لم تكن الكتابة ولن تكون عملاً سهلاً يمكن الشروع به في أي وقت، ويخضع لإملاءات الكتّاب وإرادتهم المباشرة. ذلك على الأقل ما يستخلصه المرء من سيَر الشعراء والمبدعين الذين تحدثوا عن علاقتهم بالكتابة ومكابداتهم الشاقة مع النصوص والأعمال التي أنجزوها. وحتى لو اعتبر البعض بأن الكتابة «مهنتهم» الوحيدة والدائمة، فهي بالتأكيد إحدى أكثر المهن مثاراً للدهشة والحيرة الملغزة، أو هي واحدة من «مهن القسوة»، كما عبّر الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار. ولا أتحدث هنا عن النثر العادي الذي نجد تمثلاته في الكتابة الصحافية والسياسية والعلمية، بل عن الكتابة الإبداعية، بخاصة الشعر الذي هو مكابدة غير مضمونة العواقب وصراع شديد الضراوة مع اللغة. صحيح أن الشعر نوع من الإلهام الذي لا يتأتى إلا للموهوبين وحدهم، ولكن ذلك الإلهام لا يكون على الدوام طوع بنان الشاعر ومزاجه الشخصي. وسواء كانت الموهبة ثمرة تحالف ثنائي وطيد بين الشاعر وشيطانه المقيم في وادي عبقر، كما ذهب العرب الأقدمون، أو كانت ربيبة الداخل الإنساني وما يتسم به من عناصر الرهافة والقابلية والاستعداد الشخصي، فإن كلا الفرضيتين تفضيان إلى الاستنتاج بأن الطاقة الكامنة في دواخلنا ليست قابلة بصورة دائمة للتحقق والتسييل اللغوي، بل إن الغيوم التي تختزنها تحتاج إلى شروط ملائمة لكي تتحول إلى مطر.
ولأن العرب الأقدمين كانوا يرون في الشعر كلاماً استثنائياً يفيض عن قدرة البشر العاديين، فقد نسبوا هذا الفن إلى الجن والشياطين وسائر القوى الغيبية، التي تملك الحق الحصري في رفد الشعراء بما يلزمهم من شحنات الإلهام وطاقاته وشروطه المؤاتية. لا بل إن العرب في جاهليتهم قد ذهبوا أبعد من ذلك، بحيث تحدث جواد علي في كتابه الشهير «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» بأن الشاعر الجاهلي كان يرتبط مع شيطانه بعقد مشروط، وكان يحرص على عدم الإخلال بالشروط المتفق عليها بين الطرفين، كي لا يغادره صاحبه إلى غير رجعة، أو ينقل موهبته إلى شاعر منافس. كما ورد في «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي بأن مظعون الأعرابي التقى بشيخ طاعن في السن، وأخذا يتسامران إلى أن أسمعه هذا الأخير أبياتاً من الشعر. وحين فاتحه القرشي بأنه سمع هذه الأبيات من الأعشى، أجاب الشيخ: أنا صاحب الأبيات، واسمي مسحل بن جندل، فعرف الرجل أنه من الجن. وقد خطر للأعرابي أن يسأل الشيخ عن أشعر العرب، فقال: لافظ بن لاحظ، صاحب امرئ القيس، وهباب بن هبيد، صاحب عبيد بن الأبرص، وهاذر بن ماهر، صاحب النابغة الذبياني. وإذا كان العرب قد لجأوا، كغيرهم من الشعوب، إلى الاستعانة بالأساطير والخرافات لتفسير ما استغلق عليهم من الظواهر الغامضة، فإن مثل هذه المعتقدات لا تُقرأ بحرفيتها النصية، بل بما تشير إليه من استعصاء الشعر وتمنّعه، حتى على الموهوبين الكبار من الشعراء. ولعل ما يروى عن الفرزدق من أن خلعه لأحد أضراسه أهون عليه من نظم بيت من الشعر، هو الترجمة المعقلنة لفكرة الوحي ولزمن القريحة المتقطع.
في إحدى الجلسات التي جمعتني بأدونيس أثناء وجوده في بيروت، قبل أشهر، خطر لي أن أسأله عن طريقته في الكتابة، وعما إذا كان ثمة شروط مكانية وزمانية ينبغي توفرها للشروع في كتابة نصوصه الإبداعية. والحقيقة أن إجابات صاحب «مفرد بصيغة الجمع» كانت مفاجئة لي بكل المعايير، إذ لم يدر في خلدي على الإطلاق أن شاعراً كأدونيس يستطيع أن يكتب متى وأنى يشاء، دون الخضوع لمزاج شيطانه الشعري وإملاءاته. قال أدونيس يومها إن جسده بآلياته المختلفة هو الذي يقرر زمن الكتابة ونوعها، مضيفاً أن لا وقت محدداً عنده للقيام بذلك. ولأن الكتابة عنده هي زمن داخل الزمن، فهو وحده من يملك زمام زمنه الإبداعي، بحيث يستطيع أن يكتب في الليل والنهار، ويكاد لا يمر يوم واحد دون أن ينجز نصاً ما أو جزءاً من نص. وهو في الوقت ذاته لا يخضع لإملاءات المكان وشروطه القاسية، إذ يمكنه أن يكتب في الفنادق والطائرات والمطارات والمقاهي. «وحده المكان الأليف لا يحفزني على الكتابة، وتبعاً لذلك فأنا لا أكتب في البيت الذي أسكنه» يقول أدونيس، معللاً ذلك بأن اللغة هي ربيبة الهجرة والترحال والمنفى، وهي نقيض الألفة والسكينة الوادعة.
أما الأمر الآخر المفاجئ في ذلك الحوار، فهو اعتراف صاحب «أغاني مهيار الدمشقي» بأنه يكتب نصوصه دفعة واحدة، وأن تنقيحه اللاحق لما يكتبه، وخلافاً لما يعتقد البعض، لا يتجاوز المفردات والتراكيب النحوية القليلة. وحين عبّرت عن دهشتي لمثل الاعترافات، باعتبار أن لغته الشعرية تشي بالكثير من التنقيح والاشتغال، لم ينكر أدونيس هذه الميزة في نصوصه، لكنه قال بأنه ينقح القصيدة في رأسه أولاً، وأن كل ما يكتبه ينضج داخل عقله قبل أن يدوّن على الورق. وبسؤالي له عن أدوات الكتابة وتفاصيلها الصغيرة قال بأنه يميل إلى استخدام الحبر الأسود، ولكنه لا يأبه للون الورق الذي يستخدمه، شرط ألا تكون الورقة مخطّطة بشكل أو بآخر، «ربما لأنه يرفض في لا وعيه أن يتبع أي نموذج أو مخطط يأتيه من الخارج».
أما محمود درويش فقد تحدث غير مرة عن علاقته الخاصة بالكتابة الشعرية، وعن الشروط الملائمة التي ينبغي توفرها للشروع فيها. وفي الحوار العميق والثري الذي أجراه الشاعر المغربي حسن نجمي مع صاحب «الجدارية» قبل رحيله بفترة قليلة، يعتبر درويش أن الشعر في الأصل هو مزيج من المهنة والهواية. ولكن الشاعر لا يستطيع أن يظل هاوياً فحسب، بل عليه مع الزمن أن ينتبه إلى الصناعة الشعرية التي هي أقرب إلى المهنة. واللافت أن درويش يتقاطع في بعض إجاباته مع أدونيس، إذ يعتبر أن الشعر ليس تدفقاً سليقياً تلقائياً فقط، بل ينبغي أن يخضع لفكر شعري، ولفهمٍ ما للوجود. ولكن درويش يعترف من جهة أخرى بأنه لا يطمئن في العادة للنصوص الطازجة لحظة إنجازها، ولذا فهو يترك النص لفترة من الزمن كي يعاود قراءته بعين الناقد الموضوعي، قبل أن يأخذ القرار بحذفه أو تعديله أو الدفع به إلى النشر. وإذ يحث درويش الشعراء على كبح كسل الهواية وعدم انتظار الإلهام، يحذر بعضهم من الافتعال، ومن تكرار ما سبق لهم أن كتبوه، لا لشيء، إلا لكونهم قادرين على الإنتاج اليومي. ولأن على الشاعر، وفق درويش، أن يظل متربصاً بلحظات الإلهام التي لا يعرف موعدها، فهو قد درّب نفسه، وإن بصعوبة بالغة، على خلق عادات كتابية تتمثل في الجلوس إلى مكتبه صباح كل يوم بانتظار «اللحظة التي يجد فيها اللاوعي كلماته»، ودون أي افتعال أو إرغام. ثم يمعن درويش في سرد بعض تفاصيل «مختبره الشعري» معترفاً بأنه شاعر نهاري لا يكتب إلا في «الضوء الطبيعي». كما أنه يكتب بقلم الحبر السائل ذي اللون الأسود، وعلى ورق أبيض وغير مسطر. وهو كلما شطب سطراً على صفحة، مزقها واستبدلها بسواها. وقد يحدث أن تتعثر الكتابة، فيتطيّر من القلم، ويستبدله بسواه، كما لو أن المشكلة في القلم لا في الإلهام. ورداً على سؤال يتعلق بالإيقاع، يقول الشاعر بأنه ينصت أثناء الكتابة إلى أنواع مختلفة من الموسيقى التي يجد فيها ما يعضد النبرات الإيقاعية للنص، «فعندما أريد أن أكتب نصاً خافتاً، أستمع إلى شوبان. وعندما أريد أن أكتب نصاً عالي النبرة، أستمع إلى بيتهوفن». ويتابع درويش بوحه الحميم لنجمي، موضحاً أنه لا يستطيع الكتابة في الفنادق والطائرات والقطارات أو أي مكان آخر، سوى المكان الذي توجد فيه مكتبته الخاصة، مقراً بأنه يحتاج للعودة إلى المعاجم، بغية الوقوف على دقة المفردات التي يستخدمها، وعلى وجوهها الصرفية ودلالاتها المتعددة.
يقرّ الشاعر التونسي منصف الوهايبي، من جهته، بأن الإلهام الشعري لا يحضره إلا بعد انقضاء الليل، ومع الخيوط البيضاء الأولى التي تنبعث مع الفجر لتضيء العالم. ومع أن صاحب «مخطوط تمبكتو» يرد ذلك إلى زمن الدراسة المبكرة في «الكتّاب»، حيث كان عليه أن ينهض باكراً كل يوم، لكنه يربط هذا الطقس الزمني اليومي بصفاء ما بعد النوم، حيث المسافة قريبة بين اللغة والأحلام، إضافة إلى أن كلاً من الجسد والنفس، يكونان تلك الساعة في حالة من التيقظ والحيوية اللازمين لأي نشاط ذهني وإبداعي. «اللغة في هذا الوقت تأتي من تلقاء نفسها»، يقول الوهايبي، وتستمر في التدفق المتقطع حتى ساعة الظهيرة، ثم تُسدل الستائر وينتهي كل شيء. ولذا فهو لا يستقبل أحداً في فترة مخاضه، ولا يتواصل في خلوته مع أحد، سوى هسهسة المفردات وتهويماتها. ولا فرق أن يكتب في البيت أو الحانة أو المقهى، إذ لا أهمية عنده للمكان، في ضجيجه أو صمته، لأنه يسوّر نفسه بجدار سميك من العزلة، ويختلي تحت «قبته البلورية» بمن يشاء من المخلوقات. ويقول الوهايبي، الحائز على جائزة زايد عن فئة الشعر لهذا العام، بأنه لا يكتب نصوصه دفعة واحدة، بل على دفعات عدة قد تستغرق شهرين أو أكثر. أما السبب فلا يعود إلى كون معظم قصائده يتسم بالإطالة فحسب، بل لأنه كثيراً ما يلجأ إلى مصادر معرفية وبحثية، وإلى معاجم مختلفة تساعده في التثبت من معاني الكلمات. وهي ميزة يتشاركها الشاعر مع محمود درويش، إضافة إلى ميزات أخرى، كالطقس النهاري، والحبر السائل الأسود، والأوراق ناصعة البياض. ويضيف الوهايبي، خلال حوار هاتفي جرى بيننا قبل أيام، بأنه لا يدفع بقصائده إلى النشر إلا بعد تنقيحٍ ومراجعة طويلين. كما أنه لا يتوانى عن إجراء تعديلات أساسية على نصوصه الجديدة، أو عن حذفها بالكامل، إما بفعل مراجعته المتشددة لها، أو استجابة لتمنيات الذين يطْلعهم على هذه النصوص، ممن يثق بسلامة أذواقهم من أصدقائه ومتابعيه.
ثمة بالطبع طقوس وممارسات أكثر غرابة، يحيط الشعراء والفنانون والكتّاب أنفسهم بها في بدايات مسيرتهم، قبل أن تتحول مع الزمن إلى وسائط إلزامية بينهم وبين الإبداع. فالكاتب النرويجي إبسن لم يكن يهتم بمكان الكتابة أو زمانها، ولكنه مع ذلك لم يكن يستطيع أن يكتب أي نص، ما لم يضع أمامه صورة منافسه وخصمه اللدود سترندبرغ، وحين سئل عن السبب في ذلك أجاب: «أريد أن أغيظه وهو يتفرج على إبداعي قبل نشره على الملأ». ولم يكن فيكتور هيغو وهو يكتب روايته «أحدب نوتردام» ليجد وسيلة لإرغام نفسه على ملازمة منزله وإكمال عمله في وقت قياسي، سوى خلع ثيابه بالكامل طيلة فترة كتابتها. كما كان الشاعر الألماني شيلر يضع تفاحة في درج المكتب الذي يجلس إليه، ثم يعمد خلال الكتابة إلى شمها وتحسسها بين حين وآخر، لكي توفر له عنصر الإلهام. فيما كان نزار قباني يتهيأ للكتابة بالاستلقاء على الأرض، أو بالنوم على بطنه، حيناً، أو يرتدي أفضل ثيابه وكأنه ذاهب إلى عرس، حيناً آخر. على أن الأهم بالنسبة للقراء لا يتمثل في الطقوس التي تلازم العملية الإبداعية، بل النصوص التي تتمخض عنها، وإلا لتحولت الكتابة إلى تعازيم خالية من المعنى، وشكليات فارغة من كل روح.