يبدو أنه لا حديث في العالم العربي اليوم يعلو فوق قصة تمدد المشروعين التركي والإيراني، واستباحتهما للأراضي العربية. هي تحديات ومخاطر تمس الكرامة والعزة والسيادة، ومحاولة لبعث مآسي التاريخ وخفاياه.
بعد كل ما جرى ويجري في منطقتنا العربية، سواء في الخليج أو شمال أفريقيا، يتساءل كثيرون: كيف استطاعت هاتان الدولتان الإقليميتان التغلغل في النسيج العربي، واستهداف أمنه القومي، والسطو على مقدراته وخيراته؟ وكيف تمكنتا من استغلال أشخاص عرب ينتمون لتلك الأوطان، ليتم تجنيدهم لتنفيذ أجندة هذه الدولة أو تلك؟
الاختراق نهج قديم – جديد في خفايا علاقات الدول، وقد يحقق مراده بأدوات وفق طبيعة الدولة والمجتمع، مثل: أولاً الأدلجة والانتماء (كآيديولوجيا «الإخوان المسلمين» والعلاقة النفعية ما بين إردوغان والسراج، أو علاقة النظام القطري بـ«الإخوان»، أو كتعطيل البرلمان التونسي من قبل حركة «النهضة»، أو حتى قصة المسؤول السعودي سعد الجبري و«الإخوان»)، وثانياً المنفعة والمصلحة (كعلاقة نظام إيران بـ«القاعدة»، و«حماس»، و«الإخوان المسلمين» في مصر)، وثالثاً المذهبية (كتوظيف بعض العرب الشيعة لأغراض سياسية وأمنية وعسكرية، كـ«حزب الله» في لبنان، والحوثي في اليمن).
طبعاً علينا أن نفرق هنا ما بين علاقة إيران أو تركيا بدول عربية سياسياً التي تخضع لمفهوم العلاقات الدولية، وبين ارتباطاتهما بأشخاص عرب يلعبون أدواراً مؤثرة لهما في دولهم، وهم أوراق مقايضة ومساومة حين الحاجة، غير متناسين بطبيعة الحال الفئة المتناثرة في عالمنا العربي والتي لا تنفك تعزز الحلم النستالوجي لجماعة «الإخوان» وامتداداتها العابرة للقارات. يتزامن ذلك مع غياب للنظام العربي الإقليمي، وإن كانت جهود الدبلوماسية السعودية تبعث على التفاؤل، كما نرى اليوم في الملف الليبي، ولعلها مؤشر إيجابي لإعادة تأهيل الرافعة العربية في مواجهة المخاطر الخارجية، وقد نستعرضها بإسهاب في مقال قادم.
جعبة الذاكرة مليئة بأسماء زعامات وشخصيات، وإن كان المقام هنا لانتقاد أفعالهم المعلنة وليس الذم أو الانتقاص. بعضهم غاب عن المشهد، والبعض الآخر ما زال فاعلاً من خلال موقعه الوظيفي، مقدماً مصلحة الخارج على حساب الداخل، أمثال: حسن نصر الله، وفائز السراج، ونوري المالكي، وهادي العامري، والبشير، والترابي، والغنوشي، وحسن المشيمع، وجبران باسيل، وسعيد الشهابي، وعبد الملك الحوثي، وحاكم المطيري، والقائمة تطول.
هؤلاء وغيرهم سعوا للتغريد خارج السرب، ولا يخفون موالاتهم للخارج، وينفذون الأجندة الإيرانية أو التركية أو الإخوانية، وبالتالي لا يمكن أن نطلق عليهم أن ارتباطهم بتلك الدول عقدي آيديولوجي فحسب؛ بل تدخل فيه المصلحة والمنفعة باختلاف تجلياتها، وهذا يتطلب دراسة عميقة لفهم الأسباب لذلك.
الخائن لوطنه يمكن التعاطي معه مباشرة، فخطره واضح، غير أن أشد أنواع الخطر إيلاماً وضرراً عندما يأتي من شخص لا تتوقع أن يبدر منه هكذا سلوك، مما يثير السؤال حول كيفية هدم تلك المشروعات الصفوية والعثمانية قبل هيمنتها على بلاد العرب. وجود فئة محسوبة عليك علناً وتعمل ضدك سراً كما يفعل البعض، هو الطامة الحقيقية، وهو ما يطلق عليه اسم «الطابور الخامس».
إبان الحرب الأهلية الإسبانية نشأ هذا المصطلح «الطابور الخامس»، كما يقول المؤرخون، أي قبل 80 عاماً، وأثناء حصار مدريد من قبل اليمين (الثوار) بقيادة فرانكو الذي انقلب على اليسار رغم فوزهم بالانتخابات. وقد خطب أحد الجنرالات وقتها قائلاً بأن هناك أربعة طوابير تحاصر الجمهوريين في العاصمة، وأن هناك «طابوراً خامساً» من أنصار الانقلاب، ويقصد به مؤيدي الثورة من الشعب. ومن يومها أُطلق هذا المصطلح على الجواسيس الذين يعملون مع دولة معادية لدولتهم. وأصبح أكثر شيوعاً نتيجة للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
عشرون في المائة من الدول العربية عاشت تجارب مريرة، وصُنفت بعضها بالدولة الفاشلة لعدم وجود مشروع المواطنة، بسبب أخطاء سياسات ومكابرة واستبداد زعامات (كالقذافي، وصدام، والبشير، وبشار الأسد، وعلي عبد الله صالح، وغيرهم).
فئة «الطابور الخامس» تطفو على السطح عندما تشعر بهشاشة الدولة من الداخل، وافتقارها لإطار ينظم علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، ويحتوي صراعاتها الناشئة. هذه العناصر تستخدم أدوات لعرقلة أي تقدم نهضوي لمجتمعاتها، كالصراع المذهبي والطائفي، ما يعني الدفع باتجاه مسلسل الانفصال والتقسيم، وكذلك تعزيز النزاعات الحزبية والفكرية، وكلها مواطن افتراق واختلاف، ما فتح الباب على مصراعيه للتدخل الخارجي.
خطورة التحديات للدولة الوطنية تتفاقم في ظل غياب شبه تام للمؤسسات الدستورية، وهشاشة مؤسسات المجتمع المدني، ناهيك عن أزمات اقتصادية، كالفقر، وضعف الموارد والإمكانيات، والأمية، والبطالة.
هكذا مناخ يساعد النفعيين والانتهازيين على الحركة، فهذه مواقع استغلال وغنائم للعدو المتربص، ولذا هم يتبرعون بتقديم الخدمة له وباحترافية؛ كونهم لا يكترثون إلا بأنفسهم، ولا يهمهم الوطن، لا من قريب ولا من بعيد. هم شريحة لا يمكن لها العيش مع استقرار المجتمعات، كونهم «جواسيس أو عملاء يمارسون نشاطات التجسس والتخريب واصطناع أزمات اقتصادية، فضلاً عن إثارة الرأي العام بترويج الإشاعات، وترديد الأكاذيب، وتزييف الحقائق»؛ بل وحتى القيام بأعمال إجرامية وإرهابية.
استهداف العالم العربي، واختراق شعوبه، ودفعهم للانخراط في أجندة معادية لبلدانهم، مطمح استراتيجي طويل المدى عملت عليه إيران وتركيا منذ زمن، عبر توظيف كافة الأدوات المتاحة، من ترويج إشاعات، وماكينة إعلامية، ومغريات مادية، ومنافع آنية. وهو مسار مُعرض للسقوط حينما تُعزَّز الجبهة الداخلية بالدستور والمواطنة والشفافية والحريات والمساءلة، وتولية المناصب للشرفاء والمخلصين، ما يعني نهاية الرحلة للعملاء وخونة الأوطان وبائعي الضمير.