ترجمة:
منذ لحظة إقلاع الطائرة الإسرائيلية من مطار بن غوريون وحتى عودتها إليه من أبوظبي، كان الركاب يشعرون بـ”الحماس” مع محاولات من الجميع -أمريكيين وإماراتيين وإسرائيليين- لخلق “أجواءٍ احتفالية متفائلة”، ولكن بعيداً عن إطارات الصور كشفت الموسيقى التصويرية الخفية للمحادثات والأحداث عن مدى التوتّر الذي رافق هذا الحدث المُعقّد، كما تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
تدابير مشددة ومشهد متوتر غير معلن
وتضيف الصحيفة أن إنتاج هذا المشهد لم يكُن بالأمر البسيط، إذ كانت الإجراءات الأمنية حول كبار الزوار الإسرائيليين مُشدّدة، كما طُلِبَ من المشاركين البقاء بالقرب من الفندق (بسبب تدابير فيروس كورونا أيضاً)، في حين رافق ممثلون أمريكيون وإماراتيون الصحفيين. وعلى المستوى الدبلوماسي لم يكُن الأمر سهلاً بالنسبة للإماراتيين في مواجهة العالم العربي. وفي ضوء كل ذلك تشابكت الرغبة في ضمان تمتُّع الضيوف بالضيافة والأمن مع الرغبة في السيطرة على الرسائل قدر الإمكان، لتجنّب أي مطبات مُحرجة من شأنها أن تطغى على الحدث.
وقال المشاركون في الاجتماعات، من ممثلي مختلف الوزارات، لصحيفة Haaretz إنّ المحادثات كانت “مثمرة وجرت بروحٍ طيبة”، لكنّها كانت مُجرّد “محادثات أوّلية”، دون التوصّل إلى صياغة مذكرات تفاهم، ورغم ذلك فهناك بعض الأمور الواضحة: فيما يتعلّق بالسياحة مثلاً ستتطلّب الزيارات المتبادلة استصدار تأشيرات، ولن تكون هناك “زياراتٌ عفوية” لقضاء العطلات.
كيف أخرج الإماراتيون والإسرائيليون مشهد التطبيع الاحتفالي؟
إلى جانب مجموعات العمل، التقى بن شابات ومدير عام وزارة الخارجية ألون أوشبيز بمستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد، ووزير الخارجية عبدالله بن زايد، والمستشار الخاص للرئيس الأمريكي جاريد كوشنر، ومستشار الأمن القومي الأمريكي روبرت أوبراين، وغيرهم من المسؤولين الأمريكيين البارزين داخل قصر طحنون بن زايد.
وصباح الإثنين 31 أغسطس/آب، كان الفصل بين نقاط الحوار واضحاً، إذ جرى اصطحاب أعضاء وسائل الإعلام الأمريكية لتغطية زيارة أوبراين وكوشنر لقاعدةٍ جوية، حيث شاهدوا طائرة إف-35 الأمريكية الموجودة هناك، والتي يأمل الإماراتيون في الحصول عليها قريباً، رغم الاعتراضات الإسرائيلية بدعوى فقدان التفوّق العسكري. وإلى جانب الجنرال المحلي، أراد المسؤولون الأمريكيون نقل رسالةٍ فحواها أنّ العلاقات العسكرية بين البلدين صارت أقوى من أيّ وقتٍ مضى “دون الإشارة إلى الاتفاقية مع إسرائيل”.
وفي الوقت ذاته، جرى إرسال وسائل الإعلام الإسرائيلية في جولةٍ إلى الجامع الكبير والمتحف التاريخي. وهناك، حصل الصحفيون على تصريحٍ مُقتضب من مُرشدةٍ سياحية محلية أُخِذَت على حين غرة بالأسئلة حول الاتفاقية، لكنّها تمكّنت من الإجابة قائلةً إنّها تعتمد بالكامل على قرارات القائد، قبل أن يُنهي مُشرفها اللحظة بلطفٍ وحزم.
تخبط واضح
والمقابلة الوحيدة المُسجّلة مع مسؤولٍ محلي بارز خلال الزيارة حدثت داخل المطار، قبل رحيل الوفد مباشرة، وتضمّنت بشكلٍ رئيسي الرسائل التي كرّرت نفسها مراراً خلال المحادثات الخاصة الأكثر حرية: أنّ هذه الخطوة مهمةٌ للإمارات لأنّهم يعتقدون أنّ وقت التغيير الإقليمي قد حان، وهم يرغبون في قيادته.
ولوهلةٍ بدا وكأنّ هناك تحوّلاً في الحبكة، فحين سُئِل المسؤول عن احتمالية انتهاء التطبيع في حالة استئناف خطط ضمّ الضفة الغربية، أجاب قائلاً إنّ التطبيع لن ينتهي، لكنّه أضاف بعد ذلك أنّ بلاده حصلت على تأكيدات من الولايات المتحدة وإسرائيل، بأنّ خطط الضم لن تستمر على أي حال. وعلى الفور جاء توضيحٌ بأنّ الإجابة الأولى في الواقع لا تعكس الموقف الرسمي.
وتابع الإماراتيون بقلق ردود فعل العالم العربي على الخطوة، وراقبوا الآراء في المسألة على الشبكات الاجتماعية، وهم يرون المعارضة الشعبية العربية للخطوة، وخاصة من إيران وقطر والكويت. في حين ينشغل الإماراتيون للغاية بكسب الرأي العام العربي، ولم ينخدع أحدٌ بوهم أنّ صورة النصر هذه تُعَدُّ أقل تعقيداً من بضعة مشاهد لطائرةٍ وأعلام.
الاختبار الحقيقي للتطبيع
تقول الصحيفة الإسرائيلية: من نواحٍ عدة نجد أن عرض التطبيع هذا يُعيد إلى الذاكرة أحداث اجتماع البحرين، العام الماضي، فحينها رحّب المسؤولون المحليون بالإسرائيليين بحرارة، تحت ضغوطٍ ووساطةٍ أمريكية، ولكنّهم لم يكونوا على القدر نفسه من الحماس لمواصلة العلاقات على المستوى المدني بعدها.
والقصة الإماراتية مختلفةٌ بالطبع في الوقت الحالي، لكن الاختبار الحقيقي لم يتغيّر: ما الذي سيحدث لتلك العلاقات رفيعة المستوى بعد خروج “جليسات الأطفال الأمريكيات من الغرفة”؟، هل سيتحوّل هذا الترحيب الحار إلى أمرٍ روتيني حقاً؟ المسؤولون الإماراتيون البارزون مقتنعون بذلك، ويُحاولون إقناع الآخرين به، كما أكّدوا أيضاً أنّ هذا التحول ربما يكون “تدريجياً”، ولكنّهم يرغبون في إحراز التقدم بأسرع ما يُمكن.
عندما فُتحت أبواب طائرة رحلة طيران “إل عال” رقم LY971 في مطار أبوظبي، كان الأمر بمثابة اعتراف من دولة الإمارات وقبول منها لدولة الفصل العنصري الأشد فجاجة في القرن الحادي والعشرين: دولة إسرائيل.
يجب ألا يكون ثمة شك تجاه الحقائق الواضحة أمامنا: لم تكن هذه صفقة “سلام مقابل سلام” بين بلدين مسالمين. فإسرائيل دولة عنصرية ومنتهك منهجي للقانون الدولي ومعتدٍ غاشم على حقوق الإنسان، يجب بالأحرى أن تواجه المساءلةَ والعزلة عن جرائمها ضد الشعب الفلسطيني.
وفي غضون ذلك، تشارك الإمارات أيضاً في مغامراتها الخاصة المعادية للنهج السلمي، والتي لا تنفك تجلب أكواماً من البؤس والموت والدمار، خاصةً على اليمن.
حلَّقت الرحلة، التي نقلت وفداً يضم أمريكيين وإسرائيليين إلى الإمارات للعمل على اتفاق السلام، فوق الأجواء السعودية. ومنذ ما يقرب من ثلاث سنوات، تساءلتُ كم من الوقت سيستغرق الأمر قبل أن يُرفع العلم الإسرائيلي في سماء الرياض. وهذا الأسبوع، وقع الأمر، وحلَّق هذا العلم فوق الرياض، مزيِّناً رحلة الطيران رقم LY971 وهي في طريقها إلى أبوظبي.
منحت السعودية “الإذن” للطائرة الإسرائيلية بالتحليق فوق مجالها الجوي، على الرغم من عدم وجود علاقات رسمية بين البلدين. وسمحت الدولة التي تضم أراضيها أقدس مسجدين في الإسلام، بمكة والمدينة، لشركة الطيران الوطنية التابعة لدولة تحتل بطريقة غير قانونيةٍ الأرض التي يسكنها ثالث أقدس مسجد في الإسلام، المسجد الأقصى، بخرق حظرٍ دامَ عقوداً وأتاحت لطائرتها التحليق فوق الأجواء السعودية، ومن أجل ماذا؟
لم تكن السعودية مضطرة إلى منح الإذن لهذه الطائرة بالتحليق فوق مجالها الجوي. كان بإمكانها على الأقل أن تنتظر لترى مدى صدق إسرائيل في التفاوض على صفقة عادلة مع الإمارات.
كان بإمكانها أن تنتظر حتى تلتزم إسرائيل بإلغاء خطة الضم. كان من الممكن أن تنتظر حتى يعرب البيت الأبيض عن التزامه ببيع طائرات الـ”إف 35″ إلى الإمارات. وكان من الممكن أن تستغرق الرحلة، التي استغرقت ثلاث ساعات ونصف الساعة، ضعفَ المدة لو لم تمنح السعودية الإذن لها بالتحليق فوق أراضيها.
لو كانت السعودية، التي تعد القائد المشارك للإمارات في حربها على اليمن، قد احتفظت ببطاقة السماح بالتحليق هذه حتى قرأت البيان الصادر عن الإمارات والولايات المتحدة وإسرائيل، لربما أدركت أن إسرائيل لم تقدم أي تنازلات مقابل التطبيع مع الإمارات.
كلُّ كلمةٍ مهمة
الكلمات التي تستخدم في سياق كهذا شديدة الأهمية؛ لاحظ هنا الإشارة إلى خطط الضم في النسختين العربية والإنجليزية من البيان. فالبيان بنسخته العربية يشير إلى أن: “الاتفاق… أدى إلى وقف خطط إسرائيل لضم أراضٍ فلسطينية”، أما البيان بنسخته الإنجليزية، فيقول: “الاتفاق… أدى إلى تعليق خطط إسرائيل لبسط سيادتها”.
بعبارة أخرى، الإماراتيون جرى التلاعب بهم وأُخذوا لجولة في الفراغ. فلا إسرائيل ولا الولايات المتحدة تشير إلى خطط تتعلق بـ”أراضٍ فلسطينية”. وبدلاً من التصريح، بوضوح بأنها ستُوقف الضم، كان ما أعلنته إسرائيل هو التزامها بتعليق بسط سيادتها. فهل قام الإماراتيون بفحص النسخ الإنجليزية والعربية والعبرية ومطابقتها للتأكد بدقة من الوارد فيها؟
المغزى من هذه القصة هو أن الدول العربية التي تفكر في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، عليها الالتفات إلى أن كلَّ كلمةٍ مهمةٌ. وفيما يتعلق بإسرائيل، فإن كل كلمة ترد في تلك الاتفاقات مصممة لحماية مصالحها، وبمجرد توقيع أي اتفاق، ستُلزم إسرائيل الطرف الآخر بكل بند وقَّع عليه، في حين تتراجع هي عن التزاماتها، لأنها تعلم أنها لن تواجه أي مساءلة أو حساب بخصوص ذلك.
وإذا أردت شاهداً، فاسأل الفلسطينيين عن تجاربهم المريرة مع اتفاقيات أوسلو الكارثية. إذ لو تصرفت إسرائيل بحسن نية ووفق هذه الاتفاقات، لكان يجب أن تولد دولة فلسطينية في عام 1998؛ لكن ما حدث، عوضاً عن ذلك، هو أن مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين توسعوا للعيش على مزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أو اسأل الأردن، الذي وقعت معه إسرائيل معاهدة سلام منذ عام 1994، ومع ذلك، فإن الوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة في القدس الشرقية المحتلة، ومنها المسجد الأقصى، التي تحتل موقع القلب من المعاهدة، لا تزال مهددة.
تزعم كل من إسرائيل والولايات المتحدة أن “الوضع القائم” الذي استمر منذ احتلال القدس الشرقية في عام 1967، ليس معرضاً للخطر، ومع ذلك، فإن الواقع على الأرض يشي بخلاف ذلك، فهذا الوضع القائم يتآكل وجوده يومياً، ولم يسبق أن واجهت وصاية الأردن على الأماكن المقدسة خطراً أكبر مما تواجهه اليوم.
السلام مقابل لا شيء
الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي يتماشى مع خطط إسرائيل للسيطرة على الأقصى بموجب “صفقة القرن” التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وفي حين أن الاتفاق بين الإمارات وإسرائيل يسمح فعلياً للمسلمين بـ”زيارة الأقصى”، فعلى ما يبدو سيخضع تنسيق ذلك لإسرائيل وليس للوقف الأردني، بحسب ما يُفترض أن تمليه الترتيبات القائمة.
ربما تعتقد الدول العربية الأخرى التي تفكر في التطبيع مع إسرائيل، أنها يمكن أن تكون أفضل حالاً وتنتزع لنفسها مكاسب أكبر مما استطاع الفلسطينيون والأردنيون وحتى المصريون. لكن ذلك لن يحدث. وكل ما عليهم هو الاستماع إلى خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وكلماته منذ اللحظة الأولى للإعلان عن الاتفاق مع الإمارات.
ومع ذلك فإنا أخشى أنهم لن يعبأوا أصلاً بذلك، وسيكون هناك مزيد من اتفاقات التطبيع قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وهناك كثير من التكهنات بشأن أن دولاً، مثل سلطنة عمان والبحرين والسودان، قد تستسلم لسحر المستشار الرئاسي الأمريكي جاريد كوشنر، وتعلن التطبيع خلال الأسابيع المقبلة.
أفترض أن الوفدين الأمريكي والإسرائيلي سيُعتنى بهما جيداً في الإمارات، والأرجح أن تشمل الزيارة رحلة إلى قمة برج خليفة، أعلى مبنى في العالم. وعلى بعد كيلومتر واحد في سماء دبي، بإمكان الوفود أن تنظر إلى الشرق وتكاد ترى إيران وتشعر بها. سيستخدمون هذا القرب لإقناع الإماراتيين بجسامة الخطر الذي تشكله إيران، ولماذا يعد إنشاء جبهة موحدة تضم إسرائيل أمراً لا غنى عنه لحماية الإمارات.
غير أن الوفود ستتجنب النظر جنوباً، حيث يمكن أن تُثار معضلة اليمن الصعبة. لذا، سيلتفتون، بدلاً من ذلك، إلى الغرب، ويُحدثونك عن شعورهم بأن خطوة السعودية الخاصة بالسماح لطائرتهم بالتحليق فوق مجالها الجوي تعني تحركاً بطيئاً من الرياض من العمل تحت الطاولة إلى نوع من التطبيع الصريح، وإن كان ذلك قد يستغرق بعض الوقت.
تحرير فلسطين
ومع ذلك، وفقط عندما يتطلعون إلى إسرائيل وفلسطين، سيتذكرون أنهم حتى لو طبّعوا العلاقات مع جميع الدول العربية، فسيظل ليس لديهم سلام حقيقي، وأن ذلك السلام لن يتحقق إلا عندما يحقق الشعب الفلسطيني تطلعاته إلى الحرية والعدالة والمساواة في وطنه التاريخي.
تلعن إسرائيل حقيقةَ أنه لا يزال هناك ملايين من الفلسطينيين، وإلى الآن هم أكثر من اليهود الإسرائيليين، في الأرض ذاتها التي تعتبرها الوطن التوراتي للشعب اليهودي. قد تزج إسرائيل بالفلسطينيين إلى بانتوستانات للفصل العنصري [على غرار المناطق المخصصة للسكان السود في جنوب إفريقيا، كجزء من سياسة الأبارتهايد والفصل العنصري]، وتستمر في قمعهم واحتلال أراضيهم، لكن ما لم تتمكن من طردهم تماماً من كامل فلسطين التاريخية، فلن تصل أبداً إلى التحقق الكامل للصهيونية ورؤيتها.
قد تعتقد الوفود التي قطعت الرحلة إلى الإمارات أن مساعيها ستحقق السلام في الأرض المقدسة، لكن حري بالإسرائيليين الذين يحتفلون بالاتفاق الإسرائيلي الإماراتي أن يفكروا على المدى الطويل، ليدركوا أن فقط السلام مع الفلسطينيين هو الذي سيجلب سلاماً حقيقياً لهم.
أما الفلسطينيون، فقد حان وقت استيقاظهم، وإزاله بقايا النوم عن أعينهم، وإدراك أن مزيداً من المفاوضات مع إسرائيل تحت راعٍ مختلف لن تنجح أيضاً. لقد حان الوقت لتغيير حقيقي، حان الوقت ليكونوا هم المبادرين، بدلاً من السماح لنتنياهو وترامب بمزيد من الفرص لوضع العقبات أمام مشروع التحرر الوطني.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.