أن تكتب رواية حديثة يعني أن توجه صفعة للمجتمع الأدبي، كما عرفت الرواية الحديثة عن نفسها. وهو خيار أدبي يُلزم الروائي أن يعيش حياة حديثة بالضرورة. ليس على المستوى المادي فقط، بل على مستوى العلاقات والتشريعات والممارسات والأفكار والمعتقدات. وهي متطلبات تبدو شبه مفقودة في حياة الإنسان العربي الامتثالي. لأن الرواية الحديثة لا تعني تلك الصادرة في الأزمنة الحديثة، قدر اقترانها بفكرة التجريب والتماس مع مستوجبات الحداثة، المعاندة للتقاليد، والمرتبطة في آن بنداءات المستقبل. بمعنى أن تعكس الرواية ما يختزنه إنسان اللحظة من رغبة في الحركة والتغيير، بالنظر إلى كونهما، أي الحركة والتغيير، بعدين من أبعاد الحداثة، التي تعكس وعي الفرد بمتعة التحول الدائم في السيرورة الحياتية. وذلك يحتم ظهور رواية متمركزة حول الذات، معاندة للانتظام، وأساليب السرد المألوفة.
إن التغير الحاصل في الحياة العربية يحتم تغيير الشكل الأدبي ولغة التعبير عن الوجود. كما يحتم أن يكون لذلك التغيير صفة الاستمرارية، بمعنى مخالفة الروايات التي يُنظر إليها كروايات معيارية. ليس على مستوى البنية الشكلية وحسب، بل على مستوى البُنى الدلالية والموضوعات والحبكة والإيقاع والمعجم. شريطة ألا يقتصر الصراع الفني الأدبي ضد الكلاسيكيات على تفتيت الحبكات الثقيلة، بل يتجاوز ذلك إلى تجديد الأدوات الروائية المتناسبة مع التحولات البنيوية العميقة في المجتمع العربي. بحيث تنصهر مادة الرواية في معمل روائي حداثي النزعة يستطيع تحريك الوعي الفردي بمواجهة الأفكار والأساليب المستهلكة. وذلك لا يحدث من خلال الرغبة في استعادة الأحاسيس العاطفية بالوجود، إنما بإعادة توجيه الخيال، والتماس الخلاق مع أسئلة التحولات.
الرواية بطبيعتها على درجة من الارتباط بالحداثة، فهي تختزن طاقة لتحديث الحياة، تغيير أفكار الناس وتحريك عواطفهم. وهذا هو ما يفسر رسوخ الرواية الواقعية في المشهد العربي مقارنة بما سُجل من قفزات أدائية في الرواية العالمية. فالحياة العربية بكل مركباتها ما زالت سكونية، خالية من النزعة العقلانية، غيبية، تتحرك على قاع روحي شديد الصلابة والاتساع، تنتصر للجماعية على حساب الفردانية. وكل هذه مضادات للحداثة الحياتية والروائية بطبيعة الحال. وهذا هو ما يفسر ظهور واقعيات جديدة على إيقاع سطوة الوعي الفردي الذي كُتبت به روايات الخراب المخيم كطقس معتم على حياة الإنسان العربي، ونضالات الفرد من خلال النص الروائي للتماهي مع ذلك الوجود المربك.
لقد شكل ذلك الدمار وقوداً حداثياً باعتباره فوضى تحيل إلى التشظي، وتقبل التحول إلى مرجعيات سوسيولوجية يجد فيها الروائي العربي مغترفاً كموضوعات. فقد تحولت تلك المشاهد المحبطة إلى أدوات لتفتيت اليقين، وموت البطل الذي يتسيد الرواية كقيمة خيرة، ابتداء من الشتات الفلسطيني مروراً بالحرب الأهلية في لبنان ودمار العراق وليس انتهاء بفجيعة الخراب السوري. حيث يمكن التقاط تلك المراودات في بانوراما روائية تضم (وليمة لأعشاب البحر) لحيدر حيدر، ورواية (الحفيدة الأميركية) لإنعام كجه جي، ورواية (اللاز) للطاهر وطار، ورواية (الكرنك) لنجيب محفوظ، ورواية حنان الشيخ (حكاية زهرة)، ورواية حنا مينه (الثلج يأتي من النافذة) ورواية (اعترافات كاتم صوت) لمؤنس الرزاز، وغيرها من الروايات ذات النزعات الجماليات الوصفية التي تعمل كوعاء تسجيلي لواقع يحتاج إلى تغيير مواضعاته.
الانزياحات العولمية تولد بالضرورة جماليات مضادة، تعكس وعي الروائي بعمق التحولات. وهذا هو ما يفسر المنحى الذي اتخذته الرواية العربية في مرحلة من مراحلها من خلال تحويل الرواية إلى شاشة لعرض الحال والمآل السياسي، فكانت مصدراً من مصادر حداثة التفكير السياسي، القائم على مراجعة الأيديولوجيا، ومساءلة الحالة الحزبية، حد التنكب للحقبة النضالية، وصولاً إلى التجريب في روايات الديستوبيا. وهو الفارق الذي نلمسه ما بين (كرنك) نجيب محفوظ، حيث المساءلة الفاضحة للنظام البوليسي الناصري، الذي دمر حياة شباب مصر حلمي وإسماعيل وزينب، وبين (عطارد) محمد ربيع، حيث يواجه قناص المقاومة الضابط أحمد عطارد قوات غازية لمصر عام 2025م.
إذ تبدو الرواية وكأنها بمثابة خطاب أدبي لتجسيد دراما الحياة السياسية، انطلاقاً من فرادة الوعي الروائي المنذور لجس حركة الوجود، وذلك من خلال تحويل الأفكار إلى حالة درامية. فالحكاية الواقعية التي سجلتها الرواية العربية في تلك المسافة الفارقة لا تنزاح عن مواضعاتها التسجيلية، بقدر ما تولد شحنة فائضة من الأحاسيس. ذهاباً إلى واقعية حسَية مستوجبة.
هكذا صار على الروائي العربي تفعيل الاستبصارات الحداثية لزحزحة الواقع السكوني المعاند للحداثة، حيث أدت الرواية العربية ما أداه الخطاب الشعري العربي في مرحلة من المراحل لتوطين الحداثة في الفضاء الاجتماعي، على مستوى المضامين المتنوعة والأشكال الحسية، وهذا هو بالتحديد ما نقل الرواية إلى أفق تجسيد الواقعيات الجديدة، المتأتية من رغبة لاستخدام الرواية كأداة وعي فردي ضد اللحظة الحياتية والأدبية المتخثرة. وهذا هو ما يفسر أيضاً ظهور واقعيات فردية بالضرورة لا تشبه الواقعيات النضالية الملحمية عند إبراهيم نصرالله، كما ظهرت في ملحمته الروائية (الملهاة الفلسطينية) ولا واقعيات المواجهة ما بين الشمال والجنوب عند سهيل إدريس، كما تمثلت في روايته (الحي اللاتيني)، ولا واقعيات التأريخ السياسي عند عبد الرحمن منيف في روايته (مدن الملح). حيث تمت التضحية بالمرويات المثقلة بالهم الجمعي على إيقاع صعود الفردانيات.
ذلك الابتعاد البطيء عن المرويات ذات القضايا التي شكلت عناوين مرحلة فكروية، هو الذي أدى إلى خلخلة عمودية وأفقية في الموضوعات المطروحة للسرد الروائي، وانفتاح الفعل الروائي على شهية سرد الذات، واستدعاء محكيها. بمعنى إعادة موضعة الفرد في واجهة المشهد وتحويل الأحداث التاريخية السياسية الكبرى كخلفيات لحراك الفرد. حيث كان موت الواقعيات النضالية بكل حمولاتها القيمية، فرصة لاستظهار الذات المتخففة من المثالية والبطولة، الراغبة في الانطراح روائياً كموضوع، فهذا هو المزاج الحداثي الذي أسس للجيل الروائي الثالث بعد جيلي التأسيس والتأصيل. حيث تم استبدال الجهاز المفاهيمي القائم على التحريك والتغيير ضمن سياقات أيديولوجية ومنظومات قيمية جمعية بجهاز مفاهيمي يرى وجوده جزءاً من حركة معولمة تميت الأبعاد الهوياتية وتُعلي من قيمة الفرد كشاهد وناقد لسيرورة اللحظة.
بهذا التنازل عن مباراة الآخر، والارتداد إلى مساءلة الذات، وإعادة موضعتها على خط الزمن، عبر الروائي العربي مدارات مختلفة، واخترق سقوفاً عالية، بحثاً عن الحقيقة في مكامن أُريد له ألا يقترب منها، ولو بأدوات معطوبة من الوجهة الحداثية، حيث تم استبدال المرجعية السوسيولوجية لثقافة المخيم الفلسطيني – مثلاً – بثقافة الحوار المفتوح مع الآخر الصهيوني، وصولاً إلى شبهة التطبيع. فقد بدا ذلك التحديث الروائي عند بعض الروائيين الفلسطينيين تحديثاً لخطاب التماس مع الآخر. وعلى هذا الأساس يمكن – مثلاً – قياس المسافة التي قطعتها الرواية الفلسطينية ما بين رواية (عائد إلى حيفا) لغسان كنفاني، حيث التأكيد على الاستثمار في الأبناء لضمان استمرار المقاومة بعد أن تصهين خلدون بسبب الفرار من حيفا، وبين رواية (السيدة من تل أبيب) لربعي المدهون، حيث المسافة بين وليد دهان العائد من مغتربه الأوروبي ودانا أهوفا الإسرائيلية لا تتعدى الحاجز الذي يفصل مقعديهما في الطائرة، في إشارة إلى انمساح هاجس الخوف من التماس الحواري مع العدو. كما يمكن فيما يتعلق بحقل تمثيلات الآخر الغربي فحص المخيال الصدامي العنفي الذي صمم به الطيب صالح بطليه مصطفى سعيد وجين مورس في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) مقابل المخيال التأملي الاسترفادي الذي رسم به الحبيب السالمي شخصيتي بطليه ماري كلير ومحفوظ في روايته (روائح ماري كلير). حيث الخطاب المنفتح على زحزحة المفاهيم الصلبة التي حُبس فيها الآخر، والرفض الصريح لشيطنته.
وبتلك الإبدالات الثقافية صارت الرواية العربية لا تمثل تحولات الفكر في الحياة العربية وحسب، بل تقودها إلى مكامن وعرة، ومن خلال ذوات روائية تحضر بوعيها الخاص، وتتخفف من المعنى العام الذي حكم المشهد العربي. إذ بات بمقدور الروائيين التقاط إشارات الحداثة وتوظيفها في رواياتهم كدليل على الإلمام بالمتغيرات، بغض النظر عن كفاءة المعالجات الفنية أو استيعاب البنى الدلالية مقارنة بما يستعرضونه من البنى الشكلية. بمعنى أن الرواية العربية كان لزاماً عليها أن تتغير بقدر ما تُغير، وأن تدخل طور الحداثة في سياق حداثة اجتماعية عصية. وهي مهمة تستوجب بالضرورة التقاط إيقاعات الحياة العربية الجديدة، الظاهر منها والمستتر.
إن سؤال حداثة الرواية هو سؤال حداثة الحياة، إذ لا يمكن أن تكون الرواية نضرة في ظل حياة باهتة. وهذا هو ما يفسر ذلك التلازم البنيوي بين كفاءة الرواية العربية وشكل الحياة العربية. فهي تغترف موضوعاتها وآليات تعبيرها من ذلك المعين، كما تكتسب إيقاع حداثتها منه أيضاً. ولذلك يبدو انسداد الأفق الحياتي منعكساً بقوة في الروايات المزدحمة بالنكسات والخيبات، المحفوفة بحبكات روائية ساذجة، وفضاءات خانقة. إذ لا أفق لشخصية روائية مستمدة من فضاء حياتي بائس. وهذا هو شرط من شروط الحداثة الروائية التي تحتم التصاق الرواية بالحياة. بمعنى أنها تماثل تجارب الكائن الشعورية والجسدية والذهنية، وهي متوالية لا تحضر بكامل عنفوانها في الرواية العربية.
تلك التجارب والخبرات التي تضغط على فكر ومزاج الروائي العربي فتجعل روايته مزدحمة بالقضايا والمرافعات، وكأنها صندوق اقتراع على المواقف والمبادئ، تضع إيقاعها خارج سياق اللحظة. فما زال الروائي العربي يهاب البساطة أو ربما لا يجيد استخدام مفاعيلها، بمعنى استخدام عبارات واضحة ومباشرة لوصف غبش الحياة وتشوش رؤيتها وارتباك حركتها، حيث اليوميات الانبساطية تتحول إلى ملاحم سردية إذا ما تأتت كمادة خام لروائي يعادلها بالواقع. وهذا هو التحدي الذي تضطلع به الرواية، أي تسجيل كامل التجربة الإنسانية، ليس من ناحية التطابق مع الواقعية الشكلية، بل من خلال الاشتباك بالواقع باعتباره إشكالية. وهذا هو حاولته بعض المراودات الروائية العربية، من حيث تقويض الحقائق الراسخة وإعلاء نزعة التشكيك، وعرض الواقع العربي بنبرة تهكمية ساخرة.
لا حقائق مطلقة في الرواية الحديثة، ولا مكان لليقين، ولذلك تعتبر الحكاية ونواتها الصلبة (الحبكة) مجرد أدوات لاختبار منسوب وعي الذات الكاتبة والقارئة بالحركة الاجتماعية التاريخية، فالواقع لم يعد مرئياً بذلك الوضوح اليقيني الذي كان عليه. وعلى الروائي العربي أن يعمل كمفسر لذلك الانزياح المربك للواقعيات الحديثة، لا أن يكون مجرد ناسخ لتمظهراته. حيث الخطاب الروائي يغير بقدر ما يتغير. وكل ما هشمته الحداثة من القيم المادية واللامادية لا تحتاج إلى من يقيم المراثي على أطلالها، بل إلى روائي يخلع عليها وجهة نظره الشخصية، المتأتية من حضوره على خط الزمن، باعتباره كائناً حديثاً وحداثياً.
* ناقد سعودي
أخبار ذات صلة
«نهايات الليل»… كائنات تعيش تراجيديا العزلة والوحدة
في مجموعته القصصية «نهايات الليل»، يزج بنا الكاتب المكسيكي إدواردو أنطونيو بارا بين أتون «مغامرات مفعمة بطعم القسوة والعنف، في مدن المكسيك المتاخمة للولايات المتحدة»، لتصير «نهايات الليل» بهذا المعنى، كما يقول عنها مترجمها المغربي أحمد الويزي «رواية في تسع حلقات عن ليل الهوامش والهامشيين: الشواذ والمنبوذين والهاربين من وعيد الانتقام وإنذار الخيانة؛ هؤلاء السهارى والسكارى والمصابين بلوثة الحزن والحنين الذين يعيشون بمفردهم ليلاً آخر مضاعفاً من العزلة والوحدة والضياع، في مدن تخومية بلا قلب».
لم يكتفِ الويزي بترجمته للمجموعة القصصية للكاتب المكسيكي، الصادرة عن دار النشر الأردنية «خطوط»، متضمنة قصصاً ساحرة «تشد على خناق القارئ منذ الأسطر الأولى»، وهي «القسم» و«لذة الموت» و«لحظات ليلية هاربة» و«فراغ ذريع» و«البئر» و«كيف تمضي الحياة» و«القناص» و«المتاهة»، بل عمل على تحفيز القارئ، من خلال مقدمة انطلق فيها من الصُّدفة التي أفضت به إلى التعرّف على العالم القصصي المميّز لكاتبها الذي ينتمي إلى الاتجاه الأدبي الذي أبدع فيه على نحو مدهش مواطنه خوان رولفو صاحب المجموعة القصصية الفريدة «سهل الإليانو المحترق» الذي يُعد بحق أبدع رواد المدرسة الأدبية الطبيعية الإيبيرو-أميركية في كتابة القصة القصيرة والرواية خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
يشدد الويزي، في مقدمة ترجمته لـ«نهايات الليل»، على أن «أول ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة الرائعة هو التوليفة الموضوعاتية التي تجمع بين قصصها كافة، إذ اختار لها بارا إطاراً دينامياً واحداً يُهيْكلها، هو زمن الليل، أو بالأحرى زمن نهاية الليل». ولذلك، جاءت ليلية بامتياز، تقع فيها الأحداث الحاسمة ضمن «اللحظات الفارقة من عمر الليل المكسيكي». ومن ثم، فـ«ليس من قبيل الاعتباط أن يركز عنوان المجموعة على لحظة الـنهاية، باعتبارها حداً فاصلاً بين زمنين: الليل والنهار».
وإلى جانب الإطار المميز الذي يحيل على «زمن البيْن-بيْن المفعم بالالتباس والتوتر» لأن «نهاية الليل هي فترة فاصلة بين زمن الظلمة والنور»، بمعنى «تأطرها ضمن اللحظات الأخيرة التي ينزع فيها الليل إلى الموت، بينما يندفع أثناءها النهار إلى التولد، عبر توليفة رمادية رفيعة يختلط فيها الضوء بالعتمة، والسواد بالبياض»، يشير الويزي إلى أن بارا «اختار إطاراً مكانياً مشبعاً كذلك بدلالة البيْن-بيْن، تحبل تربته بعدة تفاعلات وتجاذبات واضطرابات، وذلك باختيار مدن مكسيكية متاخمة للولايات المتحدة مسرحاً للقصص: مونتيري وسيوداد خواريز الواقعتين في الشمال خاصة»، حيث «طبع هذا الاختيارُ شخوصَ المجموعة بسمته البارزة، وجعلها كائنات تعيش أوضاعاً ليلية تمور بالقلق والاضطراب والتقلب»، بحيث يُلاحَظ أن شخصيات «نهايات الليل» كافة هي تقريباً «شخصيات نواسة، تعيش قلقاً محموماً بين الهنا والهناك، يعمقه تقلبها الحرون بين لحظة الآن ولحظة ما قبل الآن، بين الواقع والذاكرة والحلم المفتوح على الرغبة التي قد تتحقق، وكثيراً ما لا تتحقق».
وبناء على هذا التأرجح القلق بين عوالم الزمان والمكان المتقابلة، يضيف الويزي: «يلعب الزمن النفسي المتموج المتقلب، متمظهراً في عناصر الرغبة والذاكرة والحلم وهواجس الخوف، دوراً محورياً في قصص هذه المجموعة، وإليه يؤول الحسم النهائي في كثير من الأحيان، إذ سرعان ما ينقلب السرد المتوالي الاطراد في عدة قصص إلى ارتدادات استرجاعية، ويغدو الحوار مجرد مونولوغ هذياني، لأن لحظة الحاضر غالباً ما ترتهن للماضي، فتتحول بذلك مصائر الشخصيات القصصية إلى مجرد نهايات تراجيدية تكون قد تقررتْ سلفاً، بالدم والإصرار على الثأر، لا يمكن لأي شخصية منها أن تهرب من الحتمية المقضية».
وإلى جانب ذلك، تتميز هذه الشخوص الليلية كافة بكونها «كائنات تعيش تراجيديا العزلة والوحدة القاتلة في أمكنة تعج بالآخرين»، تلوك «هذيانها المحموم بمفردها، حتى إن ظل المكان الذي يأويها يجمع بينها وبين أشباهها من (خفافيش) الليل الباحثة عن المتعة والصحبة والسمر. وكأن الكل يحيا في خلية تعج بالنسخ والأشْباه، إنما ضمن عزلة الخُرْنوب الخاص الذي هو خرنوب الذاكرة الموارة والوحدة القاتمة».
يتعلق الأمر بشخصيات استثنائية، بقدر ما هي «مسكونة بالخشونة والغلظة والفظاظة والعنف»، تبقى «أسيرة لمشاعر رقة وتحنن آسرة، تنتهي بجعل القارئ يتعاطف معها حتى في أشد حالات القسوة التي تصدر عنها». ومن ذلك ما تطالعنا به قصة «البئر»، حيث نقرأ: «إذن، أنتَ بهذا تخاف من الظلام؟ يا لسوء حظك، يا ولدي! يبدو أنك تعودْت على حياة المدينة. هنا، الليالي طويلة. في بعض الأحيان، يمتد الليل ليصل إلى اثنتي عشرة ساعة، فيلقنك بأن الأسوأ هو الضوء، والشمس، وامتداد النهار السحيق. هذا، نعم، إنه خطير: يعمي الأبصار، ويقتل. يُذهب ببطء بَشَرَتك وحنجرتك ولسانك، وينتهي بك إلى الموت على نار هادئة. عكس الظلمة تماماً، فهي رطبة وممتعة، ويمكنك التنقل بين أحضانها، مثلما تتنقل السمكة في الماء. هيا، تقدمْ، ولا تتباطأ. لستُ أدري لماذا لا تسير على نحو مستقيم، ما دام يكفيك أن تتبع مسار الحبل. أنا دليلك. لا تتوقف. انظر إليّ: أنا رجل عجوز وأعرج ورجلاي ملتويتان، ومع ذلك لا أسير مائلاً أبداً، ولا أتهاوى على الأرض. لا، ليس لك عذر. أنت فتى يافع، وبرجلين سويتين. إيه، اسمع… ربما هذه أصوات الذئاب، أليس كذلك؟! لا، إنها من فصيلة الكُيوط. في بعض الأحيان، تقترب من البئر. هيا، قمْ، سنستأنف السير. انهض، انهض… مع انصرام العمر، يأتي على المرء حينٌ من الدهر، لا يكون فيه بحاجة إلى أن يبصر أبداً. لهذا السبب، نصبح نحن الشيوخ بلا شك عمياناً من غير أن نشعر بذلك، إذ نكون قد رأينا الكثير من الأمور، فتشرع العيون في العبوس والتقطيب، ولا ترغب في عدها في رؤية أي شيء، فتعبر بمثل ذلك عن الشكوى. حينها، يتعين علينا تركها لتستريح، وهذا أفضل. أنا اليوم، مثلاً: إذا انتُزعَتْ مني العينان، فلن أقاوم بالكل. إنهما أنجزتا مهمتهما الأخيرة: رؤيتك، والتعرف عليك… أنت لا تصدق، أليس كذلك؟! أما أنا، فهذا ما أعتقده. أنا متأكد من أنه كان يتعين على الظلمة أن تكون عنصراً فعالاً بالنسبة إلى الإنسان».
ويشير الويزي إلى أن الكاتب «استعمل على نحو حاذق مجموعة من عناصر الكتابة السردية السينمائية، حيث يتم التبئير في كثير من القصص على مشاهد وحركات وملامح وأعضاء جسدية بعينها، من خلال تنويع الرؤية وتكثير الإطارات»، إلى جانب «تقنية التقطيع المعتمدة في كتابة السيناريو السينمائي، وخاصة سيناريو الفيلم القصير»، كما أبدع في «وضع النهايات غير المتوقعة لقصصه».
وإدواردو أنطونيو بارا كاتب مكسيكي معاصر، وُلِد بمدينة ليون المكسيكية، سنة 1965، ودرس الآداب الإسبانية بجامعة نويبو ليون، ثم تخرج منها، وعمل في الصحافة الأدبية، وحصل على جائزة خوان رولفو سنة 2000، ثم جائزة أنطونين أرثو سنة 2009، عن «نهايات الليل».
أخبار ذات صلة
«زوجات من اليابان»… في أميركا
صدرت حديثاً عن «المركز الثقافي العربي» الترجمة العربية لرواية «زوجات من اليابان» من تأليف جولي أوتسوكا، وترجمة السملالي سهيل وصدوق يوسف.
وبحسب الناشر؛ فإن «زوجات من اليابان» تحفة فنية تمزج بين الجمال والقوة، فهي رواية تحكي بدقة وإحساس شديدين قصة المهاجرين اليابانيين في أميركا، حيث كانت الأسر تُبنى مع نساء أُتي بهنّ من اليابان على طريقة تبادل الصور.
على مدى فصولها الثمانية، تواكب الرواية حياة هؤلاء اليابانيات، منذ وصولهن عبر السفن إلى أرض مجهولة، إلى أيامهن الأولى كعرائس، ثم عملهن الشاق في الحقول وفي بيوت النساء البيض، كما تروي معاناتهن في تعلم اللغة والثقافة الجديدتين، وتجاربهن في تربية أبنائهن الذين سرعان ما يخجلون من لغتهن الركيكة وعاداتهن الغريبة.
وجولي أوتسوكا روائية يابانية ولدت في 15 مايو (أيار) 1962 في بالو ألتو بكاليفورنيا، وتعيش في الولايات المتحدة الأميركية.
واشتهرت برواياتها الخيالية التاريخية التي تتعامل مع الأميركيين اليابانيين، وتتسم كتبها بتوجيه الانتباه إلى محنة الأميركيين اليابانيين طوال الحرب العالمية الثانية، وعرفها القراء من خلال رواية أولى بعنوان «حين كان الإمبراطور إلهاً»، ومن أشهر أعمالها أيضاً «بوذا في العالم السفلي» التي تؤرخ فيها لحقبة منسية من معاناة اليابانيين في أميركا، وحصلت عنها على جائزة «فيمينا» عن فئة «الأدب الأجنبي» عام 2012، كما حصلت من قبل على جائزة «لوس أنجليس تايمز» للكتاب لعام 2011، وجائزة «الأدب الآسيوي – الأميركي» لعام 2003.
أخبار ذات صلة
اللجوء وحكاية صديقين في رواية فلسطينية
صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، رواية «الشقة في شارع پاسي» للروائي الفلسطيني راجي بطحيش، وهي الرواية الثانية للكاتب بعد رواية «يولا وأخوته».
وتتناول الرواية «حكاية صديقين: أمير وجميل عبر عشرات السنوات، وضمن سياقات تاريخية وثقافية صاخبة. بين عامي 2001 و2019 تاريخ كامل تغير فيه مفهوم اللجوء، وأصبحت العلاقة بين شرق المتوسط وأوروبا أكثر تعقيداً وشحناً، جميل وأمير يهاجران إلى باريس في عام 2001 بعد نشوب الانتفاضة الثانية وأحداث أكتوبر (تشرين الأول) 2000 في الجليل؛ طمعاً في حياة أفضل.
جاء على غلاف الرواية: «متنقلاً بين الأماكن والأزمنة، يتتبع راجي بطحيش في روايته (الشقة في شارع پاسي) رحلة بطليه جميل وأمير لاكتشاف نفسيْهما وهويتيْهما ومكانيْهما في العالم. وعبر سرد حيوي، مُفعم بروح ميلودرامية لا تخلو من تأمل ساخر لشخصياته، يرسم بطحيش مسارات بطليه من الوطن فلسطين، أو (البلاد) كما يُسميها، وحتى شوارع وممرات العاصمة الفرنسية باريس؛ باريس أخرى قاسية، غير تلك المضمَّخة بالعطور والمزدانة بالحُلي والأزياء الفاخرة، من البداية الحالمة في زمن الطفولة، وحتى النهاية المفجعة في نهاية الطريق».
تقع الرواية في 208 صفحات من القطع المتوسط، وقد صمم غلافها الشاعر زهير أبو شايب.