لا يضرُّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إنْ كان مسيحياً أو يهودياً وأصبح مسلماً، وإنْ كان أهله لا أتراكاً ولا عثمانيين، وأصبحوا كذلك لاحقاً، فهذه التقلبات العرقية والدينية معروفة على مدى حقب التاريخ المتلاحقة، البعيدة والقريبة، وحقيقة أنّ تداخل الشعوب قومياً بقي متواصلاً منذ فترات تاريخية باتت بعيدة جداً، والمؤكد أنّ بعض أهل إسبانيا الحالية من أصول عربية، وأنّ فلسطين وبلاد الشام كلها قد تعاقبت عليها أقوام من أصول متعددة، حتى إن بعض من يوصفون بـ«الصليبيين» قد أصبح مَن بقي منهم مِن خيرة المسلمين، ومن أكثر العرب تمسكاً بعروبتهم، وهذا بالتأكيد ينطبق على معظم الدول، مَن منها في أفريقيا ومَن منها بالقارة الآسيوية.
هذه ليست مشكلة على الإطلاق، ولو جرى فرز الـ80 مليون تركي على أساس نوعية الدم «D N A» لثبت أنهم باستثناء المتحدرين من أصولٍ «أناضولية» ليسوا أتراكاً، وحقيقة أنّ هذا ينطبق على العرب وعلى الأوروبيين، وبالطبع على الولايات المتحدة، وعلى سكان الكرة الأرضية كلهم، بمن فيهم سكان أفريقيا السوداء وشعوب المستوطنات الاستعمارية التي أصبحت دولاً شعوبها خليط من شعوب هذا الكون الواسع.
إنه معروفٌ لكثير من الأتراك «العثمانيين» وغير الأتراك أنّ نسبة كبيرة من أتراك هذا العصر والعصور السابقة لا ينتسبون إلى الأناضول، وأنّ الإمبراطورية العثمانية التي فردت جناحيها على أجزاء كبيرة من آسيا وأفريقيا وأيضاً أوروبا قد «هضمت» أعداداً هائلة وكثيرة من الشعوب والقوميات التي أصبحت جزءاً منها، وأنها جاءت من ألبانيا بوالي مصر محمد علي الكبير الذي كان يوصف بأنه واحدٌ من أعلام الإسلام في القرون المتأخرة، وأنه أعطى لأرض الكنانة العائلة الملكية التي بقيت تحكم كعائلة مصرية من أصول عثمانية حتى ثورة عام 1952 التي أطاحت الملك فاروق الذي هو آخر ملك بهذه السلالة والذي كان يحمل صفة «عاهل مصر والسودان».
والمؤكد أنّ الاسم العائلي لـ«رجب طيب إردوغان» لا علاقة له بالأتراك العثمانيين ولا بتركيا، وأنّ «إردوغان» التي جاءت منها أصول هذه العائلة هي قرية أو بلدة في جورجيا الروسية، ولاحقاً السوفياتية، التي احتلها العثمانيون، وأصبحت عثمانية ثم تركية، وأنّ الرئيس التركي من مواليد إسطنبول، وأنّ عائلته كانت قد غادرت موطنها الأصلي المذكور وانتقلت أولاً إلى مدينة «ريزا» الواقعة شمال شرقي تركيا على البحر الأسود، قبل أن تنتقل لإسطنبول.
وحقيقة أنّ هذا كله ليس مهماً، وإلا لما اعتبر دونالد ترمب أميركياً، وقبله كل الرؤساء الذين تناوبوا على البيت الأبيض بالولايات المتحدة، وعددهم 45 رئيساً؛ أولهم بالطبع جورج واشنطن، وكان هذا عام 1797 وآخرهم الرئيس ترمب الذي جاء «جدّاه» من ألمانيا من ولاية «راينلاند» وهاجرا إلى الولايات المتحدة عام 1885 وحصلا على الجنسية الأميركية عام 1892. والمقصود أنّه ليس مهماً من أين جاءت عائلة رجب طيب إردوغان، ومتى اعتنق جدها الأول الدين الإسلامي، وبغضّ النظر عما إذا كان مسيحياً أو يهودياً… أو بلا دين ومن شذاذ الآفاق!!
المشكلة أنّ إردوغان هذا الذي تخلى عنه معظم أهم رفاقه قد أصيب مبكراً بـ«جنون العظمة»، وأنّه وهو رئيس دولة علمانية لا تزال على «علمانيتها» التي اختارها لها مصطفى كمال أتاتورك حتى الآن قد تسلّق شجرة «الإخوان المسلمين» وأصبح «عملياً» مرشداً عاماً لهم كما يقال، وقد أصبحت «الدوحة» القطرية مثابة له ولـ«إخوانه» وأصبحت مزنّرة بقوات تركية «عثمانية»، وبالطبع بقوات إيرانية، على اعتبار أنه ثبت أنّ الولي الفقيه آية الله الخميني كانت له علاقات «إخوانية»، وأنّ عاصمة «الإخوان» الثانية بعد إسطنبول هي طهران، وأنّ «حماس الإخوانية» أصلاً وفصلاً قد قامت بانقلابها الدموي على منظمة التحرير وحركة «فتح» والسلطة الوطنية عام 2007 وأنّ «قطاع غزة» أصبح تابعاً أولاً للعاصمة الإيرانية، وثانياً للعاصمة القطرية، وأنّ السفير القطري محمد العماوي، الذي هو في حقيقة الأمر سفيرٌ لدولته لدى إسرائيل، هو الحاكم الفعلي في هذا الجزء من فلسطين التاريخية!!
والخطير هنا أنّ رجب طيب إردوغان بات يتعاطى مع هذه المسألة على أساس أنّ «جماهيرية القذافي»، التي من حق سيف الإسلام القذافي المطالبة بها، هي (أي ليبيا) جزءٌ من الأملاك العثمانية، وذلك مع أنّ المعروف أنّ السلطان عبد الحميد الثاني قد تخلى عنها للإيطاليين، وأنه في حقيقة الأمر لم يكن هذا البلد العربي جزءاً من الدولة العثمانية وأنّ «أتراكها» الذين يتزعمهم حالياً فائز السراج كانوا يعتبرون أنفسهم عرباً، وأن بعضهم على هذا الأساس قد تبوّأوا مراكز عليا قبل عام 1969 وبعده في الفترة القذافية التي استمرت أكثر من نصف قرن بعامين.
في كل الأحوال، فإن أغلب الظن، وهذا ليس إثماً، أنّ الليبيين من أصول تركية الذين باتوا يجيئون إلى ليبيا، بدءاً من عام 1521، لا يشكلون من أهل هذا البلد العربي إلا نسبة 5 في المائة، ومع الأخذ بعين الاعتبار أنه تم تزاوج مكثف بينهم وبين العرب، وأنّ هذه النزعة الانفصالية عملياً لم تظهر إلا مع ظهور رجب طيب إردوغان، وأنّ معمر القذافي الذي كان يسعى لبناء «جماهيريته» وإعمارها كان وراء هجرة لاحقة إلى ليبيا، البعض يقول على دفعتين، والبعض يقول بل على دفعة واحدة!!
والمستغرب رغم كل هذه الحقائق الدامغة أنّ إردوغان يصرّ على «عثمانية» هذا البلد العربي، وأنه يواصل التأكيد على أنه لن يتخلى عن أتراك ليبيا (كورد أوغلو) وأنّ تركيا لن تتخلى عن مسؤوليتها التاريخية تجاه «الشعب الليبي» الممتدة لنحو 500 سنة، وهنا فإنّ هذه إشارة واضحة لحكم الخلافة العثمانية الذي انتهى عملياً عام 1918.
وبالطبع، فإنّ إردوغان، الذي يتناسى أنّ تركيا كانت قد احتلت في عام 1959 لواء الإسكندرون العربي الذي سيبقى عربياً تطالب به سوريا، ومعها العرب كلهم حتى استعادته، عندما يتحدث عن مسؤولية تركية تاريخية «ممتدة» تجاه الشعب الليبي فإنه بالتأكيد يقصد أن الوجود التركي في هذا البلد العربي سيكون وجوداً إلحاقياً وبلا نهاية، وذلك رغم مسرحية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، والمقصود بها فرض الأمر الواقع على القبارصة «اليونانيين» وعلى اليونان وعلى مصر وعلى إيطاليا وعلى سوريا المنشغلة بالصراع بين ابن الخال وابن عمته!!
وهكذا، ما دام أنّ الرئيس التركي ليس «أناضولياً» عثمانياً، فمن المفترض أنه يعرف أنّ 500 عام من حكم العثمانيين للعرب كانت أعوام قهر واضطهاد وتجهيل مقصود.
والمفترض أنّه يعرف أنّ «جمال السفاح» قد علّق خيرة أبناء الأمة العربية على أعواد المشانق في دمشق وبيروت، وأنّ العثمانيين «الأناضوليين» قد حوّلوا عواصمنا العربية، عاصمة الأمويين، وعاصمة العباسيين، وعاصمة الفاطميين، إلى مراكز اضطهاد وتنكيل وتجهيل، وهنا بحكم صلات الرحم فإننا نقول له إنه قد اقترب فعلاً من «الانزلاق» في هذا المستنقع الليبي… اللهم فاشهد!!