منذ الغزو الأمريكي للعراق فى عام 2003، توسعت السفارة الأمريكية فى بغداد إلى مجمع ضخم، يضم مئات الدبلوماسيين والمسؤولين السياسيين والعسكريين، بالإضافة إلى أفراد الأمن، اختارت الولايات المتحدة، أن تكون سفارتها في بغداد، أكبر مبنى دبلوماسي لها في الخارج.
تعرضت السفارة الأمريكية إلى هجمات من الجماعات المسلحة العراقية، لكن عام 2020 كان الأسوأ بالنسبة لها، فهو العام الذي شهدت فيه السفارة والأصول العسكرية الأمريكية، هجمات صاروخية عنيفة، بشكل شبه يومي، من قبل الفصائل المسلحة العراقية المدعومة من إيران.
أدى الضغط على المصالح الأمريكية في العراق إلى قيام وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، منذ أيام قليلة، بإعلان صارم، باتجاه بلاده إلى إغلاق السفارة في بغداد، وسحب جميع الدبلوماسيين والعسكريين من بغداد، فماذا لو تم الإغلاق الشامل للسفارة الأمريكية في العراق.
رسائل متضاربة..
إذا تم إغلاق السفارة فهذا يعني انتصاراً لإيران، لأنه ومنذ اغتالت الولايات المتحدة، القائد العسكري الإيراني البارز الجنرال قاسم سليماني، قائد قوة القدس التابعة للحرس الثوري، وصديقه، الرئيس الفعلي لهيئة الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، في غارة جوية بطائرة بدون طيار بالقرب من مطار بغداد الدولي، طالبت الفصائل السياسية وشبه العسكرية الشيعية العراقية برحيل القوات الأمريكية من العراق، وكان هذا أيضاً مطلباً أساسياً من الجانب الإيراني.
في لقاء جمع بين الزعيم الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، ورئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي أثناء زيارته لطهران في شهر يوليو/تموز الماضي، طلب آية الله خامنئي، من الكاظمي سرعة العمل على إخراج القوات الأمريكية من العراق، قائلاً “إنها قتلت ضيفاً عزيزاً للعراق، على أراضيكم”، مستنكراً حديث الكاظمي عن ضرورة الإبقاء على القوات الأمريكية لمواجهة فلول تنظيم الدولة الإسلامية.
وبعد زيارة طهران، ذهب الكاظمي إلى واشنطن، في أغسطس /آب لاستكمال الحوار الذي بدأ بين البلدين، وهناك طلب من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الإبقاء على قواته، لمواجهة خطر تنظيم الدولة الإسلامية المتشدد في العراق.
وبالرغم من أنه قبيل زيارة الكاظمي لواشنطن، اجتمع مع عدد من الفصائل السياسية وشبه العسكرية الموالية لإيران، لسماع طلباتهم، والتي كانت وفقاً لمصادر تحدثت لـ”عربي بوست”، تنصبّ فى المقام الأول في الحصول على جدول زمني من واشنطن لإخراج قواتها من البلاد، لكن لم يحدث، ولم يعطِ ترامب كلمة أخيرة في هذا الأمر للكاظمي.
عاد الكاظمي إلى العراق، وعادت الهجمات الصاروخية بصفة دورية على السفارة الأمريكية بالمنطقة الخضراء، واستهدفت الفصائل المسلحة الغاضبة، القوات الأمريكية فى جميع أنحاء العراق.
أمريكا سحبت جنودها من قاعدة التاجي بعد تعرضها لهجمات..
الجدير بالذكر أن بعد عودة الكاظمي من واشنطن مباشرة، وعلى الرغم من طلبه للإبقاء على القوات الأمريكية على عكس رغبة الفصائل المسلحة العراقية، وإيران، سحبت الولايات المتحدة جنودها من قاعدة التاجي وسلمتها بالكامل إلى القيادة الأمنية العراقية، كانت قد تعرضت قاعدة التاجي العسكرية إلى العديد من الهجمات الصاروخية التابعة للفصائل المسلحة الشيعية.
عندما أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، عن إغلاق بلاده لسفارتها، وسحب ما تبقى من الجنود الأمريكيين، ويقدر عددهم بحوالي 3 آلاف جندي أمريكي، بعد أن كانت أعدادهم تتجاوز 6 آلاف أثناء حرب العراق ضد تنظيم الدولة الإسلامية فى عام 2014.
شعر الكاظمي بحسب، مصدر مقرب منه، تحدث إلى “عربي بوست”، مفضلاً عدم الكشف عن هويته، بالتوتر، وبأن الولايات المتحدة ترسل رسائل متضاربة، يقول المصدر: “قد حصل الكاظمي على دعم كبير من الولايات المتحدة أثناء زيارته لواشنطن، وقد أعلن ترامب مراراً وتكراراً ثقته فى الكاظمي، ورغبة الأخير فى التخلص من النفوذ الإيراني”.
يضيف المصدر “صحيح أن الأمريكيين قد طلبوا من الكاظمي حماية بعثاتهم الدبلوماسية وقواتهم العسكرية، لكنهم لم يتحدثوا عن إغلاق السفارة إطلاقاً، لكن الآن بعد تحذير بومبيو، كأنهم يسحبون الدعم من الكاظمي”.
الكاظمي مستاء من التهديد الأمريكي..
عبر الكاظمي عن يأسه وغضبه من التهديد بإغلاق السفارة قائلاً “إن إغلاق السفارات يعني عدم التعاون مع الدول في المجالات الاقتصادية والثقافية والعسكرية في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها العراق”.
فى حديثه لـ”عربي بوست”، يقول مصدر مقرب من الكاظمي “يخشى رئيس الوزراء أن تكون الولايات المتحدة جادة في تنفيذ تهديدها، خاصة أن المكالمة الهاتفية بينه وبين بومبيو لم تكن إيجابية إلى حد ما، ويخشى أيضاً من أن تحذو البعثات الأجنبية الأخرى حذو واشنطن، فهذا بالتأكيد يضر بسمعة أمن العراق”.
لكن داخل العراق، هناك من يرى أن الأمر ليس بالكارثة الكبرى، حتى وإن تحقق تهديد بومبيو، فبخصوص الإضرار بسمعة العراق، وإظهار البلاد بمظهر ضعيف أمنياً، يقول السياسى العراقي “الجميع يعرف لماذا يتم استهداف السفارة الأمريكية، وهذا لا يعني أني أوافق على هذا الاستهداف، لكن الأمر له سبب قوي، عندما تغتال أمريكا شخصية عراقية وضيفاً أجنبياً على الأراضي العراقية، لا يكون إضراراً بأمن بغداد؟”.
نصر لإيران وللفصائل المسلحة العراقية..
تحدثت السفيرة الأمريكية السابقة لدى العراق، عن أن إغلاق السفارة الامريكية في بغداد، سيكون بمثابة انتصار لرغبة إيران، والفصائل المسلحة العراقية الموالية لها، قائلة: “هذا ما تريده إيران، خروج الولايات المتحدة تماماً من العراق يضر بشكل كبير بمصالح أمننا القومي”.
يعلق أحد قادة الفصائل المسلحة الشيعية، والموالية لإيران على هذا الأمر، معرفاً نفسه باسمه الحركي “أبوالفضل الكربلائي”، لـ”عربي بوست”، قائلاً: “إذا نفذت أمريكا هذا الأمر، بالطبع سيكون الأمر نصراً كبيراً لجهود المقاومين، نحن نريد إخراج الأمريكان من بلادنا إلى الأبد، أصبحوا يخشون المقاومة، ويلوذون بالفرار”.
يرى القائد شبه العسكري أن إغلاق السفارة الأمريكية بالعراق، وسحب ما تبقى من القوات الامريكية، لن يضر بالأمن العراقي، كما يشاع، بل سيعزز استقرار العراق أكثر من ذي قبل، فيقول: “نحن من نحمي بلادنا، وليس الأمريكان، خروجهم يعني المزيد من الاستقرار، وتفرغ المقاتلين لدحر فلول داعش”.
فى نفس الوقت، يرى الكاظمي وآخرون مؤيدون لوجهة نظره، أن وجود القوات الأمريكية يضمن الأمن للعراق، خاصة أن خطر تنظيم الدولة الاسلامية مازال موجوداً، بجانب أن سحب البعثات الدبلوماسية، يعني فراغ الساحة أمام النفوذ الإيراني أكثر وأكثر، في وقت يحاول فيه رئيس الوزراء العراقي أن يعمل على إيجاد توازن بين طهران وواشنطن.
رد الفعل الإيراني..
لم يصدر أي رد فعل رسمي من الجمهورية الإسلامية بخصوص إعلان وزير الخارجية الأمريكي بإغلاق السفارة الأمريكية، لكن جلال جهرة خوش المحلل السياسي المقيم بطهران، تحدث لـ”عربي بوست”، بشان هذا الأمر قائلاً: “أمر إغلاق السفارة الأمريكية فى العراق يبدو مستبعداً من وجهة نظر القادة الإيرانيين، الذين يرون أنهم مجرد تهديد للضغط على الكاظمي، للسيطرة على الفصائل العراقية”.
تحدث السيد جهرة خوش عن جانب آخر من التهديد الأمريكي، فيقول “هناك نظرية أخرى متوقعة، إذا قامت أمريكا فعلاً بتنفيذ تهديدها، فمن الممكن أن يكون هذا الأمر مؤشراً على رغبة في زيادة الصراع مع طهران، وسحب الموظفين والدبلوماسيين لتأمين أمنهم، خشية تعرض فصائل الحشد الشعبي لهم، كل الاحتمالات واردة”.
إغلاق السفارة الأمريكية لا يعني انهيار العراق..
قالت وزارة الخارجية الأمريكية فى بيان لها “إن المجموعات المدعومة من إيران، والتي تطلق الصواريخ على سفارتنا تشكل خطراً، ليس علينا فقط، ولكن على الحكومة العراقية والبعثات الدبلوماسية الأخرى، وسكان المناطق المحيطة”.
حاول الكاظمي السيطرة على الفصائل المسلحة الموالية لإيران، مراراً، لكن مساعيه لم تكلل بالنجاح إلى الآن، لذلك أرسل وزير خارجيته، فؤاد حسين إلى طهران منذ أيام قليلة، لمناقشة العديد من الأمور مع الجانب الإيراني، ومنها أمر صواريخ الفصائل المسلحة، كما علم “عربي بوست”، من مصادر مطلعة على الاجتماعات.
يقول مصدر من الجانب الإيراني لـ”عربي بوست”: “زيارة وزير الخارجية العراقي لإيران كان هدفها الرئيسي إرسال رسالة حادة وغاضبة من الكاظمي إلى القادة الإيرانيين بشأن استهداف الفصائل المسلحة العراقية للبعثات الدبلوماسية الأمريكية”.
وبحسب المصدر الذي كان مطلعاً على الاجتماع، أبلغ وزير الخارجية العراقي، المسؤولين الإيرانيين، بضرورة إيجاد حل لهذه المسألة، فالأمر أصبح يمثل حرجاً دولياً كبيراً للكاظمي، الذي يحاول السيطرة على مجريات الأمور داخل العراق، وإرساء الأمن والاستقرار، خاصة قبل بدء الانتخابات البرلمانية المقرر عقدها فى العام المقبل.
بعد تحذير بومبيو، تعهد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بحماية البعثات الأجنبية في البلاد، لكن لم تمهله الفصائل المسلحة العراقية فرصة، فأطلقت ستة صواريخ باتجاه القوات الأمريكية بأربيل.
كانت وزارة الخارجية الأمريكية فى ديسمبر/كانون الأول 2019، قد أرسلت إلى الكونغرس خططاً مفصلة لتقليل عدد الدبلوماسيين الأمريكان في العراق بشكل كبير، ومن ضمن الخطط تقليص البعثة الدبلوماسية الأمريكية فى العراق بانخفاض قدره 28% وربما يزيد قليلاً بحلول نهاية مايو /أيار 2020.
وفى هذا السياق، يرى مسؤول أمني عراقي سابق، أن أمر تهديد بومبيو ليس سوى جزء من خطة مسبقة، فيقول لـ”عربي بوست”: “الدبلوماسيون الأمريكيون في العراق لا تواجد فعلياً لهم على الأرض، يخضعون لتعيلمات أمنية مشددة، تكاد تمنعهم من مواصلة عملهم الدبلوماسي، وبالفعل منذ العام الماضي، خاصة بعد التوترات الكبيرة بين واشنطن وطهران، قلصت أمريكا عدد الموظفين بشكل كبير”.
يضيف المسؤول الأمني قائلاً: “وسواء كانت الأعداد قليلة أو كبيرة، في اعتقادي، أن تهديد بومبيو مجرد تصريحات صاخبة وغاضبة فقط، لكن لن تترجم إلى أفعال”.