يبدو أن الولايات المتحدة بدأت في الوصول إلى ثمرة ضغوطها المستمرة على لبنان من أجل ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وذلك بعد إعلان بيروت وتل أبيب توصلهما إلى اتفاق من أجل إجراء محادثات رسمية لحل نزاع الحدود البحرية بين البلدين.
يأتي هذا في وقت لا يعارض فيه حزب الله هذه الخطوة، على الأقل في الوقت الراهن، بحسب ما نقلت مصادر خاصة، وهو ما بدا موقفاً غير معتاد من الحزب المهيمن على المشهد العسكري والسياسي في لبنان، رغم ما يعنيه الاتفاق من تواصل مباشر للبنانيين مع ما يعتبره الحزب “عدواً”.
ترسيم الحدود أهم من الحكومة
وتصدّرَ ملف ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وإسرائيل الواجهة السياسية في لبنان على حساب الملف الحكومي المتعثر الذي دخل على ما يبدو في غيبوبة طويلة، خصوصاً بعد المهلة التي منحها الرئيس الفرنسي للقوى السياسية.
ظهر هذا وسط مجموعة الاتصالات التي جرت طوال يومين بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس البرلمان نبيه بري تركّزت على ما سمي “اتفاق الإطار” للمفاوضات الخاصة بترسيم الحدود البحرية والبرية، دون التطرق لملف الحكومة.
وستعقد جلسة المفاوضات الأولى في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 في منطقة الناقورة جنوب لبنان بحضور ممثلين عن لبنان وإسرائيل والأمم المتحدة وقوات اليونيفيل، بالإضافة لعراب الملف الأساسي مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، والذي أعلن أنه سيحضر للبنان للمشاركة في جلسات التفاوض.
ويخوض لبنان نزاعاً مع إسرائيل على منطقة في البحر المتوسط، تبلغ نحو 860 كم مربع، تعرف بالمنطقة رقم 9 الغنية بالنفط والغاز، وأعلنت بيروت في يناير/كانون الثاني 2016، إطلاق أول جولة تراخيص للتنقيب فيها.
من البرلمان إلى السلطة التنفيذية
وبحسب تصريحات مصدر سياسي رفيع لـ “عربي بوست”، فإن المفاوضات بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي تجري بالفعل منذ عام 2011، بوساطة أمريكية ورعاية الأمم المتحدة.
هذه المفاوضات لم تكن على الإطار فقط بل على تفاصيل تقاسم المنطقة المتنازع عليها. ولكن الجديد أنها ستتم من الآن فصاعداً وجهاً لوجه بين اللبنانيين والإسرائيليين.
ويرى المصدر أن إعلان رئيس البرلمان نبيه بري تحويل الملف إلى السلطة التنفيذية بعد أن كان بعهدته طوال 10 سنوات يعني أهمية نقل الملف من عهدة الثنائي الشيعي – حزب الله وحركة أمل- إلى عهدة الرئاسة والجيش والحكومة.
السبب الرئيسي وراء هذا التغيير هو التحول في السياسة الأمريكية تجاه إيران وجماعاتها من الحرب الناعمة إلى المواجهة الشاملة.
ولذلك فإن تولي الرئيس بري لهذا الملف، وهو أمر كانت ترحب به الولايات المتحدة بل تصر عليه سابقاً، بات مرفوضاً الآن بعد إبلاغ ديفيد شينكر للمسؤولين اللبنانيين بذلك. وذلك ما يفسر ترحيب واشنطن بسعي الرئيس ميشال عون قبل 3 أشهر لتولي هذا الملف، مقابل رفضها للمسعى ذاته من قبل الرئيس سعد الحريري قبل سنوات.
وذلك ما يفسر أيضاً رفض ديفيد هيل، وكيل الخارجية الأمريكية، بحث الموضوع عند اجتماعه مع الرئيس بري خلال زيارته الأخيرة طالباً بحثه مع ديفيد شينكر، الذي لم يلتق بدوره أياً من المسؤولين اللبنانيين عند زيارته الأخيرة.
حزب الله لا يمانع
ويرى المصدر أن هناك متغيراً ثانياً في الملف هو أن حزب الله لا يمانع تقديم هذه الورقة إلى واشنطن وإلى ترامب تحديداً قبيل موعد الانتخابات الأمريكية في محاولة لتخفيف الضغط المتصاعد عليه وعلى إيران.
لكن هذه الورقة يستطيع حرقها متى يشاء، باعتبار أن الترسيم الفعلي يحتاج إلى مفاوضات شاقة قد تطول أو تقصر تبعاً لمتغيرات وتطورات متشعبة عقب الانتخابات الأمريكية، ما سيسمح بإعادة الإمساك بهذا الملف أو تعطيل المفاوضات إذا تطلبت المصلحة السياسية لحزب الله ذلك في ظل تمسكه بالمشاركة بأي حكومة قادمة.
كما يشدد المصدر على أن نقل الملف من بري إلى عون يأتي في إطار أن حزب الله يفضل ألا يكون في الواجهة إذا تطلبت التطورات والمتغيرات تقديم تنازلات أو القبول بما كان يرفضه حتى الأمس القريب، كالموافقة على مبادرة هوف لاقتسام المنطقة المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل أو الدخول في اتفاقيات مع إسرائيل لتقاسم بلوكات النفط المشتركة والتي بات وجودها أمراً مؤكداً.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي المقرب من حزب الله، قاسم قصير، أن “ما أُعلن عنه، هو اتفاق إطار، وأن المفاوضات ستأخذ وقتا طويلا”.
وأضاف “طالما العدو ينفذ اعتداءات، ستبقى هناك مقاومة وخيار مواجهة، أما ترسيم الحدود فلا يتعارض مع الحق بالمقاومة”.
ويحذر المحلل السياسي منير الربيع من أن “طريق التفاوض ستكون شاقة وطويلة، وترتبط بموقف حزب الله وإيران من أمريكا”، مشيراً إلى أن “الرهان يبقى إلى ما بعد انتخابات أمريكا، والوصول لاتفاق أمريكي- إيراني، فإذا حصل الاتفاق، فستكون عملية ترسيم الحدود أسهل”.
ويندرج ملف ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان، ضمن أبرز أولويات الإدارة الأمريكية، ولا سيما قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
لبنان مضطر
وترجع أسباب موافقة لبنان على الذهاب نحو التفاوض إلى “الضغوطات الأمريكية والإسرائيلية، وتكثيف الضربات والأزمات الاقتصادية التي يعيشها لبنان، والخلاص من الأزمات”.
ويقدر إجمالي حجم الاحتياطيات البحرية اللبنانية من النفط بـ865 مليون برميل، ومن الغاز 96 تريليون قدم مكعبة.
ويعاني لبنان أزمة اقتصادية حادة، تفاقمها الاضطرابات السياسية التي تعصف بالبلاد، وبلغ إجمالي الدين العام 86.2 مليار دولار في الربع الأول من 2019، وفق أرقام رسمية.
ماذا بعد الترسيم؟
وأوضح مصدر دبلوماسي متابع لـ “عربي بوست” أن مساعد وزير الخارجية الأمريكية ديفيد شينكر والذي سيحط رحاله في بيروت في 13 أكتوبر/ تشرين الأول، سيبلغ المسؤولين اللبنانيين أن ملف ترسيم الحدود ستعقبه ملفات أكثر حساسية لا يمكن لواشنطن التنازل عنها، في إطار القبول بصيغة أن إسرائيل لن تسمح أن يكون على حدودها سلاح ثقيل.
وكان شينكر فاتح المسؤولين في إحدى زياراته لبيروت أن ملفات واشنطن المقبلة في لبنان بعد التشدد في خروج حزب الله من الحكم هي توسيع صلاحيات قوات الطوارئ الدولية “اليونيفيل” لتشمل التفتيش وهدم الأنفاق وإقامة دوريات في مناطق جنوبية ووقف إحضار السلاح النوعي والعمل على مراقبة المنافذ الحدودية مع سوريا.
هذا بالإضافة لوجود دور لهذه القوات في المرفأ والمطار، وهو ما ظهر بالفعل من خلال تواجد قوة من اليونيفيل في مرفأ بيروت تحت عنوان مساعدة القوات المسلحة اللبنانية على رفع الأنقاض. وبحسب المصدر، ستبقى هذه القوة في المرفأ لمدة غير محددة.
ويشدد المصدر على أن ملف المفاوضات على صواريخ حزب الله الدقيقة في الجنوب اللبناني سيكون محط نقاش شينكر مع المسؤولين اللبنانيين وسيبلغ شينكر الرئيس نبيه بري بجملة المطالب التي ستعمل واشنطن على مناقشتها في لبنان في المرحلة القادمة.
ويؤكد المصدر أن ما تم التوصل إليه يظهر بشكل غير مباشر عدم رغبة إسرائيل أو حزب الله الخوض في أية مغامرة عسكرية، بل على العكس إيجاد ضوابط تضمن عدم الانزلاق إلى أي حروب أو معارك في المدى القريب.
ما هي نقاط قوة المفاوض اللبناني؟
وذكر الخبير العسكري العميد المتقاعد إلياس فرحات أنه وفي إطار الشكل، فقد حدد الاتفاق أن المفاوضات تجري بين اللبنانيين والإسرائيليين في الناقورة اللبنانية بحضور الوسيط الأمريكي وتحت رعاية الأمم المتحدة وهما أمران ضروريان وأساسيان.
وأن الاتفاق أوجب تلازم المفاوضات حول الحدود البرية والبحرية معاً وأن التوقيع النهائي سوف يكون حين التوصل إلى تفاهم حول ترسيم الحدود بشقيها البري والبحري، وهذا أيضاً يقطع الطريق على محاولات إسرائيل لتجزئة مسار التفاوض والسير به نحو أماكن أخرى.
ويرى فرحات أن لبنان يستند في ترسيم البحر على قانون البحار، لأن لبنان دولة موقعة على القانون، أما إسرائيل فلم توقع على هذه المعاهدة الدولية.
ويستند الترسيم البحري أيضًا إلى ترسيم الحدود اللبنانية مع قبرص وخصوصاً الجهة الجنوبية والنقطة 23 كمرجع لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، أي أنه لا يعترف بالخط الذي اقترحه المبعوث الأمريكي فريدريك هوف والذي سمي “بخط هوف”.
كما سيتيح ترسيم الحدود البحرية تحفيز الشركات على العمل في البلوكات النفطية وخصوصاً البلوك رقم 8 والبلوك رقم 9 من دون خوف من اندلاع أي نزاع، لا سيما أن الحقل الإسرائيلي الأقرب إلى لبنان يبعد أكثر من عشرين كيلومتراً عن حدود المنطقة الاقتصادية الخاصة اللبنانية.