لا إحصاءات ولا دراسات فعلية جديدة حول القراءة في مجتمعاتنا؛ المعلومة الشائعة أننا شعوب لا تقرأ، والمتداول بشكل حاسم أن الشباب لا يتعاملون مع الكتاب الورقي، وأنهم انصرفوا كلياً إلى القراءات الإلكترونية، بل هناك من قطع كل أمل في بيع كتب للشباب، وهو ما ليس صحيحاً بالكامل.
فالشباب الجامعيون يقرأون ويشترون الكتب، كل ضمن اختصاصه، وهم يتحدثون عن رغبة عارمة لديهم في القراءة، خاصة في ظل الظروف الصعبة المعقدة التي يمر بها لبنان، وهناك من يشعر أن كثيراً من الخلفيات التاريخية حول وطنه تنقصه بسبب ضعف المنهاج الدراسي الذي لم يزوده بما يحتاج إليه من معرفة، وآخرون يحبون الهرب من الوضع القائم إلى تجارب مختلفة من خلال الروايات أو الشعر، لكن جميع من تحدثنا إليهم وسألناهم عن مزاجهم في القراءة يؤكدون أن مشكلتهم الكبرى هي عدم وجود مرجعية ذات ثقة يعودون إليها لمعرفة الكتاب الجيد من الرديء، فهم لا يثقون بما يكتب في الصحف والمجلات، ولا يعرفون من بمقدوره أن يعطيهم المشورة الفضلى.
«الكتب لا تقدم للقراء العرب بشكل جيد»، بحسب المخرجة السينمائية الشابة فاطمة شحادة (26 عاماً). «فإما أن يقوم القارئ بمسعى شخصي كبير للبحث عن الكتاب المناسب، والوقت لا يسعف في العادة، أو أنه لا يعثر على ما يريد». فهي حين تقع على كتاب جميل، تشعر بمتعة كبيرة «لكنني حين أشتري كتاباً رديئاً، فهذا يسبب لي صدوداً على مدى أشهر، ولا أعود للقراءة بسهولة». وبالمقارنة بين الكتاب العربي والفرنسي، نجد أن الفارق كبير «فأنا حين أصل إلى فرنسا، أستمتع بالمكتبات في محطات المترو، وبالطريقة التي تعرض بها وتصنف، حيث بمقدور القارئ أن يعرف ما الكتب الأكثر مبيعاً، وما الروايات التي حصلت على جوائز ذات مصداقية، وكذلك فإن النبذ التي تنشر على الغلاف الأخير للكتاب تعطي فكرة وافية عنه، وتسمح للقارئ بتحديد اختياره بسهولة؛ وهذا تماماً ما نفتقده مع الكتب العربية». وشحادة التي تعد أن عملها السينمائي يقتضي منها العكوف على القراءة باستمرار لا تحبذ أن تقرأ ما يعرضه عليها الآخرون «فالأمزجة مختلفة من شخص إلى آخر»، كما أنها تأسف «لأن الكتب العربية الأدبية ليست سلسة بالقدر الكافي، وربما تنقصها جاذبية الأسلوب، والربط الوثيق مع الحاضر، بعكس الكتب الفرنسية التي في غالبيتها التي لا تجبر القارئ على التوقف والعودة إلى الوراء كي يتمكن من فهم ما يريد أن يقوله الكاتب».
كريستل أبو كرم هي أيضاً في عشرينياتها (28 سنة)، وتعمل حالياً في المونتاج، وهي من بين من عملوا على مونتاج فيلم «كفرناحوم» لنادين لبكي، ومهنتها تتطلب البقاء على علاقة وثيقة مع القراءة، لكن الوقت ما عاد يتسع، كما أيام المدرسة، لقراءات طويلة ممتعة. وهي تقرأ بالفرنسية لأنها أسهل بالنسبة لها، لكنها تتمنى لو أنها تقرأ بالعربية «لأنني غير متأكدة أن الكتب التي أقرأها بالفرنسية تجيب عن أسئلتي بالفعل، أو أن ما أقرأه يشبهني، فأنا أتحدث لغة وأقرأ بغيرها، وأجدني بحاجة دائماً إلى موضوع يشدني، ولا أترك الكتاب قبل أن أنهيه، وهذا لا يتوفر دائماً».
ويستطيع حسن باجوق (30 سنة) أن يطل على الموضوع من زاوية أخرى، فهو قارئ لكنه أيضاً صاحب مشروع لافت، إذ إن له صفحة على «فيسبوك» تحمل اسم «بوك أوتليت»، يبيع من خلالها الكتب التي توصل لطالبيها إلى المنازل. ومن خلال تجربته، يرى أن «التلميذ يصل إلى الجامعة دون زاد ثقافي، فهو لم يقرأ ما كان يفترض أن يكون قد اكتنزه. وفي الجامعة، تبقى المعرفة هشة، وهو ما يخلق الضياع عند الشباب، إذ لا بد أن يجد كل شاب مرّ بهذا المسار نفسه أمام سؤال: من أين أبدأ كي أعوض كل ما فاتني، وهو كثير؟ وماذا أقرأ؟» وينتج عن ذلك، بحسب باجوق، نوع من الضياع. وبالنتيجة «تبقى رواية (العمى) الرهيبة بجماليتها لخوسية ساراماغو في طبعتها الثالثة، بينما تصل كتب صغيرة وغاية في البساطة إلى طبعتها الثمانين».
والتوجه العام في لبنان بين الشباب الذين يشكلون غالبية الشراة على صفحة «بوك أوتليت» هو لقراءة الأدب، من رواية وشعر، وعدد قليل جداً يقرأ كتباً سياسية. والمجتهدون الذين يقرأون كتباً ذات قيمة لا يتجاوزون الـ30 في المائة ممن يطلبون الكتب. وهذا يعني أن ثمة رغبة في القراءة، لكن المشكلة هي في الخيارات، وفي تلك الصلة المفقودة بين القارئ والكتاب الذي يود العثور عليه، ولا يعرف كيف. فمنال عبد الله الموسيقية العازفة، وهي أستاذة الأدب الإنجليزي في الجامعة اللبنانية، وتتحضر لمناقشة أطروحتها في الدكتوراه حول الشكل والمعنى في روايات أليف شافاك، تعترف هي الأخرى بأن ثمة مشكلة في معرفة الكتاب الجيد من الرديء قبل شرائه لعدم الوقوع في فخ الشراء غير المجدي. ولذلك فهي تعتمد بشكل أساسي على ما ينصحها بقراءته أصدقاء أو معارف تثق بأحكامهم، فهي في الأصل تعرفت إلى كتابات أليف شافاك من خلال علاقتها بالممثلة رولا حمادة التي كانت تقرأ «قواعد العشق الأربعون»، ونصحتها بها، وهي لا تزال تعدها أمها الروحية التي تثق بثقافتها. وموقع «غود ريدرز» قد يكون مرجعاً مناسباً، لكنه لا يزال محدود الاستعمال عند قراء العربية، بحسب عبد الله.
ومن المفارقات أنه في اللحظة التي صار فيها الحصول على الكتاب ميسراً، أصبح الاختيار أكثر صعوبة، فـ«مع التكنولوجيا، لا أجد أي صعوبة في العثور على الكتب التي أريد لأنها متوفرة إلكترونياً، على كيندل مثلاً، أو أطلبها من المكتبة، ويأتوني بها من الخارج إن لم تكن موجودة»، تقول المخرجة كاتبة السيناريو كارين خلف (31 عاماً) التي تعد أن فترة الحجر الصحي بسبب كورونا كانت مناسبة للعودة الفعلية إلى الكتاب، والاستمتاع من جديد بفسحة القراءة للقراءة.
«المشكلة دائماً هي التأجيل، ثم التأجيل، بسبب كثرة المشاغل وتشتت الذهن. ومن ثم، الإحساس بالذنب لأن الوقت يمر ولا أقرأ»، تقول ريهام عاصي (32 عاماً). وهي بعد تخرجها، وعملها في مجال السينما، قررت أن تعود إلى دراسة علم النفس، ومن وقتها غرقت في قراءة جاك لاكان ويونغ وغيرهما، للتعمق في تخصصها على حساب ما تسمية «القراءة للمتعة» أو لـ«إراحة النفس وإطلاق العنان للخيال». وريهام عاصي، كما فاطمة شحادة وآخرون، يتحدثون عن القراءة بصفتها سلسلة يجر بعضها بعضًا، فأنت تقرأ لكاتب ما يعجبك، فتذهب لتشتري مؤلفات أخرى له، أو تقرأ في موضوع يجذبك، فتجد أنك راغب في قراءة مزيد عنه، والعكس بالعكس، إذ إنك قد تشتري كتاباً وتتحمس له، ولكنك سرعان ما تكتشف أنه ممل، ولا يستحق إضاعة الوقت، وهذا قد يقطع علاقتك بالقراءة لفترة قد تطول أو تقصر. وبالتالي، فالصلة مع الكتاب تخضع لظروف مترابطة، من التقديم والتعريف الصحيحين، إلى إيجاد المرجعية الصالحة التي يركن إليها القارئ لعمل خياراته، ومن ثم وجود الكتاب الجيد الذي يستحق شراءه وقراءته. ويتكرر الكلام على رداءة الإصدارات الحديثة، فتقول ريهام عاصي إنها في فترات سابقة كانت تقرأ لإلياس خوري وفواز طرابلسي ونصري الصايغ، موضحة: «أنزل إلى معرض الكتاب، فأحضر كتب حنان الشيخ وعلوية صبح ونوال السعداوي. الكتب كما الأفلام، تحضرين فيلماً لمخرج يعجبك، فتبحثين عن بقية أفلامه لتشاهديها. مع الكتب، يحصل الأمر نفسه، لكنني للأسف اكتشفت أن الكتاب الذين أحببتهم صاروا في النهاية يكررون أنفسهم، حتى الأسماء العريقة أصبحت تعاني من التكرار. أما روايات الكتاب الجدد، فما عدنا نعرف من أين تنبت».
وفي السنوات الأخيرة، صارت ريهام تذهب إلى معرض الكتاب وتعود خالية الوفاض، فتلجأ إلى المكتبات التي تبيع الكتب القديمة، لتنتقي من بينها، ويخطر لها أن الكتب ربما أصبحت تجارية مثل الأفلام، إذ تقول: «لم أعد أرغب في شراء كتاب أندم على اقتنائه، صرت بحاجة لمن ينصحني». قد يكون أحد أسباب الإحباط من الكتب، لدى الشباب، هو تصورهم المسبق عن الكتاب بأنه قيمة عليا، فيما الوقائع تريهم أن بين الكتب الجيد والرديء، وربما بات الرديء يغلب بشكل لافت.
وتثير كارين خلف مشكلة طارئة قد تنسف كل ما سبق، وهي ارتفاع سعر الكتاب بالنسبة للقارئ اللبناني، لا سيما الشباب، في الأشهر الأخيرة. فالكتاب الآتي من الخارج، أو حتى المطبوع في لبنان، لم يعد في المتناول، وهذا أمر محزن لأنه سيكون سبباً آخر يضاف إلى كل ما سبق لتكبير الهوة بين القارئ والكتاب.