عمر قدور|الجمعة25/12/2020….
الحق أن الأمر بسيط جداً، بقدر ما هو شخصي. لقد كنت مولعاً دائماً بأغنية “يا واد يا تقيل”، وكان صلاح جاهين وكمال الطويل خارج دائرة اهتمامي بالأغنية. بالطبع، لا بد أن تكون سعاد حسني في مركز الاهتمام، إذ من دونها يستحيل تذكّرُ الأغنية أو التفكّر فيها، لا أحسب أن أحداً يقدر على ذلك. هكذا لوقت طويل، لم أكن أعلم من هو صاحب كلمات الأغنية، ولا من لحّنها، ولم أكن أكترث بهما ولا بالفيلم الذي أدتها فيه، فيلم “خلي بالك من زوزو” الذي كنت أيضاً أعرف اسمه فقط لذيوع شهرته. مع ذكر الفيلم، يخطر لي أنه ربما كانت الكتابة عن الأغنية لتصلُح أكثر بعد سنتين، أي بعد مرور خمسين عاماً على عرضه الذي استمر في صالات السينما لمدة سنة كاملة، أو لمدة 54 أسبوعاً على وجه الدقة. أستبعد هذا الخاطر، فهو أشبه بانتظار مناسبة تخص المحبوب لتقديم باقة من الورود أو الاعتراف بالحب، مع أنه الورود أو البوح والحب في غنى عن انتظار المناسبات.
لكن الحب، كما نعلم، لا يبقى مكتفياً بذاته، ولا يندر أن يُستدرج بقليل أو كثير من الفضول. هذا ما دفعني قبل سنوات إلى التساؤل عن كاتب الأغنية وملحّنها، ليفاجئني اسما صلاح جاهين وكمال الطويل. إذاً، سأصل متأخراً إلى مفارقة عاشها البعض في وقتها، ففي حين كان النشيد الوطني المصري أيضاً من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، وفي حين كانت “الجماهير” في المناسبات الرسمية “الكثيرة” تغني “والله زمان يا سلاحي”، أتت أغنية “يا واد يا تقيل” من الكاتب والملحن كأغنية تفتقر إلى الحد الأدنى من الرصانة.
لقد واجه صلاح جاهين تحديداً انتقادات بسبب كتابته الأغنية أكثر من كمال الطويل، لأن الأول ظهر دائماً في الموقع الأشد تسييساً، مع أن اللحن “من دون الكلمات” هو الذي اعتُمد تحت مسمى “السلام الجمهوري” بين عامي1960 و1979، بينما اعتُمد اللحن كاملاً بمثابة نشيد وطني للعراق بين عامي1965 و1981. يُذكر أن مصر بدأت تجربتها مع السلام الوطني، لا النشيد الوطني، في عهد الخديوي إسماعيل بلحن من الموسيقي الإيطالي فيردي، إلا أن شهرة فيردي ستبقى مقترنة بأوبرا “عايدة” التي ألّفها بطلب من الخديوي نفسه. شهرة أم كلثوم أيضاً لا علاقة لها بكونها أول من أدى “والله زمان يا سلاحي”، فهذا شأن ثانوي جداً ضمن مسيرتها الفنية ولا يُقارن إطلاقاً بالصلة الحميمة بين سعاد حسني وأغنية “يا واد يا تقيل”. على أية حال، لم أعمد يوماً إلى سماع الأغنية الأولى، ولا أظن غيري يفعل ذلك “على الأقل من أبناء جيلي والأجيال التي تليه”، كما هو الحال مع أغنية سعاد حسني.
Video Player |
الخفّة في مقام الكلاسيك
يُروى أن صلاح جاهين أصيب بالكآبة الشديدة إثر نكسة حزيران1967، ما أبعده عن نوعية الكتابات الوطنية التي اشتُهر بها من قبل. على نحو أدق ربما، عُرف جاهين بإيمانه بالناصرية ومسايرته صعودها، قبل انكسارها على دفعتين، أولاً بهزيمة حزيران وتالياً بوفاة عبدالناصر. بحسب توصيفات تقليدية، راحت أشعار جاهين تنوس بين مجالين، التأمل والخفة. المثال الأبرز على الخفة الذي يستُحضر في هذا السياق، وأحياناً لا يُستحضر سواه، أغنية يا واد يا تقيل. ذلك قبل نحو نصف قرن من الآن، وهو زمن كافٍ ليضع الأغنية في مقام الكلاسيك، على الرغم من أن تقادمها لم يُثقّلها بالمعنى السمج للثقل.
قد لا تُكتب لأغنية سوى لمرة واحدة كلمات من نوع “عنده برود أعصاب اسم الله ولا جرّاح بريطاني”، أو “ويوقف ويقول: أنا هو أنا هو.. تمثال رمسيس التاني”، أو “ما تقولش أمين شرطة اسم الله ولا ديبلوماسي!”. ثم تمرّ هذه العبارات بسلاسة تامة، مع أنها لا تنتمي إلى الكلام السائد في الغناء العاطفي؛ يا لمحاسن الخروج عن الناصرية! على هذه العبارات، التي اعتبرها البعض مبتذلة، وجّهت انتقادات إلى جاهين، فهي ليست بالعمق الذي يراه البعض في الرباعيات، وليست من نوع البساطة “الشعبية” المقبولة على غرار الحوار في أوبريت “الليلة الكبيرة”. أحدهم انتقد جاهين، متأسفاً على انتقاله من “خلي السلاح صاحي” إلى “خلي بالك من زوز”.
يقول الممثل حسين فهمي في حوار تلفزيوني أن كمال الطويل لحّنَ الأغنية وانتهى من اللحن في سهرة في بيت صلاح جاهين، جمعتْ سعاد حسني وحسين فهمي والكاتب والملحّن. ثم، فور انتهائه من إنجاز اللحن على البيانو في وقت متأخر ليلاً، اتصلوا بمدرس موسيقى ليأتي ويدوّن النوتة، لأن كمال الطويل لا يعرف التدوين. لم يكن الطويل وحيداً في هذه الصفة، فابن جيله “الشهير أيضاً” محمد الموجي كان لا يعرف كتابة النوتة رغم اتقانه العزف على العود منذ طفولته.
يعزّ على كثير من المختصين الاعتراف بمكانة هذه الأغنية، بوصفها أغنية فحسب. طبعاً من السهل ردّها فوراً إلى جنس الاستعراض، لتبقى لصيقة بالفيلم ولا تغادره، على الرغم من أن تلك الحقبة وما قبلها شهدا عدداً ضخماً من الأفلام التي كُتبت من أجل مطربين وأغنيات بقيت شائعة بخلاف الأفلام. أيضاً من السهل تبرير براعة سعاد حسني الصوتية في الأغنية بردّها إلى قدرات تمثيلية عالية “لا غنائية”، تتمكن بموجبها من السيطرة على طبقات صوتها وتلوينها بما يتناسب مع لحن لا يعتمد جملة موسيقية واحدة يسهل تكرارها.
وضعُ الأغنية على طاولة التشريح الموسيقية الباردة لا يجيب عن أسباب انتشارها فور عرض الفيلم، واستمرارها طوال نصف قرن بشعبية تفوق أغانٍ تصنّف في الطبقة الأولى لمطربي الطبقة ذاتها. مثلاً حظيت الأغنية، بأحد تسجيلاتها المنشور مؤخراً على يوتيوب، بأكثر من 400 ألف مشاهدة خلال أقل من أربعة أشهر وهو رقم يتفوق على أغاني مطربات ومطربين معترف بهم من الزمن نفسه موجودة على القناة ذاتها. على يوتيوب أيضاً، سنعثر على تسجيل لأغنيتها “مانتش قد الحب يا قلبي” وقد حظي بثمانية ونصف مليون مشاهدة خلال عشر سنوات، وهذا رقم يُعتد به رغم أن الأغنية الأخيرة لم تلتصق بسعاد حسني وبراعة أدائها كما هو الحال مع “يا واد يا تقيل”.
في وسعنا التفلّت من معلمي الموسيقى الصارمين المتجهمين، والإعجاب بالأغنية على أهوائنا وعلى “نشازاتنا”. لكن لا بأس إن أنصتنا إلى البعض منهم، ليحدّثنا عن التنقّل السلس الرشيق بين مقامات النهاوند والكرد والبيات. لا بأس إن أنصتنا من موقع “التحيز الأعمى”، واستعارة التعبير الأخير من البلاغة التقليدية تجد أفضل مكان لها هنا لكثرة ما استمع الناس إلى الموسيقى مغمضي الأعين، إذا تحاشينا الخوض في التحيز لنجمتنا وجواز أن يكون أعمى أو بأعين مفتوحة على اتساعها. في سياق متصل، نستطيع إغماض أعيننا أثناء الاستماع وتخيّل ما تعنيه “كده هو” في كل مرة تتكرر فيها في الأغنية، ونستطيع ألا نتخيل أية هيئة على الإطلاق بما أن رهان الأغنية في مواضع أخرى.
إذا أنصتنا بانتباه، نستطيع بلا مُرشد موسيقي اكتشاف قدرة سعاد حسني على التلوين الصوتي، بما يحتمل المبالغة والمرح أحياناً، وبما يحتمل الشجن الخفيف أحياناً أخرى، مع ذلك الفائض الحسي الذي يُبقي صوتها طازجاً حتى الآن. الكوبليه الثالث واحد من الأمثلة على المقدرة الخفية للصوت، وعلى انتشال العادي من أجل التسامح معه! من المرجح أن هذا الكوبليه بُني على مطلعه “أكلّمه بحرارة.. يرد بالقطّارة”، لتأتي بعده كلمات عادية جداً، لا صعود أو جديد فيها كما في “عنده برود أعصاب اسم الله” أو “ما تقولش أمين شرطة ولا ديبلوماسي” في الكوبليه الأول والثاني. إننا نلهو ونمرح ولا بأس بشيء من العادي، هذا ما تكاد تقوله لنا نبرة سعاد حسني الضاحكة في نهاية الكوبليه الثالث عند “ويوقف ويقول أنا هو أنا هو.. أطول واحد في الحارة”. هنا واحد من مواضع المهارة العالية، فصوت سعاد حسني يأتينا كأنما يغالب ضحكة خفيفة، أو يسايرها بخفة أيضاً، وبشيء من التدقيق لا تخفى تلك الاستفادة المتقنة من مخرج حرف الحاء اللفظي، لتأتي النبرة الضاحكة بين حرفي الحاء في كلمتي “واحد” و”الحارة” كأنما المسافة بينهما هي بين قرار الضحكة وجوابها.
Video Player |
من “يا واد يا تقيل” إلى “خلي بالك من زوزو”
لسنوات بقيت متردداً إزاء مشاهدة فيلم “خلي بالك من زوزو”، كنت متخوفاً من مشاهدة فيلم أتوقع أنه من نوعية الأفلام التقليدية، بل أعرف مسبقاً أنه يقوم على قصة حب بين سليل ثراء وابنة فقر، وهذه حكاية علكتْها السينما المصرية خلال عقود سابقة على الفيلم. أيضاً يسهل أن نتوقع كونه فيلماً يدور حول نجم بطل أوحد، وهذه سمة غير مشجعة عموماً، إنما ليس إذا كانت النجمة سعاد حسني.
بحسب مركزية وأهمية أغنية “يا واد يا تقيل” كان محتملاً أن يأخذها الفيلم اسماً له، هذا ما قد يخطر لنا مع تكرار نغمة الأغنية في أثناء الموسيقا التصويرية وبحالات شعورية مختلفة، لكنه يأخذ اسمه من أغنية أخرى هي “خلي بالك من زوزو”. بالتأكيد كان اختيار تسمية الفيلم موفقاً لأنه يدور حول شخصية زوزو، بينما تشير أغنية “يا واد يا تقيل” إلى شريك عاطفي ليس له الأهمية ذاتها في الفيلم، ولا ننسى جاذبية التسمية الإعلانية إذ يستثير العنوانُ الذي استقر عليه الفيلم الفضولَ لمعرفة من تكون زوزو، ذلك بخلاف ما يُحكى عن التسمية الأولى التي كانت مقترحة “ابنة العالمة”.
في حديث تلفزيوني، يقول حسين فهمي أنه شاهد إعلاناً مكتوبٌ فيه “خلي بالك من زوزو”، من دون أي شرح أو تلميح آخر، فتمنى أن يكون فيلماً وأن يمثّل فيه، قبل أن يأتيه الاتصال وتتحقق أمنيته. في بداية السبعينات، كانت السينما ما تزال في عصرها البهي، ولا يخلو من مغزى أن تعمد شركة الإنتاج إلى طرح اسم فيلم في لوحات الإعلان الطرقية الكبيرة قبل الاتفاق مع مَن يُفترض أنه أحد أبطاله. أن نقرأ على لوحة إعلان طرقية تنبيهاً إلى زوزو، فلا شك أن هذا تمهيد جذاب. ورود اسم شخص مجهول في حد ذاته يولّد الفضول، وقد يبقى الإعلان طويلاً في الأذهان. ربما، مثلاً، هناك عجائز فرنسيون يتذكرون حتى اليوم إعلاناً على الطرقات من أيام الخمسينات هو: “روجيه.. أرجوك عُد إلى البيت”. هي جملة مدهشة كإعلان، وكانت جديدةً ظاهرةُ لوحات الإعلان الطرقية، لكن العبارة لم تكن اسماً لفيلم كما قد توحي، ولم تكن أيضاً دعاية لصنف من المنظفات.
يروي المخرج روجيه فاديم في مذكراته كيف تشاجر مع بريجيت باردو، وغادر البيت غاضباً ومتجهاً بسيارته جنوباً، ثم بعد يومين أو ثلاثة “عندما انتهت ثورة غضبه” قاد سيارته عائداً، وكان يرى في الطريق ذلك الإعلان من دون أن يعرف أنه المقصود به، وأن بريجيت ترجوه أن يعود إلى البيت. روجيه فاديم غير معروف جداً في ديارنا، كما هو حال بريجيت باردو، رغم أنه مخرج فيلم “وخلق الله المرأة” الذي اشتُهرت به، ورغم أن تزوج فيما بعد نجمتين شهيرتين أيضاً هما كاترين دونوف وجين فوندا. ما علاقة ذلك كله بفيلمنا الأصلي؟ كأنه شطط يشبه الابتعاد عن المقام الأصلي! لا بأس، تقدّم لنا سيرة روجيه فاديم طريقاً للعودة، فكاترين دونوف كانت تأتي إليه بعد انفصالهما لتحكي عن معاناتها في الغرام مع عمر الشريف، وعمر الشريف كما هو معلوم كان زوج النجمة فاتن حمامة التي تتقاسم مع سعاد حسني الصدارة في عدد أفلام كل منهما المنتقاة ضمن أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية بحسب رأي النقّاد، ومنها طبعاً فيلم “خلي بالك من زوزو” الذي ربما كان الأعلى من حيث مدة العرض والإيرادات.
في الخلفية، يروي الفيلم انقضاء حقبة وبدء أخرى، انقضاء حقبة شارع محمد علي وبدء حقبة شارع الهرم. هي مرثية لزمن عوالم “محمد علي” وأجوائهن، وقد راح زمن كباريهات “الهرم” ينقض عليهما. يُذكر أن شارع محمد علي ارتبط مبكراً بالفن، أي منذ انطلقت فيه “فرقة حسب الله”، على الأرجح في ستينات القرن التاسع عشر مع حكم الخديوي إسماعيل الذي يُقال أنه أغدق على حسب الله بلقب الباشوية، ليصبح الشارع محطة يسعى إليها أهل الفن وموطناً للفرق الفنية والعوالم اللواتي اشتهرت منهن الكثيرات.
عندما تقرر زوزو في لحظات انكسار العمل في شارع الهرم للحصول على الثروة التي يبددها الزبائن هناك، يأتي سمسار الهرم ويكون واضحاً فيما يطلبه، فهو غير مكترث بالفن ولا بالأداء. الكلمة السحرية التي ينطقها ويؤكد عليها هي “الأنكجيه”، وتعني في قاموس الكباريهات مجالسة الزبائن أو ما هو أبعد من ذلك، ومن المرجح أن الأصل الفرنسي للكلمة Engager quelqu’un، والذي يعني استئجار شخص ما. إنها إذاً سلطة المال بوجهها المبتذل في شارع الهرم، مقابل الفن والبساطة وناسهما في شارع محمد علي.
لا يجري تداول اسم مَن صمم شارع الهرم، بخلاف شارع محمد علي الذي يُنسب تصميمه إلى الفرنسي جورج أوجين أوسمان الذي وضع مخطط باريس في القرن التاسع عشر، وخطَّ شارع محمد علي على طراز شارع ريفولي الباريسي. فُتح الشارع ليكون صلة بين القلعة “مقر الحكم” ووسط المدينة، أي لأسباب محلية، بخلاف شارع الهرم الذي تتفق الروايات على افتتاحه لأسباب سياحية، وتختلف بين افتتاحه على عجل على شرف السلطان العثماني الذي قرر زيارة مصر والتنزه بين آثار الجيزة عام 1863، أو افتتاحه على شرف الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث التي يُقال أن الخديوي إسماعيل كان هائماً بها. لكن يبدو أن اسم الشارع منذ ستينات القرن الماضي ومطلع السبعينات التصق بالسياحة الجنسية، من دون نسيان طبقة الأثرياء الجدد المحلية، ومن دون إلصاق ذلك بتهمة الانفتاح الذي شهده عهد أنور السادات لأنه التغير ودلالته سابقان على الأخير.
لا يحضر شارع الهرم في الفيلم، ما يحضر هو شبحه المخيف فحسب. حتى أجواء شارع محمد كان يمكن أن تتوارى خلف حضور سعاد حسني ببطولتها المطلقة، فالممثلون والممثلات أدوا ما هو منتظر منهم بلا مفاجآت؛ حسين فهمي هو حسين فهمي الذي نعرفه، مع أن الفيلم من أدواره الأولى، وسمير غانم هو سمير غانم، والمخرج هو حسن الإمام كما عُرف دائماً. مشاركة تحية كاريوكا في دور العالمة المتقاعدة “الأسطى” لم تكن مميزة، إلا على خلفية تاريخها الفني كراقصة عظيمة ووصولها شخصياً إلى سن الاعتزال. حتى المغني الشعبي شفيق جلال، وهو حقاً ابن شارع محمد علي، كان أداؤه عادياً باستثناء تألقه في المشاهد التي ظهر فيها في أغنية “يا واد يا تقيل”.
إخراجياً، تُحسب لحسن الإمام تلك الكثافة واللعب البصري في الأغنية، والتي لا نشاهدها إلا لماماً في عموم الفيلم. فبعد الاختيار الأنسب درامياً للدخول في الأغنية، وهو عودة زوزو بعد نزولها من سيارة حسين فهمي، ليبدو البيت كأنه في حالة بروفة اعتيادية للفرقة بإشراف الأسطى الأم، تعاود زوزو الخروج إلى الصالون مع بدء الكوبليه الأول وقد ارتدت ثياب البحارة. مع العبث ومفارقة ثياب البحارة التي لا أصل لها أو صلة بالفيلم، تركز الكاميرا على رجل في الفرقة لم يكن قد ظهر من قبل، يتحرك بجسمه كآلة إيقاع أوتوماتيكية وخلفه عضو آخر في الفرقة يقرأ الجريدة في هذا الجو الصاخب، ليضيفا عنصراً آخر من الغرابة والمرح قبل عودة فرقة الرقص الشرقي مع المذهب، ومعها جلوس “الرجل الإيقاع” من دون أن يتوقف جسمه عن أداء دوره.
يبدأ الكوبليه الثاني مع خلفية معتمة، لقد انتهى المساء وحل الليل وذهب الحشد، لتبقى سعاد حسني وحيدة مع تقشف بصري يحيط بها. تلمع في العتمة حركة يجدر الانتباه إليها، عندما تكرر “ما تقولش أمين شرطة اسم الله”، فهنا تؤدي سعاد حسني “بيديها وبهزتي خصر عابرتين” حركة السخرية النموذجية الصادرة عن راقصة تجاه الشرطة وما تمثّله. تلك الحركة الراقصة تختلف عن التي تؤديها قبل الكوبليه الثالث، حيث حلّ الصباح مع تكرار المذهب الذي يسبقه، لترقص سعاد حسني كفتاة ترقص لنفسها، محمولةً على خفة اللحن وخفة العشق.
قبل مغادرة الفيلم، لا بأس بالانتباه إلى الحفاوة بسلطة النساء في شارع محمد علي، وكأننا أمام مزاج نسوي في وقت لم تكن فيه مفردة النسوية معروفة في ديارنا، وربما كانت الحفاوة تعبيراً أميناً عن الشرط الاقتصادي الذي يمنحهن القيمة والسلطة في عالم “العوالم”. أيضاً يختار كاتب السيناريو “صلاح جاهين” النيل من شخصية الطالب الإسلامي في الجامعة بتركيزه الساخر على استخدام الأخير تعبير “جمعاء”، فهو يرى نفسه ناطقاً باسم الأمة جمعاء، وفي كل شاردة وواردة يتحدث باسم تلك الجمعاء. ربما، من طرف خفي، كان جاهين يسخر لا من الإسلامي فقط، بل من كل الذين ينطقون باسم “جمعاء” بمن فيهم قادة وأبناء الناصرية نفسها.
مقام سعاد حسني
لطالما جال في خاطري المثَلُ المعروف “الناس مقامات”، وهو كما نعلم متداول للدلالة على التفاضل والتفاوت بين الناس من حيث الجاه أو الثروة.. إلخ. للمثَل شطر ثانٍ لا أتذكره، وما كان يهمّني من الشطر الأول لو نظرنا إلى الناس كمقامات بالمعنى الموسيقي، حتى لقد فكرت فيما مضى بكتابة رواية ينطوي كلّ من شخصياتها على مقام موسيقي مختلف، وتحدثت عن الفكرة لصديق موسيقي، مستكشفاً ومتخوفاً من شطط فيها، فأجابني: طبعاً، الأمر هو كذلك؛ أنا أرى الناس هكذا، كل منهم على مقام موسيقي خاص. وأردفَ محذّراً من كتابة الفكرة، لما تحتاجه من خبرة عميقة في الموسيقا والكتابة معاً. تحذير لم أكن أحتاجه لاعتبر الفكرة مجرد خاطر طائش.
ثم إن احتجاز الأشخاص ضمن مقام فيه ما فيه من التنميط، رغم معرفتنا بإمكانية استنباط عدد لا نهائي من الألحان على كل مقام. ذلك لا يمنع وجود أشخاص، وشخصيات عامة أكثر من الأشخاص العاديين، في مقام اختاروه لأنفسهم، أو اختاره لهم إعلام أو نقّاد وارتضوه لأنفسهم بالتواطؤ الذي تتطلبه الشهرة. نستطيع مثلاً تخيّل نجاة الصغيرة من مقام الصبا، لكثرة ما وضعت على وجهها قناع الحزن والشجن حتى صار هو وجهها، كأنها بإصرار ودأب شاءت أن تكون من هناك. ربما تواطأت الظروف لتضع فاتن حمامة في مقام الراست، وقد استهوتها الرصانة وإظهار الاستقامة مثلما استهوت بعض الجمهور ونقاداً أطلقوا عليها لقب “سيدة الشاشة العربية”. كما الصورة النمطية لمقام الراست تتضمن الاستقامة والانضباط الشديد والرصانة، ينبغي على السيدة، سيدة الغناء أو الشاشة، التحلي بالروح المعروفة عن المقام الذي يُوصف أيضاً بسيد المقامات.
نفتح جملة اعتراضية طويلة للإشارة إلى تراتبيةٍ في النظر إلى المقامات الموسيقية، تطل على نحو خاص عبر الثقافة المعادية للفرح والبهجة وما يتصل بهما من خشية الانزلاق إلى المتع. يتشارك في الخشية أيديولوجيون شموليون من مختلف الاتجاهات، ويتميز الإسلاميون بأنهم أكثرهم جهراً بها. على سبيل المثال، صارت مهمة القارئ القرآن أصعب من قبل مع صعود الإسلاميين بحساسيتهم الشديدة إزاء اللحن، فاللحن من وجهة نظرهم بهجة وغواية على حساب النص، مع أن جولة سريعة على يوتيوب ستُظهر لنا من زمن القرّاء الكبار تلك الشهرة الذائعة التي حظيت بها تلاوات مثل نهاونديات الشيخ محمد صديق المنشاوي أو الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، مع تلوينات لحنية من الروح ذاتها، والاستماع إليها قليلاً كفيلٌ بتوضيح الفرق بينها وبين التلاوات الجامدة المتجهمة التي يُراد لها الاستفراد بالساحة.
بخلاف لقب “السيدة”، ذي الوجاهة، لا يوحي لقب “سندريلا الشاشة” الذي أُطلق على سعاد حسني بمعنى واضح، لا اتفاق على دلالته عربياً كما هو الحال في ثقافات تعطف الدلالة على القصة المعروفة بهذا الاسم. هو، في سياق تجربة السينما المصرية، أشبه بجائزة ترضية لمن تستحق التصنيف في المقدّمة من دون أن تُحتجز في مقام السيدة وأغلاله. جانب من مزايا أغنية “يا واد يا تقيل” ما تكشفه لنا دفعة واحدة عن سعاد المغنية ببراعة، والممثلة بيسر يُنسينا أنها تمثّل أو أنها تبرع في التمثيل، والراقصة التي لا تحاول إظهار مهارتها بقدر ما تهدئ منها.
اجتماع المواهب هذا يستعصي على التنميط، وقد يكون “مؤرقاً” عندما نضيف إليه ما يظهر كتدفق حسي عارم يصعب ضبطه. نظلم سعاد حسني عندما نضعها في مصاف النجمات اللواتي نغدق عليهن بالمديح السهل، وبأسماء التفضيل التي جوّفَها مدّاحون نمطيون أيضاً. يليق بها البقاء بيننا بعفويتها، تتوعد بمرح ولهوٍ كل ما هو ثقيل، وعلى مقامها هي، المقام الذي لا يُنسب إلى مألوف ما سمعناه ورأيناه. يليق بسعاد حسني أن نغادر قليلاً المألوفَ، كأن نحتفي بها في ذكرى ميلاد صلاح جاهين.