متى بدأت الثورات وكيف انطلقت أول ثورة وصلتنا أخبارها؟ “يبدأ التاريخ في سومر”، كما يقول عنوان الكتاب الشهير الذي وضعه العالِم صموئيل نوح كريمر في منتصف القرن الماضي، وعلى ألواح من العهد البابلي القديم تعود إلى الربع الأول من الألف الثاني لما قبل الميلاد، نقع على رواية شعرية طويلة تُعرف بـ”الفائق الحكمة” تحكي قصة تكوين الكون وولادة الآلهة وتناسلها، ومن ثم الثورة الأولى التي قامت به طبقة من الآلهة ضد طبقة أخرى تعلوها شأناً، وأدّت إلى خلق البشر.
بحسب سفر التكوين السومري، كانت الأم الأولى في البدء، واسمها نمو، ومنها كان كلّ شيء. تحرّكت في هذه الإلهة إرادة الخلق، فتصارعت الحركة مع السكون، ووُلد آنو، أي السماء، وكي، أي الأرض. اقترنت السماء بالأرض، وأنجبا انليل، إله الهواء الذي فصل بينهما، فارتفعت السماء إلى الأعلى وهبطت الأرض إلى الأسفل. واقترنت السماء بالأرض من جديد، فانجبا انكي، إله المطر وسيد الماء العذب. هكذا وُلدت العناصر الأساسية الأربعة للكون، وهي السماء والأرض، والهواء والماء العذب، وبدا الكون طافياً فوق الله – الأم نمو، وسكنته الآلهة التي تناسلت وشكلت شعباً من الآلهة.
بحسب رواية “الفائق الحكمة” البابلية، شكّل الآلهة طبقتين: طبقة القادة واسمهم “الأنوناكو”، وطبقة العمال واسمهم “الإيجيجو”، وقد تمرّدت طبقة الإيجيجو على طبقة الأنوناكو، وتحوّل هذا التمرّد إلى ثورة عارمة هدّدت بتزعزع الكون. تتحدّث الأبيات الأولى من القصيدة عن هذا الصراع، ويشكّل هذا الحديث مقدمة لهذه الرواية المتسلسلة الأحداث: “عندما كان الآلهة مثل البشر/ يؤدّون أعمال السخرة ويكدحون/ مرهقا كان عملهم/ لأن الأنوناكو كانوا يفرضون على الإيجيجو سخرة سباعية الوطأة”. استقرّ الآلهة الكبار في مساكنهم وتركوا للآلهة الصغار مهمة العمل وفتح الأقنية وشق المجاري. استقر آنو في السماء، واستقرّ انليل على الأرض وجعل منها مقراً لحكمه، وتسلّم أنكي سدّ البحر، وفرضوا على الإيجيجو العمل على حفر مجاري المياه وفتح الأقنية التي تحيي الأرض، “وهكذا شقوا مجرى دجلة/ وبعده مجرى الفرات”.
عمل الآلهة الإيجيجو خلال قرون من الزمن، وحين انتهوا من شقّ الأهوار في الجنوب، عمدوا إلى حساب سنوات كدحهم، فكانت ألفين وخمسمئة سنة وأكثر، “عملوا خلالها ليل نهار/ متحملين عبء هذه السخرة/ وبدأوا عند ذلك باللوم والاحتجاج”. وتوجّهوا الى انليل، الإله الذي جعل من الأرض مقراً لحكمه، وأعلنوا تمردهم، وأحرقوا أدوات عملهم، ورموا فؤوسهم في النار، ثم تجمهروا أمام معبد انليل، وحاصروه. خاف حارس المعبد، فأوصد الباب، ثم أيقظ حاجب إنليل، فأيقظ الحاجب سيّده، وقال له: “قصرك محاصر، سيدي/ وصل القتال إلى بابك”. استقدم انليل أسلحة، وأمر جاجبه بإغلاق الباب، وقال له: “هيئ سلاحك وضع نفسك بإمرتي”، ثم طلب منه أن يرسل رسولا إلى آنو، إله السماء، كما طلب منه ان يستقدم أنكي، إله سدّ البحر، فكان له ما أراد.
اجتمع الآلهة الكبار، فخاطبهم انليل، وقال لهم: “يا معشر الآلهة، ما الذي رأته عيناي؟/ وصلت المعركة حتى بابي”. فسأله آنو: “لأي سبب عمد الإيجيجو إلى حصار بابك؟”، وأرسل الحاجب لمخاطبة المتمرّدين، فردّوا عليه وشرحوا الأسباب التي دفعتهم إلى الثورة. ترأس آنو ملك السماء مجمع الآلهة، وأرسل نوسكا لمخاطبة المتمرّدين، فردّوا عليه، وقالوا: “نحن بذلنا كل جهدنا في هذا التنقيب/ والمهمة الشاقة قتلتنا/ ثقيلة جدا كانت سخرتنا، ولا نهاية لكدّنا”، وشرحوا الأسباب التي دفعتهم إلى الثورة. تفهّم آنو الوضع، ورأى ان مطالب المتمردين محقة، وقال لاخوته: “بماذا سوف نتهمهم؟/ ثقيلة كانت سخرتهم، وكدّهم لا نهاية له/ نحن سمعناهم يطلقون احتجاجاتهم”. خرج احد كبار الآلهة، واسمه إيا، واقترح صنع من يحمل نير الآلهة، وقال: “بما ان بعلة الآلهة، الرحم، حاضرة هنا، هي التي سوف تلد وتصنع البشر، لتأمين سخرة الآلهة”.
توجّه الآلهة إلى الإلهة الأم، وقالوا لها: “اصنعي اذن نموذجاً أوليا لبشريّ/ لكي يحمل النير عنّا/ لكي يحمل النير الذي فرضه علينا انليل/ ولكي يتحمّل البشر سخرة الآلهة”. طالبت الإلهة الأم بحضور الإله أنكي ليشاركها في ذلك، وقالت “هو وحده قادر على تطهير كل شيء، فليقدّم لي الصلصال طاهراً وأنا سوف أنفّذ العمل”. رأى انكي أن يقوم الآلهة بالتضحية بواحد منهم قبل أن يغتسلوا في طقس التغطيس، وأضاف: “وبجسده ودمه، سوف تجبل الإله الأم الصلصال، وهكذا سيتّحد الإله والبشر المجتمعين في الصلصال، وسوف نتمكن بعد ذلك من الراحة. وبفضل جسد الإله وإضافة سوف تكون للبشر روح، بحيث تثبت أنهم أحياء دوماً بعد موتهم، وهذه الروح سوف تكون حاضرة هنا، لحفظهم من النسيان”.
وافق الآلهة وأجابوا بنعم. وهكذا كان، تمّت التضحية بإله يُدعى وي، وبجسده ودمه جبلت الإلهة الأم الصلصال، “لكي يتم اتحاد الإله والبشر مجتمعين في الصلصال، وهكذا مُكّن الآلهة بعد ذلك من الراحة”. أتمّ الإله أنكي هذا الخلط، ثم دعا الآلهة، فتفلوا على الصلصال، وقالت بعلة الآلهة: “العمل الذي كلفتموني به/ أنا أنجزته/ وقد حرّرتكم من سخرتكم الثقيلة/ بفرض عملكم على البشر”، فسارعوا إلى تقبيل رجليها، وأطلقوا عليها اسم “سيّدة كل الآلهة”.
تنقل قصيدة “الفائق الحكمة” رواية من الروايات المتعددة التي تصوّر خلق الكون في مطالع التاريخ، وتتميز هذه الرواية بحديثها عن هذه الثورة التي واجه فيها الآلهة الصغار أسيادهم من كبار الآلهة، بخلاف الروايات الأخرى التي يدخل فيها الآلهة في صراع عنيف ينتهي بانتصار أحد الآلهة وسيادته على السماء والأرض إثر هذا الانتصار. في المقابل، تُجمع هذه الروايات المختلفة على القول بأن الآلهة خلقوا الإنسان إثر هذا الصراع، وذلك كي يكون الناس خدماً يقومون مكانهم في حرث وسقي الأرض ورعاية المواشي، وفي كل الأعمال.
في الخلاصة، تعب الأرباب من العمل، وأصبح الوجود عبئًا عليهم، فخلقوا الإنسان على صورتهم من طين، وعهدوا إليه بالأعمال التي قاموا بها على مدى قرون طويلة من الزمن في بداية التاريخ. كما يقول صموئيل نوح كريمر، “اعتقد المفكرون السومريون اعتقادًا جازمًا بأن الإنسان صُنع من طين، وإنه خُلق من أجل غرض واحد فقط، ذلك هو أن يعبد الآلهة ويخدمها بتزويدها بالطعام والشراب والمسكن ليتوافر لها وقت الفراغ لأعمالها الإلهية”.