عن دار «أوراق» في القاهرة، صدرت للكاتب السوري المقيم في النمسا ثائر الناشف، رواية «المسغبة»، وتقع في ألف وثمانمائة وست عشرة صفحة (1816). وقد جاءت مُقسّمة مُطبعياً إلى ثلاثة أجزاء متصلة وغير منفصلة في جوهر الموضوع؛ سواء في سرد الأحداث اليومية، أو في تعاقب ظهور الشخصيات التي فاق عددها أكثر من مائتي شخصية محورية وثانوية؛ التي تمثل ألوان الطيف السوري كله.
تدور أحداث الرواية حول مدينتي الزبداني ومضايا السوريتين الواقعتين عند سفوح السلسلة الجبلية المحيطة بالحدود اللبنانية السورية، وتستعرض قصة حصارهما المؤلم، ذلك الحصار الشنيع الذي دفع السكان المحاصرين إلى التهام أوراق الأشجار والحشائش والأعشاب الضارة، فضلاً عن التهام القطط والكلاب، كآخر وسيلة لهم للبقاء على قيد الحياة، إذ شاعت المجاعة في صفوفهم، وبدأوا يتساقطون جوعاً واحداً تلو الآخر، بعدما نحلت أجسادهم الضعيفة، وبرزت عظامهم، وتغيّرت طباعهم وأهواؤهم.
كما تتطرق الرواية إلى المعارك الطاحنة بين الميليشيات الأجنبية والمحلية التي اشتركت جميعها في حصار المدينتين الجبليتين (الزبداني ومضايا) الكائنتين في ريف دمشق المحاذي للحدود السورية اللبنانية عند سفوح الجبل الشرقي.
أصدر الكاتب السوري ثائر الناشف روايته الضخمة “المسغبة على سفح الجبل الشرقي” بعد أن أتم أربع سنوات كاملة في كتابتها، لتكشف أحداثها الغزيرة عن واقع الحرب المريرة التي عصفت بالسوريين على مدار تسع سنوات، فقد ذهبت الرواية في معالجة واقع الحصار من خلال سرد معاناة الناس عبر الدور الذي لعبته عشرات الشخصيات المحورية؛ والتي توالى ظهورها المتعاقب في متن الرواية في ظل شيوع المجاعة التي تسببت في تساقطهم جوعاً ومرضاً واحداً تلو الآخر، إضافة إلى التقلبات النفسية المصاحبة لقسوة الحرب.
فالرواية تبدأ أساساً في استعراض بطلها (حسان آغا) من خلال تسليط الضوء على شخصيته في زمن الحرب، والنبش عن ماضي عائلته ذات الجذور الكردية السريانية، لتنتقل بعد ذلك إلى الغوص في أجواء الحرب الصاخبة بين قوات الجيش السوري والكتائب الإسلامية المناوئة في محيط المدينتين، لتنتهي المعركة بتقهقر الجيش السوري، وهيمنة المقاتلين الإسلاميين على المدينتين الاستراتيجيتين، ليتدخل بعدها حزب الله قاطعاً الحدود اللبنانية باتجاههما، وليفرض حصاراً خانقاً عليهما تسبب في حدوث مجاعة كبرى انتهت بتفاوض المقاتلين الإسلاميين على الخروج من المدينتين مقابل استسلام السكان الذين هدَّ الجوع جسد مَنْ بقي منهم حيّاً، غير أن الرواية لا تكتفي بالسرد التوثيقي لواقع الحرب والحصار، بل راحت تكشف عبر أسلوب التحليل النفسي الذي انتهجه الكاتب في تحليل سمات الشخصيات، ما أكسب النصّ بعض الحيوية التي تجلت في قراءة انطباعات الشخصية، ونبش محتويات الذاكرة الجسدية، فضلاً عن الوقوف عند الأفكار، وتفسيرها وتأويلها الأمر الذي عكس صخب الأحداث على النص برمته من خلال ما راحت تهجس فيه الشخصيات.
ورغم التشعب الغزير في عرض الأحدث -بسبب اعتماد الكاتب أسلوب التحليل النفسي- والذي نسجت الرواية على منواله، فقد كان هناك بعض التراخي في الأحداث من خلال الغوص المتقطع في أجواء الحرب بين حزب الله والمقاتلين الإسلاميين، إلا أن ذلك لم يتسبب في تفكك بنيان النص، كما أن جمال اللغة بطريقة فلسفية شاعرية ساحرة، عزز روح الإمتاع والمؤانسة في رصف الحوارات الرشيقة، وسبك المعاني، وهذا ما يدلل على الهدوء والصبر المديدين اللذين تحلى بهما الكاتب على مدار أربع سنوات في كتابة النص، بغية ترتيب الأحداث، ومنحها التسلسل المنطقي المطلوب، أما الشيء الأهم فهو الخيال المُشبع بالتأمل، والتذكّر الآني الحاد لكيلا تغفل عنه المواضيع التي تدور الرواية من حولها.
ليس سهلاً على الإطلاق الخوض في غمار ذوات السوريين التي كشفت الحرب الراهنة تقلباتها النفسية وتحولاتها الاجتماعية في اتجاهات شتى، خاصة في ظل الهجرات الواسعة، ومواسم النزوح التي تركت آثارها الجلية في شخصية الإنسان السوري، فأضحت ذاته رهينة الضجيج المترافق مع صخب الحرب، فأصبح من العسير على أي باحث نفسي فهم تلك التقلبات كلها دون ربطها في أجواء التنشئة العائلية والاجتماعية التي خلّفت بصماتها الواضحة في صقل الشخصية، ولذا فإن الغوص في ذلك كله يستدعي الإبحار في أعمق سمات الشخصية السورية، وهو ما فعلته هذه الرواية الملحمية في مجلداتها الثلاثة.
ومما لا شك فيه أن الحرب بكل شرورها وبشاعتها هي مادة الكاتب، ففي بدايات القرن العشرين شبت حروب جديدة مع غرق العالم في وحول الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين كانتا سبباً لانكباب الكتّاب الأوروبيين في نسج روايات الحرب التي ظلت خالدة في ذاكرة شعوبنا العربية، ربما أكثر من خلودها في ذاكرة الشعوب التي حدثت لديها تلك الحروب، ولعل السبب في ذلك نمو حركة الترجمة، وتعطش القارئ العربي للغوص في هذا النوع من الآداب، لفقر المكتبة العربية بروايات الحرب، لكن في الوقت عينه لا يمكن أن نغفل جوانب التقصير في أدبنا العربي عن مواكبة روايات الحرب، فمعظم الروايات المتوفرة في المكتبة العربية هي في حقيقة الأمر روايات مترجمة إلى اللغة العربية، ولعل هذا يقودنا إلى التساؤل عن أسباب ذلك القصور، فالجواب يتعلق أساساً بواقع الحروب التي شهدها العالم العربي على الأقل منذ 100 عام، فالحرب هي مادة الأدب، كما في الروايات الروسية والفرنسية والأمريكية، أمّا في الأدب العربي، فإن الحرب لا تعدو كونها أن تكون مادة للمؤرخين والباحثين، ربما لأن معظم الحروب التي شهدتها البلدان العربية هي حروب تقليدية، كالحروب العربية الإسرائيلية التي انحصرت دائرتها في جوهر الصراع السياسي، وسياسة الرفض الشعبي، وبالتالي لم تكن تلك الحروب سبباً لانبثاق الرغبة في ذوات الكتّاب العرب للخوض في غمارها، كما هو الحال في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت لأكثر من 8 سنوات دون أن تترك أي أثر أدبي بليغ في وجدان الشعوب، وكذلك الحال بالنسبة للحرب الأمريكية على العراق، اللهم باستثناء الحربين السورية واللبنانية باعتبارهما صراعاً أهلياً وطائفياً على السلطة؛ واللتين تركتا لمسات عميقة في أدب الروايات، وتجلت تلك اللمسات من خلال مئات الرواية التي تناولت الحرب برؤية تركز أساساً على الآلام البشرية، دون أن تعكس تلك الروايات مجمل التحولات الاجتماعية التي عادة ما تحدث في زمن الحروب الأهلية، فتقلب أفراد المجتمع رأساً على عقب، وتغيّر ثقافاتهم النمطية السائدة تغييراً جذرياً شاملاً.
فالروايات الأوروبية والأمريكية ركزت أساساً عند تلك التحولات الاجتماعية، دون أن تستغرق عميقاً في استظهار الآلام والأوجاع، بل عملت على ربط التحولات بحركة التغيير الاجتماعي التي عصفت بالثقافة الأوروبية، فأثّرت في الأدب وتأثرت به، فهذا التركيز يظهر اليوم واضحاً في سردية المسغبة وضوحاً لا لبس فيه من خلال التحول الكبير الذي أصاب شخصية بطل الرواية (حسان آغا) رغم عجزه الكبير المتمثل بساقه المبتورة بفعل شظايا الصواريخ، إلا أن بؤسه الشديد من الحياة، وفقدانه الأمل في النجاة من الحصار، انتهى به إلى التشبث للبقاء في مدينة مضايا، ورغبته في الموت بعد أن فهم الحياة في زمن الحرب والحصار والجوع فهماً مختلفاً عن فهم البشر لها في زمن السلم والرخاء أو حتى في زمن الفقر.
فحسان آغا يظهر في الجزء الثالث، وبعد أن فقد أولاده الثلاثة بسبب الجوع الشديد وشح الطعام، يظهر أنه راح يحاكم المجتمع محاكمة فلسفية من خلال رسائل الحرب التي دأب على كتابتها للعالم أجمع، فضلاً عن حواراته العميقة مع الملازم إبراهيم الذي فرّ من حواجز الجيش السوري ليجد نفسه محاصراً في مدينة مضايا بين رهط من المقاتلين الإسلاميين، فاضطر للالتجاء إلى بيت حسان، ليذوق مرارة الحصار، وليكون شاهداً عليه، بعد أن كان أحد الضباط الذين دأبوا على رمي المدينتين المحاصرتين بشتى صنوف الصواريخ والقذائف.
فحسان وإبراهيم رغم رفضهما لمنهج الحرب، إلا أنهما توغلا كثيراً في توضيح أسباب رفضهما لها، ودلّلا على ذلك من خلال تفسيرهما للشر الإنساني، كخصلة شديدة التجذر في الروح، ويبدو جلياً رغبة الكاتب في نبش المخزون الثقافي لمجتمعاتنا الشرقية من خلال ملامسة الشر المتأصل في النفوس، وتشريح ذلك تشريحاً عملياً أمامياً من خلال رصد إيقاع سلوك الشخصيات، وهو ما يكشف عن مدى تأثر الكاتب بأسلوب التحليل النفسي والذهني، فضلاً عن تأثره بأنماط روايات الحرب في الآداب الغربية؛ والتي جاءت عاكسة لكل ذلك التحول الذي أصاب المجتمع السوري، ومثلما شرّح الكتّاب الأوروبيون واقع المسيحية قبل أكثر من نصف قرن عبر محاكمتهم لمجتمعات الكنيسة في إنتاجهم الأدبي، فإن رغبة الكاتب تبدو مكشوفة في الاتجاه نفسه من خلال سعيه المفرط إلى تشريح الإسلام عبر أولئك المقاتلين العقائديين (حزب الله – تنظيم القاعدة) ومن ثم البدء في محاكمة ذلك كله عبر رصد السلوكيات الشاذة، وإظهار انحرافاتها في المجتمع الشرقي، لتنقلب بعد ذلك انقلاباً جذرياً عبّرت عنه شخصية المقاتل مصطفى “ستيفان” الذي أعلن عن تمرّده على الجماعات الإسلامية بعد أن خاض صراعاً نفسياً مريراً انتهى بإشهار مسيحيته في سبيل إراحة ذاته، لتسببه في مقتل صف ضابط مسيحي، وشعوره بالندم الشديد، وتأنيب الضمير الذي دفعه إلى التخلي عن القتال، والسعي إلى الهروب من أجواء الحرب في سبيل أن يحيا حياة جديدة كتلك الحياة التي يطمح السوريون إليها جميعاً.
الوجع السوري في ثلاثية روائية