تحدثت في مقالة سابقة عن أن الازدياد المطرد لسكان الأرض، قد لا يتسبب فقط في حالة اللامبالاة التي يشعر بها الكثيرون إزاء الموت، بل في رغبة البعض في إنقاص عدد الأحياء الذين يتقاسمون بفعل هذا الازدياد هواء الكوكب المريض، وخبزه المتناقص، ومياهه الملوثة. ولعل الكثير من البشر يتمنون في سريرتهم أن تتكفل الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية، بإنجاز هذه المهمة، شرط أن يصيب الموت أحداً غيرهم، وأن يظلوا هم ومن يحبون بمنأى عن الكارثة. ولعل الكاتب اليوناني الشهير نيكوس كازانتازاكيس كان أكثر جرأة من سواه حين تحدث في مذكراته المشوقة «تقرير إلى غريكو»، عن المشاعر الغريبة والمتناقضة التي انتابته، إثر زلزال عنيف ضرب جزيرة كريت اليونانية وقتل الآلاف من سكانها. فقد اعترف صاحب «زوربا اليوناني» بأن شعوره التلقائي بالحزن على المصير المأساوي لمواطنيه، ما لبث أن اختلط بمتعة غامضة متأتية عن عدم وجوده في مكان الزلزال. ذلك أن موت الآخرين وإن كان يحمل في طياته قدراً متفاوتاً من المرارة والألم، إلا أنه يوفر للأحياء من جهة أخرى لذة غامضة متأتية من كونهم قد أفلتوا، ولو إلى حين، من ملاقاة المصير نفسه. أما المصدر الآخر للمتعة، فيقر كازانتازاكيس بأنه جاء مختلطاً بالشعور بالذنب؛ لأن أنانيته المفرطة هي التي دفعته إلى الاعتقاد بأن تناقص سكان الأرض، لا بد أن يضمن له فرصاً أوفر للتمتع بثرواتها وأطايبها وطبيعتها الخلابة.
لا شك بأن الفضائيات المعولمة والعابرة للقارات، قد أسهمت إلى حد بعيد في الكشف عن النوازع السادية العميقة التي يستبطنها البشر في لاوعيهم الجمعي، لا إزاء أعدائهم فحسب، بل إزاء من يفترض أنهم يقفون معهم في الخندق نفسه. وهو ما ظهر جلياً في حرب الخليج الثانية، حيث نجحت هذه الفضائيات في تنفيس مشاعر الاحتقان والغضب المتأتية من فظاعة الحرب على العراق وعنفها اللاأخلاقي، وتحويل كل ذلك إلى متعة بصرية ومشاهد مثيرة للفضول. لكن حتى قبل ذلك بسنوات، وقبل أن أتحدث عن الأسباب الكامنة وراء مطاردة الفنانين والمشاهير، وبخاصة الذين يتجاوزون المعدل الوسطي للأعمار، بإشاعات الموت، لا بد من التوقف قليلاً عند ما حدث للشاعر الفلسطيني علي فودة، إبان الاجتياح الإسرائيلي الواسع للبنان عام 1982. فقد أصيب صاحب «عواء الذئب» بشظية بارجة إسرائيلية أثناء توزيعه مجلة «رصيف» التي كان قد أسسها مع الكاتب الفلسطيني رسمي أبو علي، لتكون منبراً لحركات الرفض الأدبي والسياسي في ذلك الحين. ومع أن فودة كان لا يزال يرقد حياً في أحد مستشفيات بيروت، فإن رفاقه وزملاءه من الشعراء والكتاب لم ينتظروا جلاء الحقيقة عن وضعه الصحي، قبل أن ينبروا إلى رثائه عبر عشرات النصوص والمقالات وقصائد التأبين. ولما كان الشاعر الشاب، ذو السنوات الستة والثلاثين، لا يزال بعد في كامل وعيه، فقد أتيح له أن يقرأ كل ما كتب في رثائه، قبل أن يغمض عينيه إلى الأبد، بعد ذلك بأيام قليلة.
وإذا كان لهذه الحادثة من دلالات، فهي لا تكشف فقط عن تعلق المثقفين بصديقهم المصاب وحبهم له، بل تكشف في الآن ذاته عن «استعجالهم» استشهاده؛ لأن المعركة مع العدو تحتاج إلى ذخيرة دموية دائمة من جهة؛ ولأنهم يحتاجون من جهة أخرى إلى مواد ملائمة لتدبيج المقالات وتوليد القصائد. وقد روى لي ممدوح عدوان، أنه حين التقى محمود درويش، بُعيد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت بأشهر قليلة، سأله الأخير: «هل تكتب شعرا هذه الأيام؟»، فأجاب صاحب «للريح ذاكرة ولي» بالنفي. ولما سأله درويش عن السبب، أجاب ممدوح على طريقته في الدعابة، بأن قصيدته تحتاج لكي تولد إلى شهيد «طازج»، باعتبار أن الشعراء العرب، وهو من بينهم، قد قاموا بواجبهم تجاه الشهداء القدامى. فما كان من درويش إلا أن صاح على طريقة أرخميدس: «وجدتها، لماذا لا تجعل من هذه الفكرة موضوعاً لقصيدتك العتيدة؟». وهكذا كان، وكتب ممدوح عمله الملحمي «قصيدة ينقصها شهيد» الذي جاء فيه: «يا أيها الأصحاب والأطفال والأزهار \ والشجر المغرد في دمي \ ما زال ينقصني شهيدْ \ وأريده من غير من دُهسوا \ وغير الغارقين \ وغير من ماتوا بغيظٍ \ أو بأطواق الحديدْ \ هل كنتُ محتاجاً إلى جثثٍ لأكمل صورتي؟ \ هل كنت محتاجاً إلى هذي الدماء لكي أوضّح بصمتي؟ \ إني أريد بأن يكون معي شهيدٌ من بلادي \ كي أشارك إن تفاخرت المصائبُ بين أسماءٍ وخنساءٍ وهندٍ \ حين ضاع الندبُ في حمّى المزاد».
غير أن الشعراء الذين طالما أتعبهم البحث عن شهداء جدد لتوفير «وقود» إضافي لقصائدهم، لم يكونوا يعلمون أن للصورة وجهها الآخر، وأن ثمة من سيستعجل رحيلهم هم، بمجرد أن يطول بهم العمر أو يرقدوا منهكين على أسرة المرض. وما حدث لعلي فودة، تكرر مع سواه مرات ومرات. وما زلت أذكر في هذا السياق كيف أشاع البعض نبأ رحيل نزار قباني، قبل رحيله الفعلي بعامين اثنين. وإذ تزامنت إحدى هذه الإشاعات مع انعقاد معرض الكتاب السنوي في بيروت، اضطر سهيل إدريس، الذي كانت تربطه صداقة وطيدة بصاحب «طفولة نهد»، إلى الاتصال الهاتفي بنزار والتأكد من بقائه حياً، قبل أن يعمد إلى تكذيب الخبر ودحضه. وما حدث لنزار حدث لسواه من الشعراء العرب الكبار، كالجواهري والبياتي. كما تم نعي محمد الفيتوري، الذي كان قد استقر في المغرب في سنوات مرضه الأخيرة، غير مرة، وانبرى الكثير من الصحافيين إلى نشر خبر وفاته مصحوباً ببعض التعليقات ومقالات التأبين. والأمر نفسه تكرر مع مظفر النواب، الذي ما انفك البعض يلحّ منذ سنوات عدة على «إماتته» بشكل دوري، ويصر على تعميم الخبر في الصحف والفضائيات، لمجرد غيابه عن الإعلام وانقطاع أخباره، بفعل الشيخوخة والوهن الجسدي.
لم يكن السياسيون من جهتهم بمنأى عن مثل هذه الإشاعات التي لا يكف خصومهم عن إطلاقها، لأسباب تتعلق بالنزاع على السلطة، أو بسبب تقدمهم في السن، أو بسبب الأمرين معاً، كما في حالة الرئيس اللبناني ميشال عون. إلا أن الأمور تأخذ في الأنظمة الاستبدادية طابعاً أكثر حدة، حيث لا سبيل إلى إزاحة الحاكم الأبدي «المتأله» إلا بالموت الطبيعي، كما حدث لفرانكو، أو بالقتل كما حدث لسواه، وإلا فبالدعاء والتمني واستعجال الفرج عن طريق الشائعات. وإذا كان الترويج المختلق لرحيل القادة والزعماء يجد بعض مبرراته في الأداء البغيض لبعض الطغاة والفاسدين والملطخة أيديهم بدماء الشعوب، فإن ما لا يمكن فهمه على الإطلاق هو الإشاعة التي تم ترويجها في الأسبوع الفائت حول وفاة فيروز، والتي سارعت ابنتها ريما إلى نفيها بعد ذلك. ذلك أن فيروز ليست طرفاً في معارك اللبنانيين وحروبهم المتواصلة، أو في صراع أحزابهم وطوائفهم على النفوذ، لكي يروج المروجون لرحيلها ويفرح بموتها المتشفون. بل هي الحضور الأيقوني وسفيرتنا إلى النجوم وشاعرة الصوت، كما سماها أنسي الحاج في مقالة له. وهي تأتي من الجهة الطيفية للأشياء، ومن حنين اللبنانيين والعرب، الذين ينوؤ معظمهم تحت نير الاستبداد والحروب الأهلية الطاحنة، إلى زمن البراءة الخالصة والنزاعات الفولكلورية التي سرعان ما تؤول إلى نهاياتها السعيدة. فما الذي يدفع البعض إلى اختلاق نبأ رحيلها، وهي أحد آخر الرموز المضيئة وسط ظلام العرب المستتب؟. إن الأمر لا يعود بالطبع إلى رغبة البعض في الانتقام من فيروز، كما هو الشأن مع الطغاة الذين تفشل الثورات وحركات الاعتراض في إزاحتهم، بل هو يعكس في ظل الانهيار التام والعجز عن التغيير، رغبة ملحة في جلد الذات ومعاقبتها على المآل الكارثي الذي لم تبذل الجهد اللازم لتفاديه. وإذا كانت الشعوب في لحظات التدهور والتخلي، قد عملت على تصفية الحساب مع رموزها ونماذجها العليا، عبر تحويلها إلى أضحيات وقرابين على مذبح الواقع المأزوم، كما حدث للمتنبي وبوشكين ولوركا، فإن الترويج المتكرر لرحيل المبدعين والفنانين والشعراء، ما هو إلا انعكاس لرغبة الجماعة المغلوبة في تدمير ما تبقى لها من كنوز، وفي إسدال الستار على آخر أساطيرها المؤسسة. فإن لم يحصل ذلك بالقتل المتعمد، فبالرغبة والتمني وإطلاق الإشاعات!