بمجرد البحث عن «نظرية الفوضى الخلاقة» لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس في أي متصفحات عربية للبحث، ستجدُ مئات – ولربما آلاف – المقالات وعشرات الكتب التي كُتبت عنها، وستشاهد عدداً لا يحصى من البرامج الصوتية والمرئية التي تناولت وحلَّلت هذه النظرية في منظومة النظريات القطعية الدلالة والحدوث، بل ستدهش، ولربما تصدم، أكثر عندما ترى أنَّ نخبة ورموز الثقافة العربية التي تجيد القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية كمذيعي البرامج التلفزيونية العربية من حملة الشهادات العليا، أو المثقفين والأكاديميين العرب يتعاطون مع هذه النظرية السياسية من منطلق الاعتقاد اليقيني بوجودها، وكأنَّها حقيقة لا جدال فيها، من دون بذل أي جهد في محركات البحث عن حقيقة ما يتحدثون عنه. ومن غير المستبعد أيضاً أنَّ هناك أبحاثاً ورسائل علمية محكمة لدرجات الماجستير والدكتوراه في عالمنا العربي قد كتبت عن هذه النظرية السياسية.
ولكن المؤلم حقاً في سياق عصر الثورة المعلوماتية وسهولة الحصول على المعرفة والمعلومة، أن تجد بعض ملامح العقل العربي – بما في ذلك العقل العلمي – ما زال متشبثاً بالثقافة الشفهية، والاحتكام الكلي لسلطة المثقف، والتداول الاجتماعي السمعي للمعاني، وتصوير الظنيات بأنَّها قطعيات، وتغييب التفكير النقدي عند التحليل العلمي. والأهم من ذلك كله ولعه بنظريات المؤامرة وميله الوجداني – لا العقلي – لتصديق أي دعاية سياسية من دون تكلف عناء البحث في تحري الحقيقة بالرجوع إلى المصادر الأصلية للمعلومة أو الفكرة المطروحة، والاطلاع على تفاصيلها وفق شروط الحدود الدنيا للمنهج العلمي والملاحظة الدقيقة والصارمة في العالم الاجتماعي والسياسي المحيط بنا.
فبعد أحداث «الربيع العربي» شاعت وانتشرت نظرية الفوضى الخلاقة، واستقرت في العقل الجمعي العربي وترسخت في وجدانه، وروَّج لها كبار المثقفين العرب، ونشرتها الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون الناطقة بالعربية. ولعل أحد أبرز من كتب عنها مقالات باللغة الإنجليزية والعربية رُوّجَ لها في كل محفل سمعي ومرئي، والذي يعد من أحد كبار مروجي نظريات المؤامرة، مذيع قناة الجزيرة فيصل القاسم المتخرج في أعرق جامعات بريطانيا المختصة في مناهج البحث العلمي وطرق الاستدلال عن الحقيقة. ومفاد مزاعم هذه النظرية أن كوندوليزا رايس هي من صاغت نظرية الفوضى الخلاقة، التي تهدف وفق إطارها النظري العام إلى تفكيك منطقة الشرق الأوسط وفق المصالح الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة وإسرائيل.
ولأني – من جهة أولى، لا أثق كثيراً بمعظم – وليس بكل – ما يطرحه المفكرون العرب، خاصة إن تعلق الأمر بالظواهر السياسية، ومن جهة أخرى، من منطلق الرواج الكبير للنظرية وانتشارها الملحوظ في المشهد الإعلامي والثقافي العربي، وعلاقة ذلك بتخصصي في العلوم السياسية، وما تعلمته من جدية في طرق الاستدلال المنهجي للبحث عن الحقيقة، وجدت نفسي منساقاً للبحث عن أصل النظرية ونشأتها، والإحاطة بكل ملابساتها وسياقها الاجتماعي وظرفها التاريخي. وكانت المفاجأة عبر الرجوع إلى المصادر الأصلية بأن النظرية لا أصل لها، وهي مجرد «بروباغندا سياسية».
ففي أثناء عملية تأصيلي لهذه النظرية وتبيان أصلها حتى أنسبها لأصحابها الأصليين، لم أجد لها أصلاً نظرياً، ولا فصلاً ثقافياً، ولا نسباً معرفياً، وإنما هي «نظرية لقيطة بلا أبوين» ومختلقة في فضاء أفق المعرفة العربية، وكل ما خرجت به من عملية البحث عن أصل النظرية، مجرد أحاديث صحافية لكوندوليزا رايس، إحداها كانت عبارة عن مقابلة في صحيفة أميركية في 2005. والأخرى في أعقاب الحرب اللبنانية الإسرائيلية 2006. وقد تحدثت في الأولى بما يفيد بأن الشرق الأوسط بحاجة إلى تغيير أو (شرق أوسط جديد) لأنَّ انتشار التطرف والأصولية الإسلامية يعود إلى غياب الحراك السياسي السلمي، وفي الأخرى أشارت إلى ولادة شرق أوسط جديد لا يتقاطع بديناميكياته السياسية مع القديم، من دون الإشارة من قريبٍ أو بعيد (لنظرية الفوضى الخلاقة) ومن دون أن تذكر أو تشير صراحة إلى مفهوم أو نظرية الفوضى الخلاقة في مقابلاتها أو في مذكراتها أو مقالاتها. بل لم تشر أي مجلة علمية أو أبحاث أكاديمية رصينة مكتوبة باللغة الإنجليزية لهذه النظرية… إذن فمن هو الأب الشرعي لهذه النظرية، أو «المنظر الكبير والخلاق لها»، سواء كان فرداً أو مؤسسة، الذي صاغ مفهومها وتمكن من تسويقها ونشرها بهذا الزخم الإعلامي والثقافي الكبير والجبار؟
وفي الواقع، لم تكن نظرية الفوضى الخلاقة هي النظرية الوحيدة التي ولدت بلا أصل معرفي، وترعرعت في أحضان الوعي العربي. بل سبقها قبل ذلك الخرائط الجيوسياسية للمستشرق البريطاني برنارد لويس التي تحاكي من النواحي الشكلية والموضوعية للمؤامرة نظرية الفوضى الخلاقة، والتي يُزعم بأن لويس قدمها على شكل نصائح مكيافيلية إلى الإدارة الأميركية، بهدف بناء شرق أوسط جديد ينشأ فوق رفات الشرق الأوسط القديم، وإعادة تقسيم خارطة المنطقة وفق ترتيبات وقواعد سايكس بيكو جديدة، تقوم على معايير عرقية وإثنية مختلفة عن القديمة. وكما هو الحال مع نظرية الفوضى الخلاقة، لا يوجد أيضاً أي أصل حقيقي لهذه المطالبات السياسية اللويسية وفق الخرائط الشائعة المنسوبة له.
أدرك جيداً أنَّ نتائج هذا البحث ونفي وجود هذه النظرية المختلقة لرايس قد يثير الاستياء والامتعاض، ولربما الحنق عند الكثير من المؤمنين بنظريات المؤامرة، لأن معطيات الحجج الموضوعية على الأرض، تُكذب، ولا تتقاطع مع التصورات الذهنية القطعية في العقل لمن كان يؤمن بهذه النظرية وكأنها حقيقة مطلقة، ويغلب المعرفة الذاتية على الحقيقة الموضوعية. وبكل تأكيد فإنَّ هذه النتائج المستخلصة لا تعني أبداً أنَّ المؤامرات السياسية غير واردة على الإطلاق في سياق العلاقات الدولية، واتفاقية سايكس بيكو وغيرها من الدلالات والشواهد القطعية على حدوث بعض المؤامرات الدولية.
ولكن ما أؤكده هو ألا يأخذ المتلقي الكلام دائماً على عواهنه، وأن يتحرر من المغالطات المنطقية في الاحتكام إلى سلطة الباحث أو المثقف، وأن يبحث دائماً عن المصادر الأصلية للمعلومة المطروحة، حتى يحررها من شبكة المصالح المرتبطة بها، وتفكيك الخلفية الآيديولوجية الكامنة في مضامينها، والاطلاع على الغرض النهائي من نشرها وتسويقها. وهنا يكمن دور المتلقي أو المستمع، لا سيما في ضوء عصر الثورة التكنولوجية للمعلومات، التي أتاحت له الفرص والإمكانيات السهلة لعملية الوصول إلى الحقيقة والمعرفة الموضوعية، والتحري بشأن مدى دقتها ومطابقتها للواقع، وبالتالي القدرة الجادة على النقد الموضوعي للديماغوجية الآيديولوجية، والغوغائية السياسية، والسطحية المعرفية في التحليل السياسي عند من يتصدرون المشهد الثقافي العربي. فدور المتلقي وقدرته على التحري من المعلومة في عصر المعرفة التكنولوجية لم يعد معقداً، وكل ما عليه هو وضع اسم النظرية باللغة الإنجليزية، لمن يجيد اللغة الإنجليزية، في متصفحات البحث في بعض المواقع، «ويكيبيديا» أو «غوغل سكولر» على سبيل المثال لا الحصر. فإن كانت لها أصلٌ حقيقي ستظهر بشكلٍ تفصيلي في المواقع العامة والمتخصصة، والمجلات العلمية، ولربما سيجد بعض الجدل الفكري والمناقشات العلمية والنقدية التي تدور حولها في كثير من مواقع الشبكة العنكبوتية.
وعلى خلاف النظريات العلمية الرصينة الموثقة في كل متصفحات البحث في حال تم البحث عنها بلغتها الأم كالواقعية الجديدة، نظريات الاعتماد المتبادل، أو توازن القوى، أو العقد الاجتماعي أو غيرها من نظريات الفكر السياسي، فلن يجد المتلقي لا لنظريات الفوضى الخلاقة أو لمطالبات لويس بشرقٍ أوسط جديد وفق الخرائط المنتشرة أصلاً حقيقياً أو أبحاثاً علمية رصينة مكتوبة باللغة الإنجليزية. وغالب ما سيحصل عليه من نتائج بحثه في نظرية الفوضى الخلاقة، هي إما مواد علمية مكتوبة في مجملها باللغة العربية، أو أبحاث باللغة الإنجليزية تتحدث عن الفوضى الخلاقة في إطار نموذج معرفي في نظم الإدارة التقنية في حال تم كتابة النظرية وفق الصيغة التالية: Creative Chaos Theory
وختاماً، أود الإشارة لكل القائمين على صناعة المحتوى السياسي لمكونات العقل العربي، بأنَّ هذا العقل المُبرمج لتصديق كل نظريات المؤامرة، والذي يمتلك قابلية عالية للتسليم بكل مضامينها غير المنطقية والمتناقضة أحياناً، يعد سوقاً واعدة وفرصة استثمارية نادرة لنشر وبيع الدعايات السياسية المضللة، وترويج موضات وسلع جديدة للمؤامرات الكبرى، لمصالح من يستثمر فيه برأسمال بسيط، ولكن بطرق وأساليب حديثة مبتكرة. وهنيئاً لهذا المستثمر السياسي صفقة الأرباح التي سيجنيها من سوق العقول المبرمجة لتصديق نظريات المؤامرة في منظومة الثقافة الشفهية، التي لا يبذل العقل فيها أي جهد للبحث عن الحقيقة، رغم تنوع روافد الوصول إليها وسهولتها.