في الأسبوع الماضي، وعلى مرأى من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أعادت روسيا والصين عملياً تنظيم النظام الدولي المقبل. لم تقوما بذلك معاً، لكنَّهما استغلتا حالة عدم اليقين والتقلُّب التي ساهم ترامب في خلقها.
وليس واضحاً ما إذا كان الرئيس الأمريكي المقبل سيكون قادراً على استدراك تبعات هذا الأسبوع، الذي يترك كلا الرئيسين فلاديمير بوتين في موسكو وشي جين بينغ في بكين أكثر حسماً في السيطرة على بلديهما وأكثر قدرة على التصرف بحزم.
بعبارة أخرى، ترك ترامب بصمة لا تُمحى على العالم، وقد لا تكون بصمة جيدة، حسب وصف نيك روبرتسون محرر الدبلوماسية الدولية لدى شبكة CNN الأمريكية، في مقال نشرته الشبكة.
كيف أقدمت روسيا والصين على تعزيز قبضتيهما؟
وليس من قبيل الصدفة أنَّ بوتين وشي عزّزا قبضتيهما على الأهداف الثمينة في الوقت الذي تشارف فيه ولاية ترامب الأولى، وربما الأخيرة، في المنصب على الانتهاء.
ففي هذا الأسبوع الماضي، خلال استفتاءٍ على تعديلات دستورية يمكن توقعها لدرجة أنَّ نسخاً كانت تُباع قبل الاستفتاء، أصبح بوتين عملياً رئيساً مدى الحياة، فيما تحرَّك الرئيس شي بالقدر نفسه من القوة، فارِضاً سيطرته على هونغ كونغ من خلال قانون جديد للأمن القومي، بينما يخبر حلفاء الولايات المتحدة، كندا وأستراليا والمملكة المتحدة، بالبقاء بعيداً عن الشؤون الداخلية الصينية.
ويبدو أنَّ كليهما يرى أنَّ الولايات المتحدة لا تملك الإرادة ولا الاتساق لرفع مستوى المقاومة. في الواقع، قدَّم البيت الأبيض دلائل على هذه الرؤية هذا الأسبوع، إذ تخبَّط في تقديم رد متماسك على مزاعم أنَّ روسيا دفعت أموالاً لحركة طالبان من أجل قتل القوات الأمريكية في أفغانستان. وقد نفت السفارة الروسية في واشنطن وحركة طالبان هذه الادعاءات.
وكما كتب ديفيد إغناتيوس في صحيفة The Washington Post الأمريكية هذا الأسبوع، فإنَّ بوتين “منخرط في عملية الانتقام. إنَّه يعتقد أنَّ الولايات المتحدة دمَّرت بلده السابق، الاتحاد السوفييتي. ويود أن تشعر الولايات المتحدة بالألم”. ولديه الآن سنوات كثيرة لمزيدٍ من الانتقام.
في المقابل تقول نائبة المتحدثة الصحفية باسم البيت الأبيض، سارة ماثيوس، إنَّ “الرئيس ترامب مُفاوِض من الطراز العالمي، عزَّز باستمرارٍ المصالح الأمريكية على الساحة العالمية”.
ترامب مقتنع بأنه قادر على أن يسحر أي زعيم أجنبي أو يتنمر عليه
قدَّم مسؤولون أمريكيون كبار سابقون رأياً مختلفاً للغاية للصحفي بشبكة CNN كارل برنستاين.
إذ يعتقدون أنَّ ترامب “واهم” بشأن قدرته على إخضاع القادة الآخرين لأجندته، مُعتقِداً أنَّه يمكنه “إما أن يسحر أي زعيم أجنبي تقريباً، أو الضغط عليه لإقناعه، أو التنمر عليه لإخضاعه لإرادته”.
لكن، بحسب أحد مصادر برنستاين، فإنَّ “بوتين يتفوق عليه وحسب”. وقِيِل لبرنستاين إنَّ “تملُّق ترامب للزعماء الأقوياء المستبدين، وجهله بالتاريخ، وعدم استعداده” كل ذلك يُعرِّض الأمن القومي الأمريكي للخطر.
وسواء تعلَّق الأمر بانتقام بوتين أو قرار “شي” انتهاك وإضعاف اتفاق هونغ كونغ المُوقَّع مع المملكة المتحدة عام 1984، يبدو أنَّ كلا الزعيمين يرى فرصاً في الوضع الحالي.
الأمر بدأ بضعفه مع روسيا في سوريا
لنعُد إلى الوراء ثلاث سنوات، حين زار وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، المكتب البيضاوي في اليوم التالي لعزل ترامب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) جيمس كومي. كان كومي يشرف على التحقيقات في مزاعم التدخل الروسي بالانتخابات. والتقطت عدسات مصور فوتوغرافي روسي رسمي مشاعر الألفة، فيما كان ترامب يقول لزائريه: “لقد عزلتُ للتو مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي. كان مجنوناً، وشخصاً أبله”.
وبعد شهرين، التقى ترامب مع بوتين -وحيداً- على هامش قمة مجموعة العشرين. تباهى البيت الأبيض باللقاء باعتباره يمثل نجاحاً، وسلط الضوء على اتفاقٍ جديد لوقف إطلاق النار في سوريا. استغل الروس الاتفاق باستخفاف لتجميد الصراع، وهو ما سمح لنظام الأسد المدعوم من روسيا، باستهداف مناطق سيطرة المعارضة واحدة واحدة.
كان بإمكان ترامب الاحتجاج، وتمزيق الاتفاق، وصياغة سياسة أمريكية جديدة تجاه سوريا من شأنها إعاقة النفوذ الروسي المتنامي في الشرق الأوسط. لكنَّه بدلاً من ذلك صدَّق الكذبة.
وستكون هذه مسألة متكررة. فيذكر مستشار الأمن القومي السابق لترامب، جون بولتون، في كتابه “The Room Where It Happened” (الغرفة التي شهدت الأحداث)، لقاء ترامب في 2018 مع بوتين بالعاصمة الفنلندية هلسنكي.
يكتب بولتون: “لا بد أنَّ بولتون كان يضحك بصخب على ما خرج به (من اللقاء)”، وذلك بعد قبول ترامب تأكيدات بوتين هناك بأنَّه لم يكن هناك تدخُّل روسي في الحملة الانتخابية الأمريكية لعام 2016.
ولنعُد سريعاً إلى هذا العام الحالي الذي كان بوتين، الموجود في السلطة منذ 20 عاماً، يحتاج فيه إلى تعديل دستوري للبقاء فترة أطول. ويبدو أنَّه قدَّر أنَّ ترامب لن يُظهِر مقاومة لما يقوم به داخل روسيا، على الرغم من تشديد العقوبات الأمريكية على خلفية غزو بوتين لأوكرانيا، وتسميم العميل المنفيّ السابق سيرغي سكريبال في المملكة المتحدة.
وقد كان محقاً. فهو الآن عملياً رئيسٌ مدى الحياة، يأمل أن يسير على نهج القادة السوفييتيين بالتنحي فقط حين يحين دخول القبر.
المهم المال، ليس الإيغور..ها هو يخوض حرباً تجارية مع الصين وهو فاقد لثقة حلفائه
كانت تجربة “شي” مع ترامب مختلفة. فبعدما عَلِق “شي” معه في حرب تجارية، كان عليه أن يُقدِّر نية ترامب الحقيقية: بشأن بالمال، وقضايا حقوق الإنسان مثل الإيغور وهونغ كونغ، وببساطةٍ وقف صعود القوة الكبرى المقبلة في العالم.
يقول كاتب التقرير: “قبل عامين، أخبرني دبلوماسي صيني سابق، أمضى سنوات كثيرة في أوروبا، بعبارات دقيقة للغاية، بأنَّ ترامب يمنع الصين عن عمد من أخذ مكانها الطبيعي في العالم باعتبارها اقتصاداً متقدماً عالي التقنية”.
وتحاول إدارة ترامب إقناع الحلفاء بعدم الاعتماد على شركة هواوي في شبكات الجيل الخامس.
لكنَّ أولئك الحلفاء أقل استعداداً لقول “لا”، جزئياً بسبب القوة التجارية للصين، وأيضاً لأنَّ علاقاتهم مع الولايات المتحدة تضعضعت.
وفي حين حظي ترامب بإشادات لمواجهته الصين بشأن سياساتها التجارية والتجسس التجاري وسرقة الملكية الفكرية، تواجه أساليبه انتقادات شديدة.
ففي تحليل لمجلس العلاقات الخارجية، كتب روبرت بلاكويل: “الآن سيكون التحدي الماثل أمام الرئيس وخلفائه هو إقناع بكين، من خلال تعزيز إبراز القوة الأمريكية، والتحالفات الأكثر قوة، والدبلوماسية الأكثر براعة، بأنَّ الولايات المتحدة ستكون أقوى من أي وقتٍ مضى في آسيا، وأنَّها ستواجه بقوة، مع حلفائها وأصدقائها، التصرفات الصينية المزعزعة للاستقرار”.
ولا بد أنَّ كل هذا سيكون في حسابات “شي” بشأن ترامب، سواء كان تهديداً وجودياً لصعود الصين لتصبح القوة الكبرى في العالم، أو مقدمة لخصم أذكى بالهدف نفسه.
ويبدو أنَّ “شي” احتاط من هذا الأخير، واختار التحرك الآن ضد الحراك المؤيد للديمقراطية في هونغ كونغ، والدفع بسردية أنَّ الغرب يقف وراءها، قبل أن تصبح شوكة حقيقية في خاصرته.
ويُعَد قانون الأمن القومي الجديد في هونغ كونغ، والذي أُعلِن في بكين هذا الأسبوع وطُبِّق بأثر فوري في شوارع منطقة هونغ كونغ، عاملاً مُغيِّراً لقواعد اللعبة.
فوفقاً للمملكة المتحدة، يخرق القانون الإعلان الصيني-البريطاني المشترك عام 1984 بشأن مبدأ “دولة واحدة ونظامين”.
والسؤال الذي قد يتجادل المؤرخون حوله كثيراً في المستقبل ليس ما إذا كانت رئاسة ترامب أثَّرت على قرارات بوتين و”شي” أم لا، بل إلى أي مدى غيَّرت أوهامه العالم لصالح رئيسَي الصين وروسيا.