أعلمُ أنّها شعرتْ بالخجل أكثر من شعورها بالألم، لم أستطعْ فعلَ شيء، أنا ضعيفة مثلها وسط بلد لا قوانين تحمي النساء فيه، بلدٌ مشغول بالحروب والجوع. ندمتُ طويلاً لأنّي لم أقمْ بأي ردةِ فعلٍ لكني أدركُ اليوم أني كنتُ خائفة مثلها. سلطةُ ذلك الرجل أكبر من أيّ تعاطف أو قانون أو عُرْفٍ إجتماعي، إنّه وليّ أمرها.
اتساءلُ، لماذا نحنُ الفتياتُ يجب أن نموت؟
مهما كان الأمر فنحن النساء والفتيات الصغيرات تنتهي حياتُنا، قتلاً وتقطيعاً وحرقاً، لأنّ ذكراً وجد في جسدنا سبباً نستحق أن نموت لأجله، ولولا أجسادنا لما مُتنا، هكذا يردد كلّ من حولنا، وفي كلّ مرة أقف فيها عاجزة أنظر إلى جسدي وأفكر بطعناتٍ كثيرة ورصاصٍ اخترق الأجساد الخائفة والمرتجفة.
عن قتل الصغيرات بذريعة “العار”
نحن السوريّات نخاف، الجميع يعلم ذلك، ليس لأنَّ الرجال وحوشٌ، لكننا قد نموت في أيّ لحظة، لأننا نمتلكُ نهدين وعضواً أنثوياً، هكذا نختصرُ حالنا، يبدو الأمر مباشراً لكن هذه هي الحقيقة، أو كما قالتها الكاتبة والناشطة النسوية ديانا راسل: “النساء يقتلن لأنهنّ نساء ببساطة”، لأنّهن يفكرن كنساء ويخفن كنساء ويحلمن كنساء.
السوريّات خائفات على الدوام، خائفات من خطوات خلفهن، من نظرة غريبة لسائق التاكسي ومن العودة ليلاً وحيدات، ولا شكَّ أنّهن خائفات من الأقارب ومن الغرباء ومن مسلحين ومن جنود على حد سواء، وحتى أكثر الفتيات تحرراً يشعرن للحظة بالخوف، وأنهن تحت تهديد دائم حتى لو غاب شعور الخوف لعشرات السنين فقد يحضر بصورة عنيفة أكثر مما نتوقع، لأنَّ الشرّ المتعلق بالشرف والإغتصاب وبفكرة امتلاك جسد المرأة يمنح الرجل أحقيّة دائمة به، يستخدمها متى شاء، ولو قالوا: لكن هذه جرائم تتعلق بعقول مريضة ومتوحشة ولا علاقة لها بالشرف، إلّا أن هذه الجرائم تتعلق أولاً وأخيراً بالنساء وأجسادهن والظلم الواقع عليهن وحيل الالتفاف عليها ما هي إلّا لإخفاء خوفنا من الواقع المأزوم؟
إذاً قد تقتل طفلة لأن والدها قد يعتقد أنّها بعد عشرات السنين قد تمارس الجنس خارج الزواج وتصبحُ عاهرة، أو لأنّه يظنُّ أنّها قد تتعرض للإغتصاب وتجلب له العار إلى الأبد، هذا على الأقل ما قاله والد الطفلة “صفاء” ذات السبعة أعوام والذي قتلها بالتعاون مع زوجته الثانية وابنتهما وعمها، شوهوا الجثة الصغيرة وحلقوا شعرها ثم قطّعوا جسدها الصغير ودفنوها في حديقة منزلهم في قرية الهاشمية بريف حمص الشمالي وحسب مصادر مطلعة فالطفلة قُتلت قبل 5 أشهر وتم اكتشاف الأمر شهر آب/اغسطس المنصرم. وباعتراف الأب وزوجته قالا أن السبب: “كيلا تجلب العار لوالدها”.
في السياق ذاته قُتلت طفلة أخرى “رغد بابات” 12 عاماً على يد والدها بعدما ضربها مما سبب له نزيفاً دماغياً في شهر نيسان/ابريل الفائت في قرية دير فول في ريف حمص الشمالي أيضاً.
تفتقد النساء والصغيرات الأمان في كافة أنحاء سوريا، فالطفلة “شمس عبجي”، تسع سنوات، اغتُصِبت وقتلت قبل عامين في قريتها دركوش في ريف إدلب الغربي التي كانت واقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام والتي اتهم أهل القرية عناصرها بارتكاب الجريمة التي سُجلت ضد مجهول، وفي العام نفسه قام أب بعضّ طفلته الرضيعة وعمرها تسعة أشهر حتى الموت في جرمانا بالعاصمة دمشق والذي اعترف لاحقاً أنه فعل ذلك لأنه يكره البنات وكان ينتظر صبياً فأراد الانتقام من أمها.
من يأخذ حق هذه الصغيرات إن كانت عائلاتهن هي من قتلتهن؟
لا يتعلق الأمر بجريمة شنيعة وبضرورة معاقبة القاتلين وحسب، بل بالحاجة إلى فهم أن هذه الجرائم ليست جرائم عادية بل هي تعبير صارخ عن ذهنية كاملة لمجتمع يتصارع ما بين الحرب والأزمات الإقتصادية و”الأخلاقية”، فالعار المفترض هو من يقتل الفتيات، والإيمان بأن جسد البنات هو من يقود حياتهن لا عقولهن وحريتهن وبالعار المفترض يظن القتلة أنهم سيتملصون من الجريمة.
هذا التمادي الإجتماعيّ والدينيّ بأحقيّة الرجل بجسد المرأة يدفعه للظن بأنّه قادر على الحصول على جسدها أيضاً.
اغتصب أخٌّ اخته في منطقة بابيلا في ريف دمشق ومن ثم قتلها ذبحاً بالسكين بحجة أن سمعتها باتت سيئة، وإذا ما قابلنا هذا الفعل بسخط ونفي للتفسير فهو بسبب الجبن والخوف، تُسْتنكر الجريمة بالقول المسطح: “أي دين يقبلُ فعل ذلك؟”، نعم هناك تفسير لمثل هذا الفعل، أليس جسد النساء بشرع المجتمع ملكٌ لذكور العائلة؟ ولهم الحق بالتصرف به، تزويجه لأيّ كان، ضربه وإخضاعه؟ إذاً فحق الحصول عليه كمتعة جنسيّة هو أمر مشروع حسب القوانين الأولى التي تنصُّ على أن وليّ أمر الفتاة هو والدها وفي غيابه قد يكون أخوتها الذكور أو أعمامها أو أخوالها، ولم يضع أحد حدود التصرف بهذا الجسد، فاغتصابه إذاً وبعقيدة الذكور أعلاه هو أمر قد يحدث أيضاً بما أن هذا الجسد هو ملكهم في النهاية، وما حصل في هذه الحادثة أن العائلة فعلت ما تظنّه من حقها فكان الوالد شاهداً ومباركاً للجريمة، فالفتاة ستجلب لهم العار في النهاية ففعلوا ذلك بأنفسهم.
باتت الجرائم بحق النساء تحدث بشكل متواتر حيث اعتاد السوريون على هذا الجرائم التي تضجُّ بها وسائل التواصل الإجتماعي دون وجود إحصائيات واضحة بهذا الخصوص، كجريمة الملازم أول وئام زيود حيث قتل خطيبته السابقة وشقيقتها في اللاذقية، جريمة أُرجِعت لخلافات عاطفية، العاطفة تقتل حقاً لدينا، ليست مجرد صور شعريّة، هنا حيث يخنق الابن والدته أيضاً بسبب خلافٍ، وحيث تُخبّأ جثة امرأة بين الحجارة في منطقة نائية، هنا حيث يجدون رأسأً مقطوعاً لامرأة دون جسد، رأس وحيد وسط البراري.
هذه عينة صغيرة من جرائم حدثت في الأشهر الماضية في سوريا، ضحيتها نساء قُتلن من أقرب الرجال لهنَّ. وفي بلد غارق في تبعات حروب وأزمات منذ عام 2011، والآن يعيش انتشاراً مخيفاً لوباء كوفيد 19، فلا سبيل لمعرفة أرقام ومعطيات دقيقة عن حجم هذا العنف لكن الأكيد أنه بات مسموعاً ومحسوساً كما لم يحصل من قبل.
الغرف السريّة للشرف
“ثلاث أخوات مطلقات! لا بد أن هناك سرّاً، أنا لا اتهمهن في شرفهن ولكن قد يكن عنيدات مثلاً!” يردد صديق عائلتي في الغرفة المجاورة، متحدّثاً عن جاراته، الطلاق بالنسبة لرجل حاصل على شهادة جامعية، فعل غير مسموح به فكيف إن كنَّ ثلاث أخواتٍ! الناس تلوك حياة النساء المطلقات ربما لأنهن عنيدات أو لأنهن لا يسمعن كلام رجالهن، كلها نماذج لا تلائم المجتمع السوريّ بطريقة أو بأخرى، هناك خطأ دائم في النساء، ليت الرجال يرتكبون الأخطاء لمرة واحدة مثل النساء!
ماذا يعني جسد المرأة ولماذا تقتل النساء لأجله؟ يبدأ ترهيب الفتيات منذ الصغر وإقناعهن أن أجسادهن ليست ملكهن وعليهن الحفاظ عليها كما لو أنهن مؤتمنات على قطعة مجوهرات، يشكّل هذا الترهيب بطرقٍ مباشرة، أو بروي قصص حدثت مع أخريات أساساً لتربية الخشية والخوف وهو الركيزة الأولى في ضمان السيطرة على أجساد الفتيات في المستقبل.
في أغلب جرائم الشرف تُطلق الزغاريد بعد قتل الفتاة، دلالة على انتصار رجال العائلة لشرفهم واستعادة ما خسروه بالقتل، الزغاريد هي صوت القتل العالي وموسيقى الدماء التي تسيل بجانب جسد ضعيف، ما الشرف في العرف السائد سوى قلب يتوقف عن النبض وزغاريد تمجّد القاتل؟
القول بأن الشرف هو كلمة الإنسان وصدقه ونبله باتت كليشيهات لا طائل منها فالشرف هو جسد المرأة وهو دماء البكارة تسيل في ليلة الزواج، ما الطائل من البحث عن معنى كلمة الشرف في المعجم ومعرفة أنها أكبر بكثير من جسد ومن غشاء بكارة؟ الذي هو ليس دليلاً على “عفة” الفتاة وحسب بل على الرجولة وقدرتها على تحويل فتاة بريئة إلى امرأة بريئة أيضاً، فالبراءة هي جهل المرأة بالحياة ودهشتها دوماً من الجنس ومن الرغبة وكأنّها أمرٌ لا يخصّها ولا يخصّ جسدها، هو أمر قادم من الخارج، من الرجل وحسب!
تخبرني أمي أنّه في القرية ومنذ سنوات بعيدة، كانت تُعرض القطع القماشية التي عليها دم البكارة أسبوعاً كاملاً على حائط منزل العروسين، اليوم استُبدلت هذه القطعة البيضاء بابتسامات الرضى عند السؤال عن نتائج الليلة الأولى، الليلة العظيمة والممجدة، ليلة الفصل في حياة الكثير من الفتيات. للصدفة أنا ابنة بيئة محافظة، تدور في غرفها السريّة الكثير من الأحاديث عن عذريّة الفتيات وعن الليلة الأولى وعن شرف العائلات الواقع بين أقدام بناتهن، للصدفة أعرف الكثير من القصص لنساء قريبات مني وبعيدات كذلك لم يحدث شيء في الليلة الأولى، أي لم ينزل دم البكارة، هي قصّة معتادة، فلا يخرج دم البكارة رغم انتظار الرجل، تشعر الفتاة بالرعب، تحاول التفسير وتبدأ تحلف بأنّها عذراء، لا يصدق الرجل، هناك قصص تتحدث فيها النساء عن طلاقهن بعد شهر بحجة عدم الإتفاق وهنا وبذهنية الرجل يكون قد قدم لها معروفاً بعدم “فضحها”! أو يبقيها لديه لكن وسط حياة مهينة من الشكّ والضرب، مفردات “يعيدها، يبقيها” هو ما أسمعه في الغرف السريّة للشرف!
نساء المخيمات والداخل
كل النساء لديهن حكاياتهن الصعبة في العالم، لكن قصص السوريات كثيرة وتحدث في أي مكان وأيّ وقت، يتعرضن للتحرش والخوف في باصات النقل الداخلي وخلال الانتظار في طوابير السكر والأرز، ومن المسؤولين عن توزيع المعونات، من المدراء في العمل وفي المخيمات.
في مخيمات النزوح الكبيرة حيث تحدث القصص البائسة وتباع الصغيراتُ لأثرياء العرب مقابل مبالغ قد تكون قليلة أو كثيرة، تتحول الفتيات في المخيمات السوريّة إلى سلعة حقيقية، كثيراتٌ يعُدن إلى المخيمات بعد مدّة زمنية ليست بطويلة، أيّ بؤس هذا! لماذا تستحق النساء السوريات هذا الألم طوال عشرات السنوات ولماذا يجب أن يخفن من كونهن نساء!
بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) فإن نحو 32% من حالات الزواج بين اللاجئين السوريين في الأردن هي لفتيات تحت سن الثامنة عشر، هذا العدد هو أقل من الحقيقة فالكثير من الزيجات لا يعلن عنها أو لا تُسجل حتى. في المخيمات ينمو الخوف إلى جانب الخيام والأحلام على حد سواء، تخاف الصغيرات الخروج خشية التحرش أو الإختطاف، تخشى كذلك أن تكبر وتزج في الزواج، زواج داخل المخيم حيث هي مجبرة على منح أطفالها ألمها كذلك. لا شيء عاشته السوريات أكثر من البؤس، وتحملن قرارات الرجال وحروبهم الطويلة، انتظرن ابنائهن وأزواجهن وبكين فوق قبورهم ثم هربن بأطفالهن وحيدات إلى المخيمات وكان عليهن أن يتخذن قرارات كبيرة تتعلق بالكرامة والحياة كبيع صغيراتهن ليتمكن من المواصلة، لكن هذا القرار هو آخر ما تمتلكه النفوس المتعبة قبل أن تفقد صلتها بالحياة، تتألم النساء السوريات كل يوم بسبب الرجال، في المنازل يتعرضن للعنف والمعاملة السيئة، وفي الشارع حيث يتعرضن للتحرش والخطف والإغتصاب وفي مخيمات الخوف.
وفي النهاية ولشدّة الظلم وانعدام الأمان والخيارات قد تتخذ النساء قرار الانتحار.
قتلت “ميساء درباس” نفسها في إدلب، تناولت ثلاث حبات من الغاز السام. وميساء أمٌّ لثلاث أطفال لم يسلموا كذلك من ضرب والدهم، وحسب رواية صديقاتها، ميساء انتحرت بسبب تعنيف وضرب زوجها الدائم لها ومعاملتها بطريقة سيئة، وحين لجأت لأهلها لم يدافعوا عنها فالزوج هو ابن عمها، ميساء الوحيدة الآن في مكان بعيد هي صورة ليأس السوريات العاجزات عن المقاومة، وحسب الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا فإن حالات الإنتحار بشكل عام ارتفعت عن مثيلاتها العام الماضي، وهذا يعني بطبيعة الحال ازدياد حالات انتحار النساء. إلى أين تذهب السوريّات ومن الذي سينقذهن من عائلاتهن؟ أمن الرفاهية أن نتكلم عن حقوق النساء في زمن الحرب والحصار الإقتصادي والجوع؟
قوانينٌ غير مكتملة
حاول القانون السوريّ إجراء تعديلاتٍ لمواد تخصّ المرأة مباشرة، كان أخرها في آذار الفائت بإلغاء العذر المخفف لجرائم الشرف ومعاملتها كأيّ جريمة أخرى، وفي آخر بيان نشرته الجهات الرسمية عام 2011 كانت سوريا تحتل المركز الثالث بعد فلسطين واليمن بعدد جرائم الشرف. واقعاً، يعاني الدستور السوري من ثغرات خطيرة تهدد النساء مباشرة، فرغم قرار منع تزويج القاصر إلا أنه يمكن أن يتم هذا الزواج عن طريق رجل دين، بعده تُجبر المحكمة على تثبيت الزواج، كما أنه يغيب الإعتراف باغتصاب الزوج لزوجته، فقانون الإغتصاب لا يشمل الزوج (غير زوجه) وهذا يعني أن القانون السوري يبرر الإغتصاب الزوجي. لذلك وفي حال رغبت المرأة بحماية نفسها يلجأ المحامي للتحايل على القانون ورفع قضية بحجة الإيذاء الجسدي بعد الحصول على كشف طبي، مثل هذه القوانين تعزز العنف الأسريّ، فلا قانون أيضاً يخصّ العنف ضد النساء إنما يندرج هذا النوع تحت أنواع جرائم العنف الأخرى. يعاقب القانون السوري المغتصب (غير الزوج) بالأعمال الشاقة إلّا أنه وفي حال قبول الفتاة الزواج من مغتصبها تسقط عنه العقوبة ويوضع تحت المراقبة لخمس سنوات، من المهم هنا الإشارة إلى أن تكاتف الظلم الإجتماعي مع العادات والتقاليد والخوف من الفضيحة يدفع الكثير من الفتيات للقبول بهذا الخيار. من جهة أخرى ولأن القضاء لا يحكم بنفقة جيدة للطفل بعد الطلاق، تتعرض الأم والطفل على حد سواء إلى العوز والحاجة، كما أن الأم قد تخسر غالباً حضانة طفلها في حال تزوجت مرة أخرى بعد طلاقها أو لعدم قدرتها على إعالة صغيرها. النساء هنا يحتجن قوانين واضحة تنصفهن وفي هذا الوقت تحديداً حيث ازداد العالم وحشية في ظل الحرب والجوع، حتى بات تعنيف الحلقات الأضعف بالمجتمع طريقة للتعامل مع خسارة الرجولة في الخارج وفي الحروب وتفريغ الغضب والجهل في النساء، السوريون أمام حرب أخرى طويلة لإعادة التربية وسن قوانين واضحة بدون مواربة فيما يتعلق بجرائم النساء وتعنيفهن.
هل سنصل لزمن تصبح فيه المرأة السورية بآمان؟ وقتٌ يحمي فيه القانون حريّة قرارها، ابتداء من أبسطها كحرية التعليم والخروج وصولاً إلى حريتها الجسدية؟ أم ستبقى المرأة السورية تموت بشكل مجانيّ تحت سلطة وليّ أمرها؟