لم تفُق حرائق الغابات في سوريا ولبنان هذا العام المعدلات الطبيعية فحسب، إنما بلغت بساتين الزيتون والفواكه ومناطق مأهولة بالسكان. وقد التهمت النيران إضافة إلى أشجار معمرة عمرها مئات السنين ونباتات أصلية مستوطنة في شرق البحر الأبيض المتوسط، أعداداً هائلة من أشجار الزيتون وبساتين الفواكه. وخسرت سوريا تحديداً أعداداً هائلة من الأشجار المثمرة
. ففي بلدة حب نمرة وحدها في محافظة حمص احترقت 1000 شجرة زيتون تقريباً، إضافة إلى أشجار مثمرة أخرى مثل الرمان والتين وعرائش العنب. وكذلك الحال في بلدات وقرى أخرى في المحافظة ذاتها كالمُزَينة وقرب علي وزوَيتينة. وأشار نشطاء في حمص تواصلت معهم عبر الهاتف إلى أن الحرائق التهمت 80 في المئة من الأشجار المثمرة، الزيتون تحديداً، بينما التهمت 20 في المئة من الأحراج.
وتعد حرائق الغابات والأحراج في كل من سوريا ولبنان هذا العام أكبر سلسلة حرائق على مر السنين في المنطقة، وسوف تكون آثارها كارثية على مصادر الغذاء والصحة والبيئة إن بقيت الاستجابة الحكومية والمجتمعية والإقليمية كما هي عليه الآن في التعامل مع الحرائق. وبحسب وزارة الزراعة السورية، التهمت النيران غابات عذراء تحتوي على نباتات متنوعة ونادرة، وفي محافظة اللاذقية وحدها، احترق نحو 600 هكتار من الأراضي، بعدما نشب فيها 79 حريقاً، وهو الرقم الأكبر في تاريخ الحرائق في سوريا. وبحسب المعلومات شبت 500 حالة حريق في كل من سوريا ولبنان هذا العام، الأمر الذي سيترك آثاراً مستقبلية على جميع مناحي الحياة الصحية والاقتصادية والبيئية في عموم المنطقة.
حريق في سوريا ولبنان هذا العام
تتضارب المعلومات الرسمية وغير الرسمية بخصوص أسباب الحرائق، ففيما يشير بعض منها إلى مساهمة التغير المناخي المتمثل بارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مستوى الرطوبة وتيارات رياح جافة في نشوب الحرائق، يشير بعض آخر منها إلى أن قيام الفلاحين بحرق الأعشاب اليابسة وتنظيف الأراضي في هذه الفترة من السنة يزيد من احتمال نشوبها، ناهيك باستغلال الغابات والأحراج المحروقة في الزراعة والتحطيب وتجارة الفحم؛ وهناك طرف ثالث يتحدث عن فعل فاعل ويد تخريبية خفية وراء الحرائق.
بادئ ذي بدء، أن الجزء الأسفل من البحر الأبيض المتوسط، يشهد ارتفاعاً ملحوظاً في درجات الحرارة الناتج عن التغير المناخي، وأصبح صيفه طويلاً، ما يؤدي إلى تَيَبس مساحات واسعة، من الأشجار والأحراج. وأدى التغير ذاته إلى هبوط مستوى الرطوبة وزيادة تيارات هوائية جافة. ومن شأن هذه التغيرات المناخية زيادة قوة الحرائق، إنما لا يمكن نسيان الإدارة الفقيرة للغابات والأحراج والنشاط البشري المتمثل بالزراعة، التحطيب، التفحيم، التنظيف والعمران. وتشير نقاط توزيع نشوب الحرائق، إلى أن مصادرها متنوعة ولا تتصل بالضرورة ببعضها بعضاً، أي أن العامل المناخي يساعد على سرعة تفشيها وليس على إطلاق شرارتها. على سبيل المثال، ليست بساتين الزيتون في محافظة حمص متصلة بالغابات الساحلية، أي أن هناك عوامل أخرى، وهي في الغالب بشرية ولها علاقة مباشرة بعمليات التنظيف وحرق الحشيش والمساحات الحرجية بطرق بدائية.
النتائج
تعمل الغابات بطريقة عملاقة في تصفية مكونات الهواء وتخزينها باستمرار، وتخزن كل شجرة في دورة حياتها 22 طناً من ثاني أوكسيد الكاربون في جذوعها وأغصانها وأنظمة جذورها، ناهيك بإنتاجها هيدروكربون كوقود للنمو ودورها في سقوط الأمطار. وعلى رغم أن موت الأشجار يؤدي إلى إطلاق غاز الكاربون بعد انتهاء دورة حياتها بفعل الفطريات والبكتيريا، إلا أن معظمه يبقى محصوراً في النظام البيئي الخلاق الذي نظم نفسه بشكل دائم. مع الإشارة إلى أن الغابات القديمة تأوي تنوعاً بيولوجياً هائلاً وتفوق طاقتها في احتواء الأحياء الدقيقة وتخزين الكاربون، طاقة الغابات الصغيرة بفارق كبير للغاية. تالياً، إن موت الغابات جراء الحرائق يطلق المزيد من ثاني أوكسيد الكاربون والحرارة ليس في سوريا ولبنان فحسب، بل في عموم المنطقة، ذاك أن الغابات والحرجيات المتوسطية لها تأثير مناخي من ناحية الرطوبة والأمطار والرياح على عموم المناطق الداخلية جنوب البحر الأبيض المتوسط. تالياً، إن الغازات الدفيئة التي كانت تمتصها الأشجار تجد طريقها إلى رئاتنا بعد الحرائق.
وبما أن الغابات تشكل الموئل الطبيعي للأحياء الدقيقة وتؤوي 80 في المئة من الأحياء البرّية، فسيؤدي تخريبها الى إطلاق فايروسات وأمراض كانت تؤويها الغابات ذاتها لآلاف السنين، الأمر الذي لا يغير شكل المنطقة الطبيعي فحسب، بل يعطل النظام الأيكولوجي وأنماط الحياة فيها أيضاً. ويعد انخفاض التنوع الأحيائي إثر حرائق الغابات أو استغلالها من أجل الزراعة سبباً من الأسباب المباشرة لانتشار الأمراض المعدية الناشئة. تشير التقديرات (اجتثاث الغابات مصدر لتفشي الأوبئة) إلى أن نحو 75 في المئة من الفايروسات الجديدة، حيوانية المنشأ وتنتشر جراء قيامنا نحن البشر بإزاحة الحيوانات من موائلها الطبيعية غالباً.
الغابات تشكل الموئل الطبيعي للأحياء الدقيقة وتؤوي 80 في المئة من الأحياء البرّية ويؤدي تخريبها الى إطلاق فايروسات وأمراض كانت تؤويها الغابات ذاتها لآلاف السنين
الحلول
على رغم أن الأشجار الجديدة التي تنبعث على أنقاض الغابات المحروقة لن تحمل قدرة الأشجار المعمرة على تخزين ثاني أوكسيد الكربون ولن تكون الغابات الجديدة قادرة على إيواء الأحياء البرّية والميكرو-أورغانيزم، مثلما كانت تلك القديمة المعمرة تفعل، إلا أن إعادة التشجير تعدّ حلاً جوهرياً من بين الحلول المقترحة والقائمة على الطبيعة. ويقتضي ذلك إعطاء الأولوية في السياسات التخطيطية للمشكلات البيئية وسبل إصلاحها، بدءاً بإصلاح الوسائل القديمة في الممارسات الزراعية، وصولاً إلى تحرير السياسات البيئية من مركزية الدولة الفاشلة عبر تفعيل الإدارات المحلية وإشراك المجتمعات في إدارة النظم الطبيعية.
يعد تعليم الكبار بخصوص التغير المناخي والظواهر القاسية الناتجة عنه، سبيلاً آخر من سبل مواجهة المتغيرات. فبدل التركيز على الإنذار المبكر حول حدوث الحرائق، يتوقع أن يلعب الوعي بالتغير المناخي والآثار التي يتركها على حياتنا، دوراً ملحوظاً في منع حدوثها أو وضع حد لها. وبما أن دور الغابات في حماية النظام الطبيعي كَونيّ، ولا يخص إقليماً معيناً، يتعين على الدول والبلدان والمجتمعات إنشاء فيدراليات إقليمية بخصوص المصادر الطبيعية المتجددة وسبل حمايتها، ذلك أن أمن المنطقة مرتبط بشكل مباشر بأمن تلك المصادر. ويمكن التطرق في السياق ذاته إلى أهمية تحويل الغابات العذراء والحرجيات إلى محميات طبيعية بغية حمايتها من النشاط البشري الزراعي والعمراني.