ليس هؤلاء ظاهرة جديدة، كما تزعم اليوم صحف النخبة الاميركية، الصادرة على شواطىء الساحلين الشرقي والغربي. لكنهم حشدوا هذه المرة، أقصى طاقتهم، من أجل فرض إرادتهم على النص الباقي من الناخبين ، ومن السكان. لكن خسارتهم هذه الانتخابات بفارق محدود، يبلغ مئات الاصوات في بعض الولايات، لن تكون نهاية المطاف. سيخرجون مرة أخرى، بعد أربع سنوات، بأعداد هائلة الى مراكز الاقتراع ، لإنتخاب أي مرشح ديماغوجي يشبه ترامب أو يكمل سيرته ويعتمد أسلوبه.
وحتى ذلك الحين، لا أحد يعرف كيف ستتصرف تلك الكتلة الخاسرة، وما إذا كان بمقدور المؤسسة الاميركية، وعمليات التصويت التي يخضع لها الاميركيون في كل شأن داخلي، مهما صغر.. ان تحتوي ذلك الغضب الذي يعتمل نفوس 70 مليون ناخب، جراء هزيمة غير ساحقة، وغير مؤثرة في رأب الصدع مع الجناح الاخر من الأميركيين. الارجح، والاقرب الى الواقع هو ان الساحات والشارع ستشهد بعض الاحتجاجات والاعتصامات، التي قد تطول، لكن القانون سيبقى سيد الموقف، والقضاء سيكون الحكم، حتى تفتح مراكز الاقتراع مجدداً.
الاستقطاب بين الجناحين، كان وسيبقى حاداً. لكنه لن يخرج عن السيطرة، إلا إذا جاء المرشح المقبل للتنافس مع الرئيس الجديد جو بايدن، بعد اربع سنوات، من خريجي السجون، (وعددهم يفوق المليونين)، تحت شعار جعل أميركا نصيرة الضعفاء والمهمشين والمنبوذين والمعدمين.. لا شريكة أصحاب المال والاعلام والتكنولوجيا، الذين إتهمهم ترامب صراحة بهزيمته، وقرر ان تكون معركته المقبلة معهم وحدهم.
إختارت أميركا جو بايدن فقط لأن ما تحتاجه هو فترة إستراحة لالتقاط الانفاس.. وللتأمل في ما إذا كانت سياسة العزلة، التي أطلقها الرئيس السابق باراك أوباما، والتي طورها ترامب وحدثها ودفعها الى الحد الاقصى، هي الاجدى للمحافظة على مصالح النصف الذي كان متوارياً أو مهمشاً من الاميركيين الذين لا يريدون لبلادهم ان تظل زعيمة العالم الحر وطليعته، وصانعة الازمات الخارجية وشرطيها.
أمام هذا الشرخ العميق، لن يكون بمقدور بايدن ولا فريقه الديموقراطي المغامرة في إجراء أي تغيير جذري لا في الداخل ولا في الخارج. الخوف من الملايين ال70 التي صوتت لترامب، بعصبية وإرادة وتصميم مفاجىء فعلا، صار حقيقة أميركية ثابتة، ودائمة. ربما تشهد السنوات الاربع المقبلة، بعض الهدوء على جبهات السياسة الخارجية المشتعلة، لكن الحقائق التي فرضها ترامب ليست قابلة للتعديل بسهولة.
قرار الخروج من الشرق الاوسط، وتسليم إدارته العسكرية والامنية والاستخباراتية والمعلوماتية الى إسرائيل، هو قرار إستراتيجي، يحظى بما يشبه الاجماع في اميركا. كان من شأن فوز ترامب ان يمضي بذلك القرار حتى النهاية، أي حتى إنكار وجود الشعب الفلسطيني، وليس فقط محو أرضه عن الخريطة، وحتى إركاع أو ربما تخريب بلدان وشعوب عربية وإسلامية تعارض ذلك الخيار.
قد يتريث الرئيس جو بايدن قليلا قبل المضي قدماً في هذه السياسة الاميركية، وقد يراجع بعض الخطوات المطلوبة في هذا الاتجاه. لكن عندما يحين موعد الاختيار بين إسرائيل وإيران مثلا، أو بين إسرائيل وتركيا، فإنه لن يتردد كثيراً. ولن يمنح بقية العرب والمسلمين فرصة طويلة لالتقاط الانفاس.
ترامب كان كابوساً مخيفاً. لكن لم يتم التخلص منه تماماً. 70 مليون ناخب ليس رقماً سهلاً