من كان يحسب أن مقتل جورج فلويد بتلك الطريقة الهمجية تحت ركبة شرطي أميركي في مينيابوليس، سيقود إلى فتح تاريخ بريطانيا الاستعماري على مصراعيه، وإلى مطالبات بإزالة معالم ظلت بارزة في لندن ومانشستر وأوكسفورد وليفربول، ومدن بريطانية أخرى عديدة.
في أميركا، تركز النقاش على عنف الشرطة، والعنصرية، ومعاناة الأميركيين من جذور أفريقية، ومن الإثنيات الأخرى، وأوضاعهم في ظل الفقر والتمييز المنتشرين، وامتد بالطبع إلى تاريخ العبودية، وما رافقه من مآسٍ وما خلفه من ممارسات عنصرية لا تزال موجودة فوق السطح وتحته، على الرغم من كل الخطوات التي قطعت لتحسين الأوضاع ومواجهة هذا السرطان.
أما في بريطانيا، فإن مظاهرات الغضب على مقتل فلويد والتعبير عن الاحتجاج على العنصرية، والتعاطف مع الأميركيين من جذور أفريقية، فتحت مجدداً، وربما بطريقة لم تحدث بهذا الشكل من قبل، النقاش حول ماضي بريطانيا الاستعماري، ودور بعض شخصياتها ورموزها في العبودية. حدث ذلك بعدما حول المتظاهرون أنظارهم وغضبهم نحو تماثيل ترتبط بذلك التاريخ، وتخلد شخصيات ارتبطت بحقبة قاتمة في تجارة العبيد والاضطهاد، أو نهب الثروات، والعنف في المستعمرات، وبشكل خاص في أفريقيا.
كانت البداية برش ألوان أو كتابة شعارات ضد العنصرية على عدد من التماثيل، ثم أخذ الغضب منحى آخر عندما أطاح المتظاهرون في مدينة بريستول تمثال إدوارد كولستون الذي ظل منصوباً منذ عام 1895، لتخليد رجل كان قد جمع ثروته من تجارة العبيد، وسحبوه على الأرض ليلقوا به في مياه الميناء. بعدها تحولت الأنظار نحو مدينة أوكسفورد وجامعتها الشهيرة؛ حيث نظم المحتجون مظاهرات تنادي بإزالة تمثال سيسيل رودس من مدخل كلية «أورييل»، باعتباره أحد رموز تلك الحقبة الداكنة من ماضي بريطانيا. ذلك أن الرجل الذي تبرع بما يعادل اليوم نحو 7.8 مليون جنيه إسترليني لتمويل كلية «أورييل» ولذلك نصب تمثاله هناك، يعد أحد أبرز رموز حقبة التمدد الاستعماري البريطاني في أفريقيا، وربط اسمه بأحداث وممارسات وأفكار ساهمت في تأسيس نظام الفصل العنصري في روديسيا (زيمبابوي حالياً) التي سميت عليه، وفي جنوب أفريقيا التي كان رئيساً لوزرائها عندما كانت تعرف باسم مستعمرة كيب.
ترافق ذلك مع ظهور موقع على الإنترنت باسم «أطيحوا العنصريين» أسسه ناشطون يقولون إنهم يريدون تشجيع النقاش حول العنصرية، وحول إزالة تماثيل ورموز ترتبط بالعبودية. ونشرت على نطاق واسع قائمة تضم نحو 60 تمثالاً «مستهدفاً» في أنحاء متفرقة من بريطانيا، لشخصيات شاركت في تجارة العبيد، أو لعبت دوراً فيما يوصف بالحقبة القاتمة من تاريخ الاستعمار البريطاني. شملت القائمة تماثيل كريستوفر كولومبوس في لندن وليفربول، وأوليفر كرومويل في مانشستر، واللورد كتشنر الذي ارتبط اسمه بالسودان ومصر، ويوجد تمثاله في «شارع الخرطوم» بمدينة تشاتام في مقاطعة كنت، وتوماس غاي مؤسس مستشفى «غاي» الشهير في لندن، والذي جمع ثروة طائلة من امتلاك أسهم في واحدة من أكبر شركات تجارة العبيد، إضافة إلى تماثيل أخرى لشخصيات بعضها مشهور وبعضها مغمور.
كان لا بد من أن يثير الأمر نقاشاً واسعاً خرج في إطاره عمدة لندن صديق خان، ليصرح بأن «الحقيقة المؤلمة أن كثيراً من ثروتنا جني من تجارة العبيد؛ لكن هذا لا يعني الاحتفاء بالأمر في أماكننا العامة»، مشدداً على أن معالم لندن يجب أن تعكس تنوعها العرقي والثقافي. ولترجمة هذا الأمر على أرض الواقع، أعلن أن لجنة تابعة لعمودية لندن ستناقش بالمشاركة مع أكاديميين ومؤرخين الموضوع، قبل أن تقرر ما تراه مناسباً بشأن إزالة تماثيل من الميادين والمباني، وتغيير أسماء بعض الشوارع، أو أي معالم أخرى ترتبط بذلك التاريخ المظلم.
في مقابل هذه الدعوات، خرجت أصوات غاضبة تندد بما وصفته بأنه «تدمير لمعالم تاريخية»، وتدعو لوقف «الغوغائيين»، أو تشبه المتظاهرين الذين أطاحوا التمثال في بريستول بـ«طالبان»، مكررين التعبير الذي استخدمه نايجل فاراج القيادي في حركة «البريكست». وسط ذلك برزت أيضاً قلة تحاول إثارة نعرة عنصرية بالقول: «إن الذين يقومون بهذه الأعمال ليسوا بريطانيين بالانتماء»، أو بالحديث عن «متظاهرين يحتجون على قتل فلويد، ولا يتظاهرون عندما يقتل إرهابيون سود جندياً بريطانياً في لندن».
إلى أين سينتهي هذا الجدل؟
هناك رأي يقول إن إزالة التماثيل فعل عاطفي، وإنه لن يعني محو تاريخ العبودية، أو يعالج وحده قضية العنصرية؛ بل إن التدمير قد يعني طمس ذلك التاريخ ونسيانه. لذا قد يكون من الأفضل أن يتخلى المتظاهرون عن المطالبة «بإزالة» التماثيل، ويركزوا بدلاً من ذلك على نقلها إلى متاحف، ووضع لافتات جديدة تحتها توضح دور أصحابها في تجارة العبودية، أو في ممارسات البطش والعنف والاضطهاد في الحقبة الاستعمارية. وحتى لو تعذر أو رفض مطلب نقلها من مكانها، يبقى التمسك بأهمية وضع هذه اللوحات الجديدة تحتها. بهذا المعنى فإن فكرة وجود التماثيل بهدف تمجيد دورها ستنتفي، ويحل مكانها تنوير الناس بشكل مستمر بتاريخ تلك الفترة المظلمة، ودور تلك الشخصيات فيها.
الأهم من ذلك أن ينظر في تضمين المناهج مواد تقرأ التاريخ بشكل واقعي ومنصف، لا يتجاهل الممارسات السالبة، ويوضح معاناة الأقليات اليوم وتاريخ العبودية. وربما تجدر الإشارة هنا إلى ما قامت به جامعة «ليستر» التي كثفت جهوداً منذ فترة «لنفض الاستعمار عن مناهجها» في مواد مثل التاريخ والقانون، وتعيين مزيد من الأكاديميين من الأقليات، لكي تعكس الجامعة التنوع بين طلابها، وفي بريطانيا كلها، وتساهم بذلك في الوعي المطلوب، لا لمواجهة إرث الماضي فحسب؛ بل للتغلب تدريجياً على العنصرية.
معركة التماثيل قد لا تحسم قريباً؛ خصوصاً أن موجة الاحتجاجات التي انطلقت نتيجة لمقتل جورج فلويد ستنحسر؛ لكنها تبقى خطوة إلى الأمام في النقاش الدائر حول إعادة قراءة تاريخ حقبة الاستعمار البريطاني، كما أنها تصب في الجهود الأوسع لمواجهة المشكلات العنصرية. فبريطانيا مثل أميركا تحتاج إلى أن تنظر إلى نفسها في المرآة.