أثار المؤتمر الصحافيّ الذي عقده رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، لإعلان الاتفاق على إطار لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، استهجان كثيرين لجهة خلوه والنص المكتوب الذي قرأه بري من أيّ إشارة إلى العداوة بين لبنان وإسرائيل، وحمله بحسب المستهجنين اعترافاً ضمنياً صريحاً بإسرائيل وبحدودها البرية والبحرية المعترف بها دولياً والقائمة على احتلال أرض فلسطين.
لكن استهجان هؤلاء، يصير بدوره موضع استهجان، إذا ما تمعّن المرء في كلمات بري المنتقاة بعناية، والتي ترسم خطاً تاريخياً لمحطات التفاوض والاعتراف اللبناني بإسرائيل ككيان ودولة، وإن في إطار العداوة معها. وهذا الاعتراف يكاد يكون من عمر الكيان الإسرائيلي الذي اختُلق عام 1948. فبري في مؤتمره الصحافي ذكّر بـ”اتفاق الهدنة” بين لبنان والكيان الاسرائيلي، والذي وقّع عام 1949 بإشراف الأمم المتحدة و”مشاركة كولونيل أميركي” بحسب بري. وبالعودة إلى نص هذا الاتفاق، نجد أن الطرفين يتعهدان في المادة الأولى، “بالتقيد بدقة بالأمر الصادر عن مجلس الأمن بعدم اللجوء إلى القوة العسكرية لتسوية قضية فلسطين، وبامتناع الجانبين عن اتخاذ أي عمل عدائي ضد شعب الجانب الآخر أو قواته، أو إعداد مثل هذا العمل أو التهديد به”. كما تنصّ هذه المادة على أن “يُحترَم احتراماً كاملاً حق كل طرف في أمنه وحريته من الخوف من هجوم تشنه عليه قوات الجانب الآخر المسلحة”.
ألا يذكّر هذا الكلام بتصريح لوزير خارجية لبنان السابق جبران باسيل الذي قال في مقابلة تلفزيونية إن لإسرائيل الحق في الأمان؟
بري في كلمته أيضاً ذكر اتفاق نيسان/ أبريل الذي وقع بين لبنان و”إسرائيل” عام 1996، وتضمّن في نصه المنشور حرفياً على موقع “المقاومة الإسلامية” الرسمي على الإنترنت: “من المعترف به أن التفاهم من أجل إنهاء الأزمة الحالية بين لبنان وإسرائيل لا يمكن أن يكون بديلاً عن حل دائم. تفهم الولايات المتحدة أهمية تحقيق سلام شامل في المنطقة. من أجل هذه الغاية، تقترح الولايات المتحدة استئناف المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وبين لبنان وإسرائيل في وقت يُتفق عليه، بهدف التوصل إلى سلام شامل. تفهم الولايات المتحدة أنه من المرغوب به أن تجري المفاوضات في جو من الهدوء والاستقرار”.
إذاً، لا يبتعد الاتفاق من مقدمات تحضرُ وتغيبُ بحسب الظروف والمصالح للحديث عن سلام بين لبنان وإسرائيل. وقد استُتبعَ الاتفاق باقتراح مقدّم من الحكومة اللبنانية آنذاك (برئاسة رفيق الحريري) لإنشاء لجنة لمراقبة تطبيق تفاهم وقف إطلاق النار من الدول الخمس الآتية: لبنان، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، سوريا، إسرائيل. هكذا يُسمي الاقتراح إسرائيل من دون أن تسبقها صفة العدو ومن دون أن تُنزع عنها صفة الدولة. هذه اللجنة بحسب الاقتراح “تجتمع في الناقورة كمقر رئيسي، ويكون لها فرعان. الأول في صور والثاني في نهاريا”. كما “تجتمع اللجنة الفرعية في صور بحضور الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ولبنان وإسرائيل”.
ومستهجنو كلام بري، من الممانعين خصوصاً، يعلمون جيداً ظروف توقيع تفاهم نيسان، وأهمية هذا الاتفاق في رسم إطار للصراع مع العدو الإسرائيلي، يشرعن المقاومة، في مقابل الاعتراف الضمني بالمفاوضات مع إسرائيل كمقدمة لسلام مستقبلي مفترض. وهذا ما لم تحد عنه المبادرة العربية للسلام التي أعلنت من بيروت عام 2002، برئاسة الرئيس الممانع إميل لحود، والتي نصّت على الاعتراف بإسرائيل ضمن حدود عام 1967، بعد انسحابها من الأراضي التي تحتلها خارج هذه الحدود، في مقابل “اعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهياً، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة”، إضافة إلى “إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل”.
قد يزول استهجان هؤلاء الممانعين إذا عدنا إلى عام 1993، وتذكرنا المفاوضات بين لبنان وإسرائيل، وقد نشرت جريدة “السفير” حينذاك وثيقة الورقة الإسرائيلية والمفاوضات بين لبنان والدولة العبرية، وتم إقفال الجريدة لمدة أسبوع عقاباً على هذا النشر. وكانت الصحيفة بررت النشر بأنه يهدف إلى “خدمة الوطن وإشراك الرأي العام في تأييد الموقف الرسمي، ولفضح نوايا إسرائيل، ولدعم موقف الوفد المفاوض في واشنطن”. وهذا يؤكد وجود تفاوض رسمي بين لبنان وإسرائيل سابق لاتفاق نيسان، وتم تعطيله لأسباب تتعلق بتلازم المسارين بين لبنان وسوريا، وليس لأسباب مبدئية ترفض الاعتراف بـ”إسرائيل”.
قد يزول استهجان هؤلاء الممانعين إذا عدنا إلى عام 1993، وتذكرنا المفاوضات بين لبنان وإسرائيل.
في كتابه” يوميات القتل العادي” يخصص وضاح شرارة فصلاً لـ”تعطيل جريدة السفير البيروتية”، وفيه يستعيد تصريحاً أدلى به الأب الروحي “الخالد” للممانعة الرئيس السوري حافظ الأسد لباتريك سيل، متضمناً الكثير من الاستخفاف بقدرة المسار اللبناني على السير في مفاوضات ثنائية مع الإسرائيليين من دون بركة سورية، يقول فيه: “بالطبع ستقف الاتفاقيات الثنائية على قدميها. وهذا لا يبطل وجود الأمة العربية. ليس هناك تناقض هنا. فعندما تتفاوض الوفود العربية في قضايا معينة أو مشكلات محلية سيتوصل كل منها في نهاية المطاف إلى اتفاق ثنائي مع إسرائيل (…) فهناك أقطار بشخصية دستورية خاصة. وهناك مواضيع ذات اهتمام خاص لكل حكومة (…) وإذا ما توصل لبنان إلى سلام غداً – وأنا أود أن يحدث هذا/ فهل يعني أننا سنصبح معزولين وأن لبنان لن يعود ذا فائدة لسورية؟”.
في توزيع الأدوار حينذاك، عبّر نبيه بري، وكان رئيساً لمجلس النواب (طبعاً) عن رفضه الوثيقة، فيما كرر نائب “حركة أمل” (التي يرأسها بري) علي حسن خليل كلاماً سابقاً لبري عن أن الوثيقة “فخ جديد”.
التاريخ يضحك في الزاوية. وحافظ الأسد يتقلّب في قبره.