كتب سامي خليفة في “المدن”: بدأت محادثات ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان في منتصف تشرين الأول الجاري، بتوسط إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تسعى للظفر بولاية رئاسية ثانية. وبينما وُصفت الجلسة الافتتاحية الأولى التي عُقدت في خيمة نُصبت أمام باحة مبنى عائد للأمم المتحدة في منطقة رأس الناقورة الحدودية، بأنها كانت إيجابية، ترتسم اليوم أسئلة عدة حول القدرة على ردم الفجوة المتنازع عليها بين الجانبين التي تبلغ مساحتها 2290 كيلومتراً مربعاً في المياه الاقتصادية. ومدى تأثير عودة الرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة على مسار المفاوضات.
لبنان على طاولة المفاوضات
على ضوء الأزمة الاقتصادية التي راحت تنهش الواقع اللبناني، أصبح ملف الغاز هو طوق النجاة الرئيسي والأخير للبنان بدلاً من الذهاب إلى المجهول. وحسب تقريرٍ نشرته مجلة “بتروليوم إكونوميست” الاقتصادية البريطانية، جاءت المفاوضات مدفوعةً بانهيار مالي وأزمة سياسية عميقة في لبنان، واهتمامٍ إسرائيلي بها على المقلب الآخر.
تتبع إسرائيل سلسلة من اكتشافات واستثمارات الغاز البحرية، كان آخرها إعلان شركة “شيفرون” الأميركية، عن استحواذها على شركة النفط والغاز “نوبل إنرجي”، بقيمة 5 مليارات دولار، التي تمتلك حصصاً في حقليّن إسرائيليين عملاقيّن هما “تمار” و”ليفياتان”، في صفقة مبادلة بالأسهم.
في السياق، يعلق أرييل كوهين، كبير الباحثين في معهد “المجلس الأطلسي”، للمجلة البريطانية، على قدرة لبنان من الاستفادة في المفاوضات الجارية بالقول “إذا حصل لبنان على كل الأراضي المتنازع عليها أو جزء منها، وكان بإمكانه تطوير احتياطياته من الغاز، فقد يكون قادراً على تصدير الغاز الطبيعي من جرفه القاري ومنطقته الاقتصادية الخالصة بكميات تدر عليه مليارات الدولارات“.
وتشير المجلة أن لترسيم الحدود البحرية تأثير نفسي كبير، يعوض خيبة الأمل التي عاشها لبنان إثر التنقيب في البلوك رقم 4، ويجذب اهتماماً إضافياً من شركات الاستكشاف والإنتاج الأميركية والدولية. وفي هذا الإطار، تقول بريندا شافير، وهي خبيرة في قضايا الطاقة الدولية، من المجموعة الأكاديمية للطاقة في كلية البحرية الأميركية للدراسات العليا: “يتطلب بدء استكشاف جديد في لبنان درجة أعلى من الأمن لجذب المستثمرين. وعلى الرغم من وجود ما يعتقده الكثيرون في صناعة الطاقة آفاق جيولوجية ممتازة، لم يتمكن لبنان من الدخول في لعبة البحر المتوسط وإطلاق الاستكشاف. نأمل أن يؤدي تحسين البيئة الأمنية مع إسرائيل إلى دفع لبنان للاقتراب من إطلاق عطاءات ترخيص التنقيب“.
العامل الأميركي
فرضت الولايات المتحدة الشهر الماضي عقوباتٍ غير مسبوقة على حليفيّن مقربيّين لحزب الله، وهذا ما تعتبره المجلة البريطانية رأس مال سياسي وقوة كبيرة تستغلها وزارة الخارجية الأميركية لدفع المحادثات قِدماً.
من جهته، يقول روبن ميلز، الرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات “قمر للطاقة” ومقرها دبي، للمجلة البريطانية: “الاتفاق قد يساعد في الحصول على بعض المساعدات المالية الأميركية، والتي أفترض أنها السبب الرئيس الذي دفع لبنان للقبول بالمفاوضات“.
يمر لبنان بأصعب ظروفٍ منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين خرج التضخم عن السيطرة وفشلت ضوابط رأس المال في وقف استنفاد احتياطيات النقد الأجنبي. يترافق ذلك مع قيام العديد من المواطنين بتخزين المواد الغذائية والأدوية. والمؤسف أن هذا الأمر قد يطول، إذ يقول أرييل كوهين “أنا متشائم لأنه إذا وصلت إدارة جو بايدن إلى السلطة في واشنطن، فقد لا تتخذ موقفاً مماثلاً لإدارة ترامب بإعطاء الأولوية لتطوير الغاز في شرق البحر المتوسط“.
عودة الحريري
عندما أعلن الحريري نيته العودة إلى منصب رئاسة الحكومة، وجد بعض الخبراء في خطوته علامة إيجابية ستنعكس على المحادثات. من هذا المنطلق، يقول موسى أوكان، خبير شؤون الشرق الأوسط في مركز البحوث التابع للمجلس الوطني التركي للبحوث الاستراتيجية: “الحريري حليف وثيق جداً للولايات المتحدة. يمكننا بالتأكيد أن نتوقع صفقة مرضية الآن لإسرائيل، وبالتالي للولايات المتحدة“.
أبرمت البحرين والإمارات والسودان اتفاقات سلام مع إسرائيل، وسط ورود تقارير عن استعداد عدد من الدول العربية الأخرى لفعل الشيء نفسه. ووفق المجلة، من المنطقي في هذه المرحلة محاولة إزالة الحواجز أمام تطوير الغاز. ولا سيما أن مصر وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن، وضعوا حجر الأساس رسمياً “لمنتدى غاز شرق المتوسط” الذي يتخذ من القاهرة مقراً له، وهو تحالف جيوسياسي يهدف إلى تصدير الغاز الذي لا يمكن للبنان أن يغيب عنه.
لكن توقع وفرة الغاز التي تحل المشاكل الاقتصادية الفورية للبلاد لا يزال حلماً بعيد المنال. فحتى في أفضل الظروف، سيستغرق تطوير الغاز سنواتٍ طوال. وهنا، يعقب روبن ميلز قائلاً “أعتقد أن هناك قضايا أكثر أهمية من الخلاف على الحدود البحرية تعيق عمليات الاستكشاف، ومنها الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان، وانخفاض أسعار النفط والغاز، وتفشي فيروس كوفيد -19، والنتائج الأولية المخيبة للآمال من التنقيب في لبنان، وصعوبة الوصول إلى أسواق الغاز. ورغم احتمال عودة الحريري، فإن انخفاض أسعار النفط والغاز والإجراءات المفسدة المحتملة من قبل تركيا وروسيا وكذلك إيران، يمكن أن تجعل أي صفقة بلا معنى“.
التحديات المقبلة
تضيف المجلة أن الجغرافيا السياسية في المنطقة غارقة بجهات فاعلة يمكن أن تضع المزيد من العقبات. وعلى سبيل المثال، يُعد “منتدى غاز شرق المتوسط” تحالفاً فعلياً ضد المطالبات البحرية لتركيا. وجزء من منطق إدارة ترامب في دفع المحادثات بين لبنان وإسرائيل هو تطوير احتياطيات غاز غير روسية للتصدير إلى أوروبا، خصوصاً إذا كان المنتجون الأميركيون قادرون على حجز حصتهم منها.
وبالحديث عن هذه التحديات، يستطرد موسى أوكان بالشرح: “لدى تركيا مخاوف بالفعل بشأن الإجراءات اللبنانية المحتملة وخطط التحالف في المنطقة. ستجعل المحادثات بين تركيا وروسيا تقتربان من بعضهما البعض. ومن المحتمل أن تؤدي مشاريع خطوط الأنابيب الجديدة لنقل الغاز من أذربيجان وكازاخستان وروسيا إلى أوروبا عبر شبه جزيرة الأناضول إلى الإخلال بالحسابات وإفساد الجهود. ذكرتُ كل ذلك ولم أتحدث بعد عن الدور المحتمل لإيران“.
إلى ذلك، يرى أرييل كوهين أن كلاً من سوريا وإيران، وكذلك روسيا، الراعي العسكري الرئيس لسوريا، لها تأثير كافٍ على حزب الله لممارسة حق النقض الافتراضي في لبنان. وحتى في الولايات المتحدة قد يتغير المناخ السياسي الشهر المقبل، ما يؤدي إلى زيادة تأخير أحلام لبنان في مبيعات الغاز المستقبلية.