الأزمة الاقتصادية في لبنان تخرج سريعاً عن السيطرة، بينما يتبادل السياسيون والمصرفيون اللوم والاتهامات عبر وسائل الإعلام.
إذ فقدت الليرة اللبنانية 60% من قيمتها في السوق السوداء في الشهر الماضي، ما يهدد بجر البلاد إلى دوامة من التضخم المفرط.
وتتزايد أسعار الأغذية بسرعة كبيرة لدرجة أن الجيش اللبناني ألغى اللحم من قوائم طعام الجنود في الأسبوع الماضي. وزاد سعر كيس الخبز المدعوم من الدولة إلى مرة وثلث سعره السابق، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
الأزمة الاقتصادية في لبنان تصل إلى مستويات خطيرة
وتنتشر انقطاعات الكهرباء مع نفاد الوقود. وفي مواجهة الخسائر الفادحة، تغلق المتاجر الشهيرة أبوابها حتى استقرار سعر العملة، ما يزيد سوءاً من معدلات البطالة التي من المتوقع أن تلقي بنص السكان في هوة الفقر هذا العام.
وانتحر عددٌ من اللبنانيين في الأسبوع الماضي وتم تربط ذلك بالوضع الاقتصادي الصعب. واحدٌ منهم أطلق النار على نفسه في شارعٍ مزدحم ببيروت، وترك ورقة بها جملة من أغنية شهيرة عن الفقر كُتِبت في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. ويبدو أن هذا البلد الذي ارتبط بلحظاتٍ فارقة في تاريخ الشرق الأوسط ينهار الآن.
ويتسارع الانهيار منذ الاحتجاجات التي اشتعلت في أكتوبر/تشرين الأول ضد عقودٍ من الفساد وسوء من جانب النخب السياسية التي فرغت خزائن الدولة. وقد أعلن لبنان عجزه عن سداد الديون الخارجية للمرة الأولى في مارس/آذار.
وطلب لبنان من صندوق النقد الدولي المساعدة في إصلاح نظامه المالي واستعادة الثقة فيه، لكن المحادثات تعثرت بسبب الجدال بين السياسيين والمصرفيين حول حجم الخسائر ومن ينبغي أن يدفعها. وقد استقال اثنان من المتفاوضين نيابةً عن وزارة المالية بسبب انقساماتٍ داخلية بعد مطالبة صندوق النقد الدولي للبنانيين بالاتحاد والتحرك بسرعة.
ولم تؤد جهود إيقاف انهيار الليرة، ومن بينها منصة تسعير جديدة لمكاتب الصرافة، إلى نتيجة واضحة. وقال أحد أصحاب مكاتب الصرافة إن العامة تكدس الدولارات من فرط خوفها من انهيار الليرة، وهي هوة لا قرار لها ولا حل إلا استعادة الثقة.
زيادة 200% في أسعار الغذاء والدولار يتضاعف ست مرات
ومع اعتماد اللبنانيين على الصادرات في كل شيءٍ، من القهوة إلى السيارات، فإن فوضى سعر العملة لها أثرٌ مفجع على القوة الشرائية.
وقد زادت الأسعار بنسبة 56% في مايو/أيار بالمقارنة بعامٍ مضى، وزادت أسعار الأغذية بنحو 190%، وفقاً للأرقام الرسمية. وهذه الأرقام أعلى بكثير على الأرجح في يونيو/حزيران، حين بدأ انهيار سعر الليرة في التسارع.
وقد وصل سعر الصرف الدولار إلى 9500 ليرة في السوق السوداء يوم الخميس، 2 يوليو/حزيران، من 4 آلاف ليرة قبل شهر، وانخفض أكثر في نهاية الأسبوع (السعر الرسمي 1500 ليرة للدولار أي أنه ارتفع أكثر من ست مرات أمام الليرة).
“فقط الأساسيات”
يظل السعر المحدد رسمياً، عند 1,507.5 ليرة للدولار، ثابتاً في مكانه، لكنه يطبق فعلياً على واردات القمح والوقود والدواء فقط. أما الأغذية الأساسية فهي مدعومة بسعر صرف يبلغ 3,900 ليرة للدولار.
ولا يمكن لأصحاب الأرصدة الدولارية تحويل أموالهم إلى الخارج، ويمكنهم سحب مبالغ محددة من الدولارات في صورة ليرة لبنانية، بسعر 3,850 ليرة للدولار، ما يجبر مدخري الدولار على تحمل الخسائر.
ويبلغ الحد الأدنى للأجور 675 ألف ليرة، ما يساوي 450 دولاراً بالسعر الرسمي، لكنه يساوي 70 دولاراً فقط في السوق السوداء، التي تُستخدم فعلياً في تحديد أسعار السلع الاستهلاكية ومن بينها الملابس وأدوات النظافة الشخصية والمنظفات.
وأغلق محمود فخاني، مدير سلسلة من متاجر البقالة، منافذ بيع اللحوم قبل أشهر، مع زيادة الأسعار لتصبح اللحوم بعيدة عن متناول الزبائن، متعللاً بأن الناس “يشترون أقل، ويشترون الأساسيات فقط، لا سلع الرفاهية”.
بيع الممتلكات
أما القادرون فيخزنون الأطعمة المعلبة وأسطوانات الغاز وأساسيات أخرى في ترقبٍ لنقص السلع في الأسواق. وقد توقفت إشارات المرور عن العمل، وانطفأت مصابيح الشوارع، وبدأت الطرف الانهيار. وتعيد طوابير المخابز وشراء الشموع ذكرياتٍ بائسةً عن الحرب الأهلية.
وبعض العائلات بلغ بها اليأس أن ظهرت صفحات على فيسبوك تعرض متعلقات شخصية للبيع، مثل الأحذية والعوينات (النظارات الطبية)، مقابل الحفاضات وحليب الأطفال.
ويحاول بنك الطعام اللبناني سد العجز لكنه بالكاد يقدر على مواكبة التطورات، إذ إن عبوة الأطعمة الأساسية التي كانت تكلف 37,500 ليرة صارت تكلف 105 آلاف ليرة الآن.
السياسات النقدية شجعت اللبنانيين على الاستيراد
بعد تثبيت سعر صرف الليرة أمام الدولار لـ23 عاماً، كان لبنان فعلياً يدعم الصادرات ليسمح للناس بالتمتع بحياةٍ ليست في متناولهم لولا ذاك الدعم. وقد جلبت معدلات الفائدة العالية حوالاتٍ من المغتربين إلى بنوك لبنان، وهي مصدر رئيسي للعملة الصعبة، لكنها ثبطت النشاط التجاري لأن اللبناني يمكنه أن يكسب المزيد من المال بإيداعه في البنوك بدلاً من استعماله في التجارة والاستثمار.
لكن الحوالات جفت منابعها العام الماضي، ما دفع بجهات الإقراض إلى تقليل الحد الأقصى لسحب الدولار، قبل أن تمنع السحب كلية. ولجأت الأعمال التجارية إلى السوق السوداء لشراء اللوازم من الخارج، وهناك أيضاً الطلب من اللبنانيين على قروضٍ بالدولار لشراء المنازل والسيارات أو دفع مصاريف الدراسة بالجامعات الأجنبية.
في الأوقات الطيبة التي تلت تعافي البلاد من محنة الحرب الأهلية في القرن الماضي والتدخل السوري في شؤون البلاد، كان اللبنانيون من أبناء الطبقة الوسطى لديهم الأموال الكافية للاحتشاد في المطاعم الفاخرة لتناول غداء في أيام الأحد، وقرع الكؤوس في الحانات، وإنفاق المال على رحلات التزلج على الجليد.
لكن ذلك النمط قد يبدو الآن شيئاً من الماضي، بعد أن انفجر النظام المصرفي للبلاد.
رهان الحكومة على دولارات المغتربين لا يبدو مجدياً
وكتب الاقتصادي والناشط جاد شعبان على تويتر: “إن الناس في لبنان يشهدون أكبر عملية سرقة وإفقار منظمة في تاريخهم على يد العصبة الحاكمة، إزاء صمت من المجتمع الدولي”.
وقالت جهات الإقراض الدولية ومنها صندوق النقد الدولي إنها جاهزة لمساعدة لبنان ما إن تبدي البلاد جديتها في محاربة الفساد وإعادة هيكلة الاقتصاد.
وحتى يحدث هذا، تراهن الحكومة على المغتربين بدولاراتهم حين يزورون لبنان بعد إعادة فتح المطارات وانحسار جائحة كورونا، لكن العديد منهم فقدوا مدخراتهم الموجودة في البنوك اللبنانية، ومن بقي منهم في البلاد يتطلع إلى المغادرة في أقرب فرصة.