مساعي العودة لمائدة المفاوضات لوضع نهاية للانقلاب على الاتفاق السياسي الليبي لا تزال تدور في الكواليس، لكن على الأرض تدور معركة السيطرة على قاعدة الجفرة، فما أهمية تلك القاعدة، ومن يسيطر عليها الآن، ومن الأقرب لحسم المعركة؟
فتِّش عن أهداف روسيا
تقع قاعدة الجفرة الجوية الآن تحت سيطرة مرتزقة فاغنر، وتحميها طائرات وأنظمة دفاع جوي روسية، وإذا كان تحرير قاعدة الوطية الجوية (غرب) حجر الزاوية في القضاء على مشروع الجنرال الانقلابي خليفة حفتر في المنطقة الغربية، فإن قاعدة الجفرة الجوية (وسط) تمثل نقطة الارتكاز الرئيسية لمن يرغب في السيطرة على الأقاليم الثلاثة للبلاد ومنعها من الانزلاق نحو خطر التقسيم.
ومن هذا المنطلق، يسعى الجيش الليبي التابع للحكومة الشرعية، المدعومة من تركيا، لاستعادة السيطرة على قاعدة الجفرة الجوية (650 كلم جنوب شرق العاصمة طرابلس)، ولكن ذلك مرهون بتحرير مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس).
لكن هذا الهدف الاستراتيجي يصطدم الآن بخطة روسيا للتواجد الدائم في ليبيا لأهداف تتخطى الملف الليبي برمته إلى تأسيس قواعد روسية تهدد خاصرة أوروبا الجنوبية، وبالتالي إيجاد نوع من التوازن مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهنا تكمن صعوبة المعركة، فبعد أن كان الهدف المعلن للجيش الليبي هو انسحاب ميليشيات حفتر إلى ما قبل هجومه على طرابلس، في 4 أبريل/نيسان 2019، رفع سقف مطالبه إلى انسحاب الميليشيات إلى ما قبل التوقيع على الاتفاق السياسي في 17 ديسمبر/كانون الأول 2017، وهو ما يعني انسحاب ميليشيات حفتر عن سرت وكامل محافظة الجفرة وإقليم فزان (الجنوب الغربي).
روسيا تُلقي بثقلها في الجفرة
لكن قاعدة الجفرة الجوية، التي سيطرت عليها ميليشيات حفتر في 2017، أصبحت خاضعة بشكل أساسي لمرتزقة شركة فاغنر الروسية، والتي زودتها موسكو مؤخراً بـ14 طائرة حربية من نوع “ميغ 29 إس” (مخصصة للتفوق الجوي والهجوم الأرضي معاً)، بالإضافة إلى عدد من طائرات “سوخوي 24″، (مخصصة للهجوم الأرضي)، بحسب القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم).
ناهيك عن منظومات دفاع جوي من نوع “بانتسير”، وأجهزة تشويش، ونحو ألفي مرتزق من أوروبا الشرقية (روس وأوكران وصرب)، انسحبوا من جنوبي طرابلس بعد هزيمتهم أمام الجيش الليبي.
واتخذت ميليشيات حفتر، قاعدة الجفرة، منذ بداية هجومها على طرابلس، مركزاً لتحشيد عناصرها والمرتزقة الأفارقة، ومخزناً للمؤن والأسلحة والذخائر ثم إرسالهم إلى جبهات القتال في المنطقة الغربية قبل اندحارهم منها مؤخراً.
ورغم نفي روسيا تدخلها عسكريا في ليبيا، فإنه من الواضح أنها تسعى لإقامة قاعدة جوية دائمة في الجفرة، وأيضاً قاعدتين بحرية وجوية في سرت ومطار القرضابية التابع لها، على غرار القاعدة البحرية في مدينة طرطوس، وقاعدة اللاذقية الجوية غربي سوريا.
والهدف من إقامة موسكو قواعد عسكرية جنوب البحر الأبيض المتوسط أكبر من ليبيا بكثير، وهو السعي لحصار الحلف الأطلسي (الناتو) من الجنوب رداً على الدرع الصاروخية للحلف غرب روسيا.
وفي هذا الصدد، نقلت السفارة الأمريكية لدى ليبيا، الخميس 18 يونيو/حزيران، في بيان، عن عميد مشاة البحرية الأمريكية برادفرد غيرنغ، مدير العمليات بأفريكوم، قوله: “روسيا تواصل الضغط من أجل موطئ قدم استراتيجي على الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي”.
فمعركة تحرير قاعدة الجفرة الجوية من أصعب المعارك التي سيخوضها الجيش الليبي، إن فشلت الحلول الدبلوماسية، لأنها لن تكون ضد ميليشيات حفتر لوحدها، بل ضد المرتزقة الروس ومن خلفهم.
الحاضنة الشعبية تتبرأ من حفتر
أحد الأسباب التي أدت إلى سقوط قاعدة الجفرة الجوية في 2017، تأليب سكان المحافظة التي تحمل ذات الاسم وتضم خمس بلدات رئيسية: هون، ودان، سوكنة، الفقهاء، وزلة، ورغم أن هذه المناطق تصف نفسها بالمحايدة، فإنها مع اشتداد القصف الجوي (الأجنبي خاصة)، طالب أهالي الجفرة، القوة الثالثة التابعة لكتائب مصراتة (التابعة لحكومة الوفاق الشرعية) بالخروج من القاعدة لتجنيب بلداتهم ويلات الحرب.
وهذا ما حصل فيما بعد، حيث انسحبت القوة الثالثة إلى مصراتة، في يونيو/حزيران 2017، ودخلت ميليشيات حفتر قاعدة الجفرة الجوية، دون قتال، لكن انطلاقاً من قاعدة براك الشاطئ (700 كلم جنوب طرابلس) بدلاً من معاقلها الرئيسية في الشرق، ويبدو أن نفس السيناريو يتكرر، حيث طالب المجلس البلدي الجفرة، قبل أيام، جميع التشكيلات العسكرية، في إشارة إلى ميليشيات حفتر والمرتزقة الأجانب، بمغادرة بلداتهم بما فيها قاعدة الجفرة الجوية.
فانقلاب الموازين لصالح القوات الحكومية، دفع المجلس البلدي الجفرة لتغيير موقفه والتخلي عن حفتر، على غرار عدة مدن في المنطقة الغربية، ورغم أن هذه المطالبة شكلية، لافتقاد المجلس البلدي الجفرة القوة العسكرية الكافية لطرد حفتر وميليشياته والمرتزقة الروس، إلا أنها تعكس خسارة حفتر للحاضنة الشعبية بالمنطقة، والتي أصبحت مهيأة للعودة إلى الشرعية.
أكبر تهديد للموانئ النفطية
شكلت قاعدة الجفرة، بالنسبة لميليشيات حفتر، تهديداً كبيراً لمنطقة الهلال النفطي، إذ إنها كانت نقطة انطلاق لسرايا الدفاع عن بنغازي، التي تضم مقاتلين من الشرق (مناوئين لحفتر)، لتحرير الموانئ النفطية.
ونجحت سرايا الدفاع عن بنغازي، في مارس/آذار 2017، في السيطرة على ميناءَي السدرة وراس لانوف بالإضافة إلى بلدتي النوفلية وبن جواد (شرق سرت)، لكن التفوق الجوي لميليشيات حفتر سمح لها بإعادة السيطرة على هذه المناطق بعد أيام فقط من خسارتها.
وبعد ثلاثة أشهر، استولت ميليشيات حفتر على قاعدة الجفرة الجوية، لتأمين الموانئ النفطية من أي هجوم من الجنوب.
إصرار على تحرير قاعدة الجفرة
بالنسبة للحكومة الشرعية، تحرير قاعدة الجفرة الجوية من أيدي ميليشيات حفتر والمرتزقة الروس، مسألة حيوية لا تراجع عنها حيث شكلت الحكومة غرفة عمليات لتحرير سرت والجفرة، بقيادة إبراهيم بيت المال، منذ أشهر بهدف استعادة منطقتين استراتيجيتين استولى عليهما حفتر، بعد توقيع الاتفاق السياسي نهاية 2015.
فالسيطرة على قاعدة الجفرة الجوية ستقطع طريق الإمدادات الرئيسية لميليشيات حفتر في مدن إقليم فزان وبالأخص قاعدتي تمنهنت بمدينة سبها (750 كلم جنوب طرابلس) وقاعدة براك الشاطئ، ويعني ذلك سقوط إقليم فزان بكامل مدنه بين أيدي الجيش الليبي وبأقل الخسائر، خاصة أن الحاضنة الشعبية لحفتر بالجنوب بدأت تتآكل، نظراً لفشله في إدارة أزمات المنطقة، وبالأخص أزمة الوقود، ومؤخراً انتشار فيروس كورونا بسببها.
لكن تحرير قاعدة الجفرة قد لا يتم إلا بتحرير سرت، التي تبعد عنها بنحو 300 كلم إلى الشمال، كما يمكن للقوات الحكومية التحرك من المحور الجنوبي عبر بلدة الشويرف (280 كلم غرب قاعدة الجفرة)، بالإضافة إلى محور أوسط ينطلق من أبوقرين (110 كلم جنوب مدينة مصراتة) ووادي جارف باتجاه قاعدة الجفرة جنوباً.
ويتطلب تحرير الجفرة تحييد سلاح الجو لحفتر، وخاصة طائرات ميغ 29 وسوخوي 24، والطائرات الصينية المسيرة وينغ لونغ، وكذلك تدمير منظومات الدفاع الجوي بانتسير.
وسبق للقوات الحكومية أن نجحت في تحييد الطائرات المسيرة في محيط طرابلس، وتدمير 9 منظومات دفاع جوي بانتسير، بمناطق مختلفة، لكن لم يسبق أن تعاملت مع طيران حربي متطور مثل “ميغ 29 إس”، المتخصصة في السيطرة الجوية، وهو ما يتطلب أسلحة أكثر تطوراً لمنع حفتر من تسيُّد سماء المعركة.
فالسيطرة على قاعدة الجفرة تفتح كل الخيارات أمام القوات الحكومية، ليس فقط السيطرة على الهلال النفطي الاستراتيجي وإقليم فزان وحقوله النفطية، بل أيضاً الزحف نحو مقر حفتر في منطقة “الرجمة” بمدينة بنغازي (شرق) لإسقاط مشروع الحكم العسكري في كل شبر من ليبيا.