نظم خصوم “حزب الله” في لبنان حملةً عليه، بسبب استجابته للضغوط الأميركية وموافقته على إجراء لبنان مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والتي انطلقت في بلدة الناقورة اللبنانية!
هؤلاء الخصوم كان سبق لهم أن اشتكوا من تحويل “حزب الله” الحدود اللبنانية- الإسرائيلية إلى منطقة نزاعٍ دائم لا يقوى لبنان على خوضه، ولطالما عابوا على الحزب عدم التزامه قواعد الهدنة ورفضه الانخراط في مفاوضات دولية ترعى العلاقات الحدودية وتنظمها.
اليوم، وافق الحزب على خطوة كانوا يطالبونه بها، والعثرة المحتملة في هذا المسار هو احتمال أن ينقلب “حزب الله” على الخطوة، أو أن يضع عثرات تعيق الوصول إلى نتائج. وهذا الاحتمال سيدفع منظمي الحملة على الحزب إلى العودة إلى خطاب التذمر من وضع الحزب لبنان في مواجهة لا يستطيع لبنان خوضها.
مصدر هذا الترنح والاضطراب في خطاب خصوم الحزب، هو أن هذه الخصومة صادرة عن صدع أهلي ومذهبي لا عن افتراق في الخيارات وفي القناعات. نحن ضد “حزب الله” لأنه حزب الشيعية السياسية، ولسنا ضده لأنه حوّل لبنان مزرعة إيرانية، ذاك أن معظم هؤلاء الخصوم صادرون عن ولاءات دولية وإقليمية، على رأسها ممالك الخليج وإماراته، قد تكون أقل تأثيراً في لبنان من الولاء لإيران، لكنها لا تقل فداحة لجهة ما تضمره من قبح في الاستتباع.
المفاوضات التي انطلقت في الناقورة لا تؤمل منها نتائج حدودية، فنحن اليوم لسنا في لحظة نضوج التسويات. الإدارة الأميركية في آخر أيامها، والانتخابات هي الوجهة الوحيدة للسياسة الداخلية والخارجية. هذا الأمر يصح أيضاً على تل أبيب التي افتتحت مساراً آخر للتطبيع في الخليج، ولا بأس من هدية للحليف الأميركي.
اليوم “حزب الله” على طاولة المفاوضات الحدودية. الخطوة هي الثمرة الأولى لسياسة العصا والجزرة التي صاغها مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شنكر، وهذا الأخير صديق الآخذين على الحزب موافقته على جلوس لبنان على طاولة المفاوضات. والحال أن هؤلاء كان يفترض أن يكونوا سنداً لصديقهم في مهمته، وأن يصمتوا وينتظروا ما سيؤول إليه المشهد، ذاك أن حملاتهم ستساعد الحزب على قلب الطاولة والعودة إلى مربع لطالما ترنحوا به، أي مربع المواجهة المفتوحة.
المشهد في الناقورة لا يحتمل إشهار التخوين. خلفه وقائع ثقيلة علينا جميعاً. خلفه حزم من العقوبات، وخلفه حقول غاز ونفط، والأهم أن خلفه بلد منهار ونظام فساد واستتباع، وحروب ممتدة من القوقاز إلى الخليج. أما تطبيع العلاقات مع إسرائيل والذي أطلقته دول الخليج، فهذا مسار آخر لا تندرج فيه مفاوضات الناقورة. والخوف من أن يندرج لبنان في هذا المسار ينطوي على مزاج شعبوي لا يمت إلى الواقع بصلة.
ولبنان الذي يبدو أقل من أن يخوض هذه التجربة في ظل الخلافات على طبيعة الوفد اللبناني المفاوض، نقل إلى طاولة المفاوضات صدوعه. “حزب الله” يريد الوفد كاملاً له، وجبران باسيل، صهر الرئيس وظله، يريد أن يتمثل في المفاوضات عساه ينجو من عقوبات لاح اسمه في جداولها، وهذه حقائق وإن كانت تكشف الاهتراء اللبناني، إلا أنها تكشف أيضاً عدم جدية لدى الجانب اللبناني، ومحاولة مراوغة بانتظار أن يأتي الفشل من الخارج.
تسوية النزاعات الحدودية مع إسرائيل خطوة ذهب إليها “حزب الله” مرغماً. وإسرائيل من جهتها تصرفت حيالها بمزاج احتفالي. ولا أحد في لبنان مرشح لأن يحول معطيان سلبيان إلى لحظة احتكاك إيجابي. لبنان، أي “حزب الله”، سيستثمر خلال عملية المفاوضة في الصعوبات، وبنيامين نتانياهو سيجعل من الحدث نصراً انتخابياً، فهو تمكن من جر “حزب الله” إلى مفاوضات لم يسبق أن وافق عليها. ستشهد الناقورة رقصاً على حلبة نزاع أميركي- إيراني، بانتظار جلاء مشهد المنافسة بين دونالد ترامب وجو بايدن.
المشهد من حول طاولة المفاوضات شديد التعقيد، واللحظة لا توحي بأنها لحظة تسويات. “حزب الله” يفاوض على مشارف انتخابات أميركية قد تفضي إلى تغيير كامل في الإدارة، والمواجهة الأميركية- الإيرانية تشهد تصعيداً كبيراً آخر فصوله حزمة عقوبات طاولت 18 مصرفاً إيرانياً. أما الكلام عن أن حقول الغاز التي ستسمح المفاوضات للبنان باستثمارها ستنقذ لبنان من الانهيار الاقتصادي والمالي، فهو مضحك فعلاً. ذاك أن الأمر سيحتاج إلى نحو 10 سنوات حتى يبدأ التسويق، وهذا وقت كفيل بتحول الانهيار المالي إلى مجاعات وتفكك وحروب.
المفاوضات التي انطلقت في الناقورة لا تؤمل منها نتائج حدودية، فنحن اليوم لسنا في لحظة نضوج التسويات. الإدارة الأميركية في آخر أيامها، والانتخابات هي الوجهة الوحيدة للسياسة الداخلية والخارجية. هذا الأمر يصح أيضاً على تل أبيب التي افتتحت مساراً آخر للتطبيع في الخليج، ولا بأس من هدية للحليف الأميركي. أما “حزب الله”، فهو داخلياً في أسوأ أيامه، ذاك أن الهيكل الداخلي، إذا ما سقط، فسيسقط على رأسه، ولا بأس ببعض البراغماتية، بانتظار الإدارة الجديدة.