حكاية
من المعلوم بالضرورة أن الرواية نافذة للتعرف على شعب معيَّن أو رقعة جغرافية معينة في فترة تاريخية معينة، كما أنها مفتاح للتعرف على حضارتها، وعاداتها وتقاليدها والسياسة والتاريخ والتفاصيل الصغيرة التي قد يشترك فيها أو لا يشترك بنو البشر في مختلف أقاليم العالم بحضاراتهم المختلفة. فروايات خالد الحسيني، على سبيل المثال، تجعلنا نتعرف على نمط الحياة في أفغانستان السبعينيات قبل الاجتياح السوفييتي للبلاد، حيث الحياة سهلة وجميلة والناس منفتحون لم يعرفوا بعدُ التشدد وطالبان “والأفغان العرب”، وحيث ينقلك الكاتب بين التاريخ والسياسة والحياة الاجتماعية في سلاسة ممتعة. ومثله يفعل غابريل غارسيا ماركيز وهو يحكي عن كولومبيا وجمهوريات أمريكا الوسطى وفترة ما بعد الاستعمار الإسباني، فتحسُّ بأنك تعيش معهم اللحظة.
الشيء نفسه تفعله روايات الطيب صالح، التي أسهمت بقوة في تعريف العالم بالسودان وشعبه، خاصةً روايته الأشهر على الإطلاق “موسم الهجرة إلى الشمال”. بينما أسهمت روايات فيودور دوستويفيسكي ومكسيم غوركي في إعطاء العالم فكرة كافية عن روسيا والحياة السياسية في روسيا القيصرية وفترة الاتحاد السوفييتي. ووثًقت روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس للحياة السياسية والاجتماعية في مصر الخديوية والناصرية. والقائمة تطول. كل هؤلاء أسهموا في تعريف العالم بشعوبهم ودولهم، كما أسهموا، بصورة غير مباشرة، في التوثيق التاريخي لشعوبهم.
أردت بهذه المقدمة التمهيد للحديث عن كاتب يوثق للحياة في بلد مجهول نسبياً للقارئ العربي رغم قربه الجغرافي والعلاقات التاريخية الوثيقة والمتينة التي يمكن القول إن الروابط التي تجمعه بدول شبه الجزيرة العربية ودول شمال إفريقيا أكبر من الروابط التي تربطه بقارة إفريقيا. هذا البلد هو إريتريا، التي تربط غالبية أهلها وشائج الدين والثقافة واللغة والتداخل الاجتماعي مع محيطها الجغرافي في قارتي إفريقيا وآسيا. والكاتب هو حجي جابر، الروائي الإريتري المولود بمدينة مصوع الساحلية في منتصف سبعينيات القرن الماضي والذي عمِل بالصحافة في السعودية وعمِل مراسلاً للتلفزيون الألماني بالسعودية، قبل أن ينتقل الى قطر ليعمل في شبكة الجزيرة.
أصدر حجي جابر أربع روايات هي: “سمراويت” 2012، التي فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي، و”مرسى فاطمة” 2013 التي تُرجمت إلى الإيطالية، و”لعبة المغزل” 2015، التي نافست في جائزة الشيخ زايد للكتاب، و”رغوة سوداء” 2018. ويعمل حجي جابر من خلال رواياته على إخراج هذا البلد من عزلته الحضارية والثقافية وإعادة الاعتبار إليه على الخارطة. وهو البلد الذي عانى عقوداً من الحرب من أجل الحصول على استقلاله، ويعاني حالياً من العزلة السياسية والاقتصادية، بسبب النظام السياسي الذي حوَّل البلد- الذي يمتلك موقعاً استراتيجياً يؤهله ليصبح واحداً من الدول الغنية والمزدهرة في المنطقة- إلى سجن كبير بعد أكثر من ربع قرن على الاستقلال عن إثيوبيا، إلى الدرجة التي جعلت المراقبين والمحللين يصفون إريتريا بـ”كوريا الشمالية الإفريقية”.
في روايته الأولى “سمراويت”، يحكي حجّي جابر عن شاب إريتري مسلم وُلد وترعرع في السعودية، ليعود إلى بلاده ويقع في حب فتاة مسيحية مغتربة مثله من أب إريتري وأُم لبنانية تسمى سمروايت. يرغب بطل الرواية في الزواج بالفتاة، التي تمثل الوطن الذي عاد إليه، لكن والدَي سمراويت يرفضانه. وهذا الرفض يصف حالة التباعد الاجتماعي التي خلقها النظام (يجسّده والدَي الفتاة في الرواية) بين طوائف المجتمع الإريتري من مسلمين ومسيحيين. ويصل الكاتب إلى استنتاج في نهاية روايته: “ما أصعب أن نغترب عن الوطن، أو يغترب عنا، وإذا ما حاولنا الرجوع إليه، صدّنا”. ومثلما جسّد الطيب صالح (بعضاً) من تجربته الشخصية في شخصية مصطفى سعيد الذي هاجر إلى بريطانيا لكن روحه ظلت مُعلَّقة بشمال السودان، تجسّد قصة هذا الشاب المسلم الذي وُلد في السعودية لكنه لم يشعر بالانتماء إليها، (بعضاً) من تجربة حجّي جابر الحياتية في السعودية وحنينه إلى الوطن الذي غادره طفلاً.
كتابات حجّي جابر تصف حال إريتريا التي تعاني ثنائية شظف العيش والقهر السياسي، مثلما تصف الحياة الاجتماعية. ونجد أن بعض رواياته تتبع تقنية “الأدب العبثي” الذي تختلط فيه البداية بالنهاية بالتفاصيل الصغيرة، وهو الأمر الذي يصيب القارئ بالحيرة في بعض الأحيان، حيث تحكي رواية “لعبة المغزل”، مثلاً، عن فتاة لعوب- بالمعنى البريء للكلمة- تعيش مع جدتها ولا تعرف شيئاً عن والديها. وتجسّد جدتها الحكمة في الرواية حين تعمل على رواية قصة يومياً لها قبل النوم هي بمثابة دروس غير مباشرة في حسن الظن وحب الوطن والتفاني في العمل، وغيرها من المعاني النبيلة.
لكن الفتاة تتمايل غنجاً وهي ترى الرجال يُعجبون بجمالها، ولا تحس بأي سعادة وهي تحصل على وظيفة في الأرشيف الوطني الذي يدوّن تاريخ البلد، حيث تشعر بالملل من نقل وثائق تاريخ الثورة والنضال الإريتري من الورق إلى أجهزة الحاسوب، وترغب في الحصول على وثائق أكثر أهمية وإثارةً لتزيح عن نفسها الإحساس بالفراغ والملل، ولتسلي بها جدتها التي تعمل على تصحيح الحكايات (المفاهيم)، إلى أن تصل إلى وثائق عن “بطل الثورة” قائد البلاد. وفي نهاية الرواية تصل إلى خلاصة أن قائد الثورة (رئيس البلاد) هو والدها الذي اغتصب والدتها في معسكر التجنيد قبل استقلال البلاد. وتعزم على أن تخنقه بيديها وعطرها في أثناء مرور موكبه، لتموت برصاص حراس الرئيس.
وعكس “سمراويت” التي تحكي عن الحنين إلى البلد الذي يرفض أبناءه، تحكي رواية “رغوة سوداء” عن المواطن الذي يشعر بالقهر من وطنه ويرغب في الفرار بجلده، وهي قصة “داويت” الذي يهرب من معسكر التجنيد الإجباري في إريتريا إلى شمال إثيوبيا ويعثر بالصدفة على يهودية إثيوبية تملك فندقاً صغيراً، تساعده على التظاهر بأنه من يهود الشتات؛ لمساعدته على دخول معسكر لإيواء اليهود الإثيوبيين الذين يجري التحضير لتسفيرهم إلى “أرض الميعاد”. ويخوض داويت مصاعب جمة تبدأ من الحاخامات وإدارة المعسكر المرتشين، إلى جيرانه في المعسكر الذين يتهمونه بالكذب- وهي كلها مصاعب تحكي عن الواقع هناك- إلى أن يصل إلى إسرائيل، ليموت في النهاية برصاص الشرطة في أحد شوارع تل أبيب، في مشهد أقرب إلى العبثية، ربما أراد الكاتب من خلاله أن يوضح لنا أن الحياة برمَّتها لا تستحق منا هذا العناء الذي نتكبده لنصل إلى أهدافنا التي قد لا تكون بعظمة التضحيات.
هي دعوة للسباحة في روايات حجي جابر التي تتميز بالسردية الممتعة والعبثية اللذيذة وتفاصيل شوارع أسمرا ومقاهيها، وليالي أديس ابابا وحِسانها، ومعسكرات اللاجئين وأيام النضال والثورة. مثلما هي دعوة للقارئ العربي للتعرف على دولتين من دول شرق إفريقيا ذات الطبيعة الساحرة والإنسان الشغوف بحُب الموسيقى والحياة، هما إريتريا وإثيوبيا. وهي أيضاً دعوة للتعرف على كاتب شاب يُتوقع منه الكثير في المستقبل. وكما وصفته الكاتبة والإعلامية المغربية عائشة البصري، فإن حجي جابر “لا يكتب.. إنه يُدوّن للتاريخ قهر النظام الظالم للوطن الحبيب مثلما كان المدونون القدامى يكتبون على الرقوق المصنوعة من جلود الخيل والغزلان أو ورق الصين…”.
“أشهد أن لا إله إلا أنت”.. عنوان غير مألوف لسيرة ذاتية ثرية امتدت عبر سبعين عاماً، يقول صاحبها إنه تردد في اختيار العنوان المناسب لسيرته الذاتية المتواضعة (كما يقول)، ثم ما لبث أن عثر على المطلوب، فتملكته فرحة غامرةٌ، لأن العنوان سيكون كفاء كل ما خطَّه يراعه منذ أول كلمة كتبها وحتى آخر كلمة ستخطها يده.
مذكرات مفصلة لحياة صاحبها الذي وُلد في الموصل، البلد الذي بمجرد ذكره نمتلئ بعبق تاريخ مشرف. منذ ولادته عام 1941، وهو يعايش العراق الحبيب في كل تقلباته البائسة، واجه كل ذلك.. طموح ليس له حد، وجدّ لا يعرف الهدوء، وتفوق كان كفيلاً بفتح أي باب من العلوم له، لكنه اختار التاريخ، وتعمق في التاريخ الإسلامي، ثم اجتهد حتى أصبح موسوعياً فبرع في الأدب بألوانه المختلفة، وكتب المسرحية والشعر والنقد. ولم يكن في كتابته عادياً، وإنما كان رائداً في كل مجال ارتاده حتى في كتابته عن فنون العمارة، فهو مؤرخ وفنان ومفكر.
في العراق عانى كل ما يمكن أن يعانيه أستاذ جامعي مجتهد، لا ينافق أجهزة الحكم ولا يقف في موكب المُطبِّلين، وكان إسلامياً صريحاً في عصور سادت فيها موجات اليسار والتيارات القومية غير المتصالحة مع الإسلام، فمن تنغيص الحاكم إلى مكر الزملاء الذين يختلفون معه فكرياً أو يمارسون أدواراً مَعيبة لصالح جهاز الحكم الديكتاتوري، عانى الكثير كأستاذ في جامعتي الموصل وأربيل، وتأخرت ترقياته العلمية المستحقة سنوات طوالاً، وحين يذكر لك الدوائر كأن يحتاج مراجعتها من أجل مسألة عادية مثل إعارة إلى جامعة أخرى للحصول على ورقة موافقة- فإنك كقارئ تمل من المتابعة، وتستهلك نفسك وعقلك وجهدك في تفاهات مؤذية، فكيف بالرجل الذي كان عليه أن يتعامل معها بكل عُقَدها التي لا غاية لها إلا بعث اليأس وإعمال يد الهدم في آمال أي مواطن، رغم ذلك فإن الرجل حافظ على تفوقه في أبحاثه ومحاضراته، وحتى عندما انتقل ليعمل في الآثار وفي حفظ التراث، فإنه نقل معها جَلَده وإبداعه وعقله الخصيب.
وإلى ذلك سَكَنَته أمراض جسدية عديدة، يتحدث عن معاناته فتقاسي مثله الأمَرَّين، وتستغرب كيف يماطل حتى يتفادى الجراحة، وكيف تأخر الأطباء حتى يكتشفوا أنه بحاجة إلى تغيير صمام القلب أكثر من مرة، وكيف تحمَّل الفتق الإربي وصبر عليه حتى تفزع كقارئ من قوة تحمُّله ومماطلته؛ خوفاً من الجراحة، إلى ذلك مشاكل العمود الفقري وجلطة الساق التي تجعله بحاجة إلى موانع التجلط طوال عمره، ثم عملية الغدة الدرقية وعملية الزائدة الدودية ثم حصى في المرارة، وضيق التنفس بين آونة وأخرى، كل ذلك يجعلك تتوقع أن الرجل الذي عاش حياته في صراع مع المرض ومع الحكم الديكتاتوري سيكتفى بأن يتميز في وظيفته وأن يصنذير جاء بأنه على قوائم الاغتيالات الأمريكيةبر على حياته التعسة، خاصةً أن أكثر من مع كثير من علماء العراق.
لكن الرجل رغم أن كلمتَي القلق والكآبة كانتا أكثر كلمتين تجدهما في مذكراته، فإنه كان أقرب إلى السعادة، بل كان مُقبلاً على الحياة، ففي مذكراته تجده لا يدع كازينو في أي بلد يحل فيه ليس فيه ما يجرح تديُّنه إلا ارتاده، بل تجد أن جدوله كان يتضمن يومياً جلسة في حديقة أو وجبة بمطعم أو جلسة في مقهى، ورحلة أسبوعية إلى مواقع النزهة.
بل يتفنن في أنواع الطعام الذي يحب وأنواع القهوة التي يطلب، والأيس كريم الذي يتناوله، كل هذا يتحدث عنه بتفتح على الحياة وأطايبها، فهو لا يكره إلا بوفيهات فنادق الخمس نجوم، حتى إنه يصف طعام باريس في هذه الفنادق بالمقرف. كما أنه لا يدع بلداً دخله إلا ويخصص بعض وقته المزدحم للمسواق (التسوق)، كذلك لا يخلو يومه من رياضة التخطى (المشي)، لا من لعب الشطرنج والفليبرز، ويذكر كثيراً المسلسلات التلفزيونية العربية التي أعجبته، كما أنه مُغرم بمتابعة مباريات كرة القدم ومعلوماته عن لاعبي أوروبا غزيرة.
والرجل في مذكراته لا يتجمل فيعترف بأنه قد تلفظ بكلمات نابية لمَّا تضايق من وجود طفله الصغير معه في سفرة إلى قطر، وتعارك مع سائق سيارة في عُمان حتى كادا يتبادلان البصاق. وحين ضاق حال العراق فإن سفرياته العلمية الكثيرة باحثاً ومؤلفاً ومحاضراً وشاعراً تضمنت الاطمئنان على مكافأته، لأن الوضع في البلد جعل الغنى فقيراً. وتضمنت الكثير مما يزعج، من البحث عن الأدوية له ولغيره وحمل أغراض له ولغيره، وكل هذا لا يُنسيه أن يسجل أنه قد فاتته صلاتا العصر والظهر يوماً للمرة الأولى في حياته.
بعد ذلك يمكن أن نقول إن هذا رجل استطاع أن ينجح، فإذا علمت بعد كل هذا أننا نتكلم عن عماد الدين خليل، الذي يجعله كثيرون عن حق في مرتبة توازي القرضاوي وقطب، وأنه قد أنجز نحو تسعين مؤلفاً، كثير منها كان مشروعاً فكرياً اجتمع حوله علماء ومفكرون ودارسون. كتابه “دراسة في السيرة” أفضل كتاب سيرة قرأ السيرة النبوية من خلال فكر القرن العشرين، وكتاب “الانقلاب الإسلامي في عصر عمر بن عبدالعزيز” كان عملاً لا نظير له خلب ألباب الشباب المسلم التائق إلى العدالة والتغيير، وإذا قرأت كتبه عن التفسير الإسلامي للتاريخ، وكتبه في تأصيل نظرياته عن الأدب الإسلامي التي سبقت إنشاء رابطة الأدب الإسلامي، كانت مشروعاً فكرياً ضخماً رغم بعض التحفظات. كل ذلك يقول إنك تقرأ مذكرات رجل غير عادي، رجل دخل تنظيم الإخوان وخرج منه ثلاث مرات؛ ليحفظ مقامه في قمة الفكر الإسلامي، والذي كنا سنخسر خسارة بشعة لو انشغل صاحبنا بالأمور التنظيمية. وفوق هذا فإنه رغم الإنجاز الفكري للرجل، الذي يجعله متفوقاً على كثير ممن حصل على أهم الجوائز في العالم، فإن حساسية الرجل جعلته يأنف من أن يقدمه أحد لجائزة تتيح لأي سلطة سياسية استثماراً على حسابه.
والرجل إسلامي غير تقليدي لا يترك شيئاً يخالف الإسلام إلا احتشد لإحباطه، فخاض صراعات فكرية كثيرة، لكنه منفتح على الآداب والإنتاج الفني العالمي، يقول مثلاً إنه يستغرب كيف يكتب إنسان سيرته الذاتية دون أن يقرأ مذكرات نيرودا وكازنتزاكي، وكيف يتأتى له أن يكتب الرواية دون أن يقرأ روايات نجيب محفوظ، ويستغرب أن يحاول أحدٌ كتابة القصة القصيرة دون أن يقرأ يوسف إدريس، مهما اختلف فكرياً مع الأسماء التي ذكرها. ولذا تجده بخلاف كثير من الإسلاميين من مُجايليه ذا رأي إيجابي في الشعر الحديث. وحين يزور مصر يحضر كل المسرحيات المعروضة سواء أكانت مسرحيات إسماعيل ياسين التي قد يعتبرها البعض ساذجة أم مسرحية الفرافير التي يعتبرها النقاد نخبوية في الأدب المسرحي.
ورغم طول المذكرات وكثير من التفاصيل التي كان يمكن الاستغناء عنها، فإن قارئها لا يملك أن يدعها، الصورة غير المعتادة التي كتب بها عن بعض سفراته كأن يكتب مجرد رؤوس أقلام لما تضمنته أجندته اليومية من أعمال، قد تدفع بالقارئ إلى الملل، ولعل كثرة سفرياته العلمية التي شملت تقريباً كل الدول العربية وتركيا وماليزيا وبريطانيا وفرنسا، واكتظاظها بالمحاضرات والندوات والصداقات، مع صعوبات السفر من العراق خلال فترة الحصار الأمريكي -حيث كان وقت معظم أسفاره- تشفع لذلك. وعلى أي حال فإن شعورك بأنك تقرأ عن أحد العمالقة يجعلك تعجب بأن مثله يتعرض لكل ما يتعرض له أي إنسان عربي من تمحور حياته على كثير من المنغصات التي تستنزف وقته وعقله، ولكنها العزيمة والإرادة والإحساس بالواجب. تمكن الرجل من تجاوز كل ذلك، تحدى كل هذه المكروهات، تمتع بأناقة الحياة، استعلى بالمبادئ، أنجز ما لا ينجزه غيره. هذا الرجل الذي يبدأ يومه ويُنهيه بالقلق الذي تعاوده بين ساعة وساعة زخات من الكآبة، يحوّل هذين إلى دافع للإبداع والإنجاز الذي يوصله إلى ما يسميه حالة التحقق، وهي الرضا عن النفس وعن الإنجاز والسعادة بالتوفيق.
حين يتحدث عن المفكر في الغرب كيف يفكر ويبدع ثم يتولى إنتاجَه حشد من المتعاونين ويقارنه بما على المفكر والمبدع أن يفعله في عالمنا، تشعر بأن الرجل كان استثنائياً بكل معنى الكلمة… يقول إنه بالنسبة للمسلم الجاد تظل الكتابة واجباً إيمانياً لا خيار فيه… فرض عين يُلزمه بمواصلة العمل حتى آخر لحظات حياته، إنها ليست خياراً ولكنه إلزام، وليست ترفاً فكرياً ولكن مهمة جادة تستهدف الإجابة على العديد من الأسئلة المعلَّقة في فضاء الفكر والروح..