الاقتراب من هذا الموضوع ليس بالقلم والورقة، بل بمبضع جراح أداته الكلمة، لأن التكييف والتفسير لما يُكتب حول هذا الملف قد يأخذه البعض بعيداً عما قُصد منه. الصورة الأوسع أن هناك صراعاً بين مشروع سياسي تدفع به طهران إلى المنطقة العربية، وهناك مقاومة لهذا المشروع، ذلك ليس جديداً، كما ليس بالجديد أن تستخدم طهران ما يتيسر لها من أدوات في توطيد هذا المشروع، أساسه استخدام بعض العرب من خلال استمالتهم، تحت شعارات مختلفة، لتحقيق ذلك المشروع. تلك وسيلة ثبت نجاحها في لبنان، على حساب الوطن اللبناني، وهي الآن متعثرة إلى حد ما في كلٍّ من اليمن والعراق، والمحاولات قائمة على نطاق أضيق في بعض دول الخليج.
عادةً ما يُطلَق شعبياً على القادمين من الضفة الشرقية في الخليج (سواحل إيران) لفظ العجم، وهو يعني كما يعرف الجميع من لا يتكلم العربية، وهو في بعض مراحل الفهم لم يكن يحمل صفة إيجابية، إلا أن الصورة الأوسع أن مجتمع الخليج بضفتيه هو مجتمع حدودي، بمعنى أن الانتقال من الضفة إلى الأخرى تاريخياً كان هو السائد من دون معوقات، فلم تكن هناك حدود أو وثائق سفر، هاجرت قبائل عربية إلى الضفة الشرقية في أكثر من عصر سابق، الدافع كان خليطاً من عوامل الدفع والجذب والتي هي في الغالب اقتصادية وبعضها سياسي. أصبح العرب هناك بعد طول بقاء يتكلمون الفارسية، وفي وقت لاحق هاجر عرب أو غير عرب من الضفة الغربية إلى الشرقية، بعضهم سُنة وآخرون شيعة. وقد يستغرب البعض أن هناك سُنة من العنصر الفارسي. في معظم المراحل تعايش الجميع في دول الخليج بالكثير من التسامح، ولكن القلة المتشددة في الجانبين بسبب عدم الوعي الصحيح للتاريخ الاجتماعي، تميل إلى إعلاء التنافر بدوافع الجهل أو مصالح قيادات أو حتى شعور بالضيق الحقيقي أو المتخيَّل.
في بعض مراحل التاريخ الحديث ارتكب بعض ممن تحمسوا قومياً من العرب السُّنة ضغوطات أدت إلى تهميش المواطن الآخر، فأشاعوا شيئاً من الخوف لدى الطائفة الأخرى من العرب أو العجم (كما المصطلح الشعبي) وقوبل هذا بردة فعل مماثلة ومضادة أيضاً من التجمع الآخر مما شد العصب الطائفي، كان ذلك ناتجاً عن فهم قاصر من بعض النخبة لديناميكيات الاجتماع الإنساني، فأثار جواً من الكراهية. المجتمعات الحدودية عادةً ما تنقل خبراتها ومصالحها فيما بينها، فهناك الكثير من المظاهر الاجتماعية والثقافية انتقلت من ضفة إلى أخرى، كثير منها ذاب في شبكة العلاقات الاجتماعية الجديدة.
لم تكن هجرة العنصر الفارسي والعربي القاطن في فارس اقتصادية فقط، بل صاحبتها أيضاً عوامل دفع أقدم، كالفرار من الأوضاع السياسية في العصر الحديث والتي انتشرت في إيران خصوصاً، بعد ما عُرفت بإصلاحات رضا شاه الاجتماعية. السنة والشيعة في الخليج شكّلوا ازدهار الموانئ الخليجية قبل العصر النفطي، وبعده ذهبوا إلى نفس المدارس ومن ثم الجامعات، والأغلبية لم يكن لها اعتراض على ممارسات مذهبية للآخر، بل أسهم الجميع في نهضة الخليج التي نشهدها.
ما جعل الأمر يتفاقم سلباً هي شعارات وأفعال الثورة الإيرانية من جهة والتعصب السني في حركات سياسية من جهة أخرى فيما عُرف بالإسلام السياسي، مع خلط كبير بين السياسي والمذهبي من أجل الاستفادة السياسية. العجيب أن حركة الإخوان المسلمين الدولية لم تحمل كثير عداء للشيعية المذهبية، بل ارتبطت بها في أكثر من منعطف سياسي، أما الإسلام السياسي المحلي (الخليجي) فقد ضخّم ذلك الاختلاف من أجل الاستفادة السياسية. في الصورة الأوسع يقدم لنا التاريخ، حتى المعاصر، أشكالاً من الاستفادة السياسية من خلال تضخيم الاختلاف بين المذاهب في الدين الواحد، المسيحية مثال تاريخي وحديث أيضاً، فقد تصارع البروتستانت مع الكاثوليك في أوروبا لسنوات طويلة، وهُدمت مدن وأُريقت دماء، ولكن لم يكن ذلك في الماضي فقط، نحن اليوم في بلد مثل الولايات المتحدة نجد أن الاختلاف الديني، هذه المرة عنصري وليس مذهبياً، بين السود والبيض، فأخذت الكنيسة السوداء على عاتقها في الغالب الدفاع عن حريات السود وشعار (حياة السود مهمة) في حين أخذت الكنيسة البيضاء في الغالب تدافع عن تفوق العنصر الأبيض. فالسياسة هنا تلعب دوراً في خلفية المسرح مستخدمةً ممثلين يدّعون أنهم يدافعون عن المذهب ومصالح المنتمين إليه!
طبعاً لا يوجد عاقل يدعو أو يرغب في أن يغيّر الناس قناعاتهم المذهبية في أي دين، هي هنا منذ آلاف السنين وسوف تبقى أيضاً، والاختلاف في الاجتهاد الديني في المدونة التاريخية الإسلامية مقبول، بل ومرحَّب به (اختلاف الفقهاء رحمة للأمة) الخلاف الأعمق والذي يتوجب أن يناقَش بحرية وبعقل مفتوح هو (الولاء السياسي للوطن) أو (الولاء السياسي لخارج الوطن)، هنا يتوجب تفكيك هذه الإشكالية وتحليلها من أجل إبطال سحرها في مرحلة من التاريخ نعيشها تُوطَّد فيها أهمية وبقاء الدولة الوطنية.
هناك فئة صغيرة من الإسلام السياسي في كلا الاجتهادين المذهبيين تتطلع إلى (نموذج) في دولة خارج الوطن، هنا ما يتوجب أن يناقَش بجدية وعلانية. تظهر هذه الأقلية على المسرح كأنها الغالبية، وتحاول أن تُسكت الأصوات الأخرى في فئتها، والتي لا ترى رأيها. الأكثر جذرية وما يجعل الأمر ضبابياً هي المصطلحات غير الدقيقة المتداولة. مفهومان، على الأقل، لم تتمكن النخب في الخليج حتى الآن من تجذيرهما في العقل الجماعي، هما: التفرقة بين الحكومة والوطن، وبين المعارضة والأعداء، قد تكون الحكومة على خطأ، ولكن الوطن دائماً على حق، والخلط بين المعارض والعدو ما زال كالمفهوم الأول ضبابياً ويحمل على كتفه تنميطاً سياسياً ثقيلاً، قد يحمل المعارض وجهة نظر مخالفة، ولكنه ليس بالضرورة عدواً. هذا ينقلنا إلى أن الإحساس بالمظلومية أو حتى واقع المظلومية في المجتمع، والذي يتوجب أن يُرفع من خلال العمل على قاعدة وطنية، هو عابر للطوائف، ويتوجب تكاتف الجميع لتحقيق الخير العام، متجاوزين العرق والمذهب واللون والأصل، تكاتفٌ أساسه الوطن الذي يتوجب أن يكون ويحافَظ عليه ولا يفرَّط في أمنه، وفي نفس الوقت يتحمل الجميع السعي إلى مجتمع عادل متكافئ وقوانين تسري على الجميع من دون استثناء، وهي عملية الدعوة لها على الأرض اصعب بكثير من أخذ الناس كشرائح وتقسيمات متفرقة، إلى التنافر، والأخيرة الأسهل للتكسب السياسي على حساب كل الوطن وكل المواطنين.
آخر الكلام:
الثنائية التي تستبطن الكراهية عن جهل أو تكسُّب سياسي تحمل لبعضها الشكوك، ما إن تنتشر في المجتمع حتى ينقسم الوطن إلى معسكرات وتُفقده الصلابة للوقوف أمام المخاطر، فتتهشم الدولة ويخسر الجميع، ولننظر حولنا!