إلا يفوتنا التنويه إلى أنه في ذروة القتال المحتدم في سوريا، كانت التقديرات تشير إلى وجود عدد يتراوح بين عشرة وعشرين ألفاً من المقاتلين الروس ومن جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة الذين شكلوا أفضل العناصر المقاتلة بالنظر إلى الخبرات التي اكتسبوها في الشيشان، وآسيا الوسطى، والبلقان.
والآن، وبعد أن ضمنت روسيا وجودها الطويل الأمد في سوريا، ومنعت انهيار الدولة في سوريا وبذلك دعمت من موقفها على الساحة الدولية، يبقى أمام الرئيس بوتين أن يعلن أنه تمكن من إزالة تهديد مصدر الإرهاب في سوريا، حتى يستطيع الإعلان أنه حقق كافة أهدافه من التدخل في سوريا. ولا شك أن مثل هذا الإعلان سيسهم في استعادة الرئيس بوتين ولو لجزء من الشعبية التي فقدها مؤخراً لعدة أسباب ربما يكون من بينها انخفاض التأييد داخلي في روسيا للتدخل العسكري في سوريا.
وقد يكون إعادة فتح الطريق السريع الاستراتيجي «M4» الذي يربط مدينة حلب بمدينة اللاذقية الساحلية – وفقاً للاتفاق الروسي – التركي المبرم في مارس (آذار) الماضي – هو الإنجاز المطلوب تحقيقه، خاصة أن مثل هذا الأمر يتطلب إخراج مقاتلي بلدان آسيا الوسطى خارج بلدة «جسر الشغور» والمرتفعات المحيطة بها التي كانت على الدوام مصدر تهديد لقاعدة حميميم الجوية الروسية.
فبعد تعثر، يبدو أن هناك تقدماً ملحوظاً أحرزته الدوريات العسكرية الروسية التركية – المشتركة على طريق «M4»، حيث وصلت يوم 20 مايو (أيار) الجاري إحدى الدوريات إلى ما وراء مدينة أريحا التي تبعد قرابة 35 كيلومتراً عن بلدة جسر الشغور. وبمجرد أن تتمكن تلك الدوريات من تأمين طريق «M4» بشكل كامل والمنطقة العازلة المحيطة به، يمكن أن تنتهي التهديدات الإرهابية لقاعدة حميميم، وتستأنف الحركة التجارية بين مدينة حلب وميناء اللاذقية، وهو أمر حيوي للاقتصاد السوري. كذلك فإن ذلك سيعني حصر وجود الجماعات الإرهابية في منطقة محدودة المساحة تقع على جانبي الحدود بين محافظة إدلب وتركيا، بما يمكن للقيادة الروسية عندئذ أن تضع المسؤولية الأساسية للقضاء على بقايا تلك الجماعات، وخاصة تلك التي تسبب تهديداً لروسيا على عاتق تركيا.
وفي هذه الحالة، لن يكون مستبعداً أن تعلن القيادة الروسية عن تحقيق كامل أهدافها العسكرية في سوريا، وبالتالي فسيكون المنتظر من موسكو أن تركز جهودها على تسريع إيقاع العملية السياسية المتعثرة.
فالقيادة الروسية تدرك تماماً أن النجاح الحقيقي في سوريا يكمن في تحويل إنجازاتها العسكرية إلى مكاسب سياسية ملموسة تضمن مصالحها في الأمد الطويل، الأمر الذي يتطلب تحقيق التسوية السياسية من خلال التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي 2254 – الذي طالما تفتخر على أنه نتاج مبادرة مشتركة مع الولايات المتحدة – بدءاً بإنجاز الإصلاح الدستوري – الذي هو في الأساس فكرة روسية – ثم انتخابات حرة يشارك فيها كل السوريين.
ولذلك فسيكون على روسيا تكثيف جهودها في دفع دمشق للانخراط بشكل أكثر جدية في أعمال اللجنة الدستورية بشكل خاص والتعاون في تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 بشكل عام.
هنا لا شك أن موسكو ستتطلع إلى قيادة سورية متعاونة.
وفي هذه الحالة ستتحول كافة الأنظار إلى مراقبة كيفية تعامل الرئيس الأسد في التنفيذ الكامل للقرار 2254. وكذلك إلى ردود فعل المقابلة للقيادة الروسية. ربما يُقدر لتلك اللحظة أن تكون من اللحظات الحاسمة ليس في مستقبل سوريا فحسب، وإنما فيما يخص مصداقية روسيا على الصعيد الدولي.
أما فيما يخص موقف روسيا من مساندة الحكومة السورية على استعادة كافة أراضيها، فإن موسكو ستضعه كهدف يتم تحقيقه في المستقبل من خلال القيام بوساطة بين دمشق وأنقرة من أجل التوصل إلى حزمة متكاملة مستوحاة من اتفاقية أضنة لعام 1998 تتضمن: استقرار الحدود السورية – التركية المشتركة، حل القضية الكردية في سوريا، فضلاً عن مستقبل العلاقات السورية – التركية، وهو الأمر الذي إذا قُدر له النجاح سيكون من شأنه تعزيز موقف موسكو في منطقة الشرق الأوسط.
ختاماً من الأهمية التنويه إلى أن نجاح روسيا في تنفيذ سياساتها في سوريا يعتمد إلى حدٍ بعيد على كيفية إدارة علاقاتها ليس فحسب مع تركيا والولايات المتحدة، وإنما كذلك مع إيران.