يرى حاتم علي أن ماهية الصورة تكمن في تلمس مشكلاتنا وفهم واقعنا وتقديم هذه المعرفة بوصفها حضورنا ومشاركتنا في العالم المعاصر، ولهذا أرى أن سؤال الكينونة لم يغبْ عنه على امتداد مشروعه الكبير، وكان أحد أهم هواجسه هو تقديم هوية عربية بصرية تحقق الديمومة، وترنو إلى التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي.
لعل إذعان حاتم الواقعي لفكرة غياب السينما، وصعوبة شروطها المختلفة في سوريا، رسخ لديه هاجس حماية مشاريعه الدرامية قدر المستطاع من الاستهلاك التلفزيوني، فعاش يتقلب في هذا الهاجس ومخاوفه الجمة، وسعى كثيراً إلى تلقيح أعماله بترياق الديمومة إنْ على المستوى الفني، كإعمال اللغة البصرية السينمائية، أو على المستوى الفكري، كضخ دماء النقد والتفكيك والتغيير بقدر ما تسمح الشروط الرقابية والإنتاجية والواقعية المتنوعة.
ويبقى السؤال المتطلب في أي وقفة نقدية مع أعمال حاتم علي متعلقاً بمدى وفاء أعماله أولاً لفكرة بناء هوية بصرية عربية، وثانياً عن مدى قدرتها على الانزياح من قيود صناعة الدراما القاسية والاستهلاكية إلى فضاء الديمومة ومشروع التغيير بمحاكاة ما ينبغي أنْ يكون، لا الاكتفاء بمحاكاة الموجود والحاضر والمباشر.
التنوير الاجتماعي
حمل حاتم راية التنوير الاجتماعي وموضوعة النهضة في أعماله، وهو المشروع الذي تتلمذ فيه على يد أستاذه صاحب الأعمال الشهيرة والريادية في هذا الإطار، شيخ الكار المخرج هيثم حقي، وهو المشروع الذي يتأسس على جملة ثوابت فنية وفكرية محورها الرئيس تفكيك واقع الطبقة الوسطى التي يفترض أنها حاملة أي مشروع تجديدي وتغييري في المجتمع.
في مسلسل “الفصول الأربعة”، قدم حاتم فكرة التنوير والنهضة عبر جدلية مطابقة الجميل/ نفي القبيح اجتماعياً، فأسست الشخصيات المختلفة والمتنوعة، والحوارات الحارة، والمفارقات الذكية، فكرتي “التراحم” الاجتماعي والوعي النقدي في الوقت نفسه، فضلاً عن تأسيس الوجدان الجمعي (السوري/ العربي) عبر القبض على جماليات العائلة الدمشقية.
في مسلسل “أحلام كبيرة” حضرت فكرة التراحم الاجتماعي بقوة، وحضرت الفكرة النقيضة لها أيضاً، وطابق المخرج حساسيات الجميل، ولم يغفل جماليات القبح، وابتكر حركة الكاميرا المهتزة تعبيراً عن اهتزاز الواقع الاجتماعي، في إحدى محاولاته التجريبية الجريئة التي قوبلتْ بالكثير من النقد، وبرفض توزيع المسلسل في محطات تلفزيونية متعددة، ولا سيما في ظل التقاليد شديدة المحافظة والرافضة لكل جديد، خشية الوقوع في المحظور الاستهلاكي والمغامرات غير المحسوبة.
في أحد خطوط مسلسل “أحلام كبيرة” الدرامية يحضر موضوع الزواج المختلف دينياً، وهو الموضوع الذي عمقه حاتم في مسلسله “عصي الدمع” عبر طرح فكرة الزواج المدني، فضلاً عن معالجة جملة قضايا اجتماعية ودينية كمسألة القضاء الفاسد والمعطل قانونياً، وأحوال المرأة وواقع الأسرة والمراهقين، إلى جانب تحطيم بعض التابوات في ما يخص الشرع والحلقات الدينية في المجتمع، وقوبل المسلسل بالكثير من النقد من دوائر دينية واجتماعية نافذة.
وهكذا، ينهض مشروع التغيير في أعمال حاتم علي الاجتماعية على بناء هوية بصرية عربية تقوم على ترجمة النص المكتوب بعين كاميرا معتدلة، لا مبالغات فيها، وعبر خطاب فني/ فكري، يسعى إلى حماية المسلسلات من الاستهلاك وفق ديمومة مشروع الكشف والنقد الاجتماعي الناهض على جدلية جماليات (المطابقة والنفي)، وهي المستويات المؤسسة لتنوير اجتماعي نهضوي يحاكي ما ينبغي أنْ يكون.
التفكيك التاريخي
أعتقد أن أعمال حاتم التاريخية قد أنهت إلى حد كبير عصر الأعمال الدرامية التاريخية الشوفينية (القومية/ الدينية) القائمة على المركزية النرجسية والحق المطلق والصراع الثنائي الميتافيزيقي (الحدي)، بين الخير الشمولي والشر الشمولي، وهذا تم بتقديم حاتم أعمالاً مفصلية تاريخية بعضها له بعد تراجيدي، حيث سعى إلى تفادي تجميل التاريخ إلى حد معقول، وتحاشي الرواية السائدة جمعياً، أو الرواية الرسمية سياسياً، قدر ما تسمح به الشروط الإنتاجية والرقابية.
يعمل حاتم في أعماله التاريخية النقد والتفكيك العمودي (أي الحفر في عمق الشخصيات لا في مدار حركتها الوجودية والدرامية الأفقية ضمن شبكة العلاقات فحسب)، فالأبطال التاريخيون يحاول إنزالهم من مستوى القداسة أقصى حدود الممكن والمتاح، فهم بشرٌ من خيرٍ وشر ومطامع وأهواء وبطش وضعف وظلم ومشاعر وآلام وصحيح وخطأ. وكان يعتني إلى حد كبير ببناء نسيج السيرة الإنسانية والاجتماعية لهؤلاء الأبطال قدر توفر المصادر التاريخية، وما يتاح عبر البناء الدرامي التخييلي المتوازن والمحافظ على صدقية الشخصيات بعدم المبالغة في ترميم الأبعاد الخفية أو المسكوت عنها.
في أحد خطوط مسلسل “أحلام كبيرة” الدرامية يحضر موضوع الزواج المختلف دينياً،
وهو الموضوع الذي عمقه حاتم في مسلسله “عصي الدمع” عبر طرح فكرة الزواج المدني.
أراد حاتم في أعماله التاريخية أنْ يفكك محاور كبرى في تاريخنا العربي لها إسقاطاتها الحاضرة، مؤمناً بأن العودة إلى التاريخ لا تهدف إلى الإقامة فيه، بقدر ما تهدف إلى نقده ومعرفة الذات وتلمس الإيجابي والسلبي بهدف بناء الحاضر العربي والمستقبل، لذلك كان من أهم أسئلته، هو كيف نناقش القضايا الكبرى عبر التاريخ من دون الإذعان للشعارات والفكر السائد؟ وكانت المحاور الرئيسة في هذا الحوار التاريخي العلاقة الملتبسة بين الحاكم والمحكوم، وشكل الدولة، وأسئلة النهضة.
ولهذا لم يشيطن حاتم الأعداء/ الآخر المختلف، بقدر ما وضع جميع الأطراف في مدار الصراع ومطحنته، ولم يكن شعبوياً، إلا بقدر “الاصطدام بـ” وإخفاق “الانفكاك عن”، في مواضع تخضع لشروط إنتاجية صارمة، لكن انزياح حاتم في أعماله التاريخية لا يعني أنه انفصل عن هويته العربية، بل على العكس من ذلك تماماً، كان مهموماً بهذه الهوية واستحقاقاتها وهواجسها المعاصرة، من موقع استنطاقها عبر تاريخها المركب وطرح الأسئلة والتفكيك، لا من موقع الاحتفاء المجرد أو الشوفينية أو التقديس المجاني، ويبدو أنه كان يختار شخصيات جامعة في التاريخ العربي متحاشياً الوقوع في الترويج لسياسات الهوية القذرة ذات البعد الانعزالي.
قصة التغريبة
في مسلسل “التغريبة الفلسطينية”، نظر المخرج، تأسيساً على نص الدكتور وليد سيف الغني، نظرةً نقدية لتاريخ القضية الفلسطينية، محاولاً تجاوز الشرك الدعائي التقليدي الذي يرسم صورة نمطية للصراع (عرب وظلم وبكائيات فحسب)، والذي يحول الفلسطيني إلى مارد لا يقهر، فأنزل المسلسل الإنسان الفلسطيني منزلة الواقع الاجتماعي والتاريخي، وفكك هذه المستويات بوصفها جذوراً للنكبة الفلسطينية. وعاد إلى مرحلة الاستعمار البريطاني وبدايات الهجرة الصهيونية ومناقشة التخلف الاجتماعي وقضايا الإقطاع والبرجوازية وتناقضات المجتمع وما وراء قضية الحق والذات الذي سهل مسألة السقوط في النكبة.
في مسلسل “الزير سالم” تأليف الراحل ممدوح عدوان، حرص حاتم أيضاً على أنسنة الزير وإخراجه من مدار الأسطرة قدر الممكن، إذ ينتهي المطاف بالزير ليكون رجلاً مكسوراً مهزوماً يتخلى عن ابنته لحفنة من قاطعي الطريق، وهو في هذا الفعل صدم المتلقي، ذلك أن المقولات الكبرى التي بطنت المسلسل أرادت تجاوز السائد اجتماعياً وتاريخياً بالتحذير من فكرة الحرب الأهلية، ومناقشة مشروع بناء الدولة الذي سعى إليه كليب (شقيق الزير)، وسوء فهم هذا المشروع من المحيطين به، لأسباب قبلية وعائلية أولاً، ولأسباب استبدادية تتعلق بكليب نفسه ثانياً.
في “ثلاثية الأندلس” (صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف) تعمق المشروع الثنائي بين حاتم علي ووليد سيف، لتطفو لغة عربية أخاذة ونادرة درامياً، محمولة على مشاهد انسيابية، وحوارات عميقة، عالجت علاقة الحاكم والمحكوم، وقدمت الشخصية الإنسانية المركبة للحاكم كما في حالة محمد بن أبي عامر المنصور، وتمعنت في أبعاد نشوء الدول، وتفككها، وآليات الاستبداد والسلطة والدم، فمثلتْ رسائل بصرية ذكية للحكام والشعوب في آنٍ معاً.
وهكذا، قدمتْ أعمال حاتم التاريخية اقتراحه الأصيل لمجاوزة عقدة الاستهلاك التلفزيوني، عبر أدوات تؤسس هويةً بصرية عربية درامياً، وتنوس في جدلية مطابقة (الجميل/ القبيح) ونفيهما، وتحاكي التاريخ بما ينبغي أنْ يكون الحاضر، وبما ينبغي أنْ يعد للمستقبل، وهو ما يمنح هذه الأعمال ديمومةً فنية وجدانية وعقلية معقولة، وأصالة أسئلة التغيير نسبياً.
في محاولات رفع السقف الدرامي
أتت الفورة الإنتاجية الدرامية (كما سميت) منذ عام 1994 لتشكل دعماً رسمياً لصناعة الدراما في سوريا، وبغض النظر عن قضايا الاستثمار السياسي والاستهلاك التنفيسي للدراما، يرى كثيرون أن وضع الدراما في هذه المنزلة كان على حساب بقية الفنون، وعلى حساب بقية المبدعين في المجالات المختلفة التي لا تسمح بالاستغلال الرسمي كما حال الدراما.
ولعل السؤال المحوري هنا: هل أذعن حاتم علي لهذا التطويع؟
من البدهي أن حاتم وغيره من المخرجين والفنانين الذين أرادوا أنْ يؤسسوا مشاريع أصيلة، كانوا يتحركون في حقل من الألغام، وكان هاجس حاتم الكبير، ضمن سعيه لإنقاذ دراماه من الاستهلاك، هو خط الطرق والطرائق لرفع سقف مشاريعه إنتاجياً ورقابياً قدر المستطاع.
عمر
في مسلسل “عمر”، قدم حاتم أكبر إنتاج في تاريخ الدراما العربية (بتكلفة 200 مليون ريال سعودي)، وبنى في إحدى ضواحي مراكش في المغرب قرية كاملة تحاكي مكة، واستخدم أحدث الكاميرات الموجودة في العالم (كاميرات RED)، مستخدماً ثلاث كاميرات منها في تصوير المسلسل، فضلاً عن صنع كل ما يتعلق بالمسلسل من ملابس وإكسسوارات مختلفة وديكورات وزينة وغيرها، إلى جانب جمع خيرة الممثلين والفنيين والخبراء من أنحاء الوطن العربي والعالم الإسلامي وحتى الغربي، وقد عرضت المسلسل محطاتٌ أجنبية كثيرة، واشتراه عدد كبير من دول العالم.
قد يبدو هذا البذخ الإنتاجي الذي أسر روح حاتم في مسلسلات عدة من قبيل المجانية للوهلة الأولى، لكن المسألة على العكس من ذلك، فرفع سقف الإنتاج الدرامي على هذا النحو رافقه رفع سقف الرقابة الدرامية إلى حدود غير مسبوقة، فأول مرة يتم تشخيص خليفة من الخلفاء الراشدين على هذا القرب من النبي محمد ومن القداسة الذاتية عند الناس والمؤسسات الدينية العربية، فاضطر حاتم إلى تحصين نفسه وعمله بلجنة استشارية من الشرعيين وافقت على العمل، وسط استقبال أولي غير مريح وصل إلى حد التهديد الشخصي لحاتم.
سعى حاتم في مسلسل “عمر”، كما في معظم أعماله، إلى تقديم المتعة البصرية عبر حامل تنويري يثير التفكير في قضايا كبرى كالسلطة والحروب وإنشاء الدول والصراعات الداخلية والبينية فيها، ويخطئ من يظن أن مجاوزة هذه المحاور هي فقط مجاوزة للرقابة الدينية والاجتماعية بعيداً من الرقابة السياسية التي تمثل القبضة الأصلية، خلف جميع القبضات.
قلم حمرة
لنا أيضاً في مسلسل “قلم حمرة” من تأليف الكاتبة يم مشهدي مثال جلي على السردية المضادة للسائد رسمياً، إذ قدم العمل سردية الثورة السورية وتحولاتها في انزياحٍ جلي عن خط الدراما السورية العام، بعد سنة 2011، لكن اللافت أن هذا المسلسل لم يقدم الخطاب الثوري على نحْوٍ شعاراتي صاخب، بقدر ما جعل حلْم المثقفين والطبقة الوسطى بالتغيير حاملاً لأسئلةٍ متوالدة تبدأ بأسئلة الذات الفردية والاجتماعية كالوحدة والزواج والعزوبية والحب والخيانة، وتمر بأسئلة السياسة كالديموقراطية والهوية والحرية والمواطنة، وتنتهي بأسئلة وجودية بحتة كالحياة والمغزى والوجود والعدم، وكل ذلك ضمن وعاء حركية الانفجار السوري الكبير محمولاً على حوارات مباشرة ومونولوغات داخلية نقدية وغنية.
ما يشبه الخاتمة
غادرنا حاتم علي وسط إجماع سوري وعربي استثنائي على بكائه ووداعه، ونادراً ما تدخل شخصية في الوجدان العام من دون أسس عميقة لهذا الموقع الكبير، فالنخب خصوصاً، والناس عموماً، تلمسوا أصالة ما قدمه حاتم في مسيرته، ما توَّجه واحداً من أهم المخرجين العرب على الإطلاق، وواحداً من أرشق من قدم التوازن الفني بين الجماليات البصرية والفكر الجاد والإمتاع الدرامي.
كان مشروع تأسيس هوية بصرية درامية عربية يمر عند حاتم من فكرة المشروع الثقافي العام، وكان يعي الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة به، ويعي صعوبة اختراق منظومة القيم السائدة، وكذلك شعور مبدعي الفنون الأخرى بالظلم والإهمال واختزال المشهد الثقافي السوري بالدراما، إلى حد كبير، لهذا فهم تماماً قدرة أدواته الدرامية على محاولة التعويض، وهو أمرٌ بقدر ما يحسب لحاتم يسبب الحزن على واقع حالنا.
إن سعي حاتم إلى تحميل الدراما فوق ما تحتمل كان سعياً أصيلاً، إذ قدم اقتراحات وافية وخاصة، وأكثر من المتاح في مرات عدة، ولا سيما بعدما بات اسمه مفروضاً على الجميع، ويبقى هاجسه الأشد إيلاماً وإقلاقاً هو الحسرة من الاستهلاك الدرامي، والبحث عن كيفية تحقيق الديمومة الإبداعية ضمن مشروع تغييري يحاكي ما ينبغي أنْ يكون، وهو المبدع الذي عرف عنه عدم رضاه عن إنجازاته باستمرار.
ولعل هذه الهواجس لا تنفصل عن شعوره المزمن بفقد السينما التي أنجز فيها ثلاثة أفلام، أحدها فلم (الليل الطويل) نص المخرج هيثم حقي، ويتناول قضية المعتقلين السياسيين، وقد نال جوائز عدة، غير أن هذه الأفلام الثلاثة _على رهافتها_ تبقى على تخوم السينما التي حلم بها حاتم ولم يحققها، ذلك أنه آمن أنها أحلامٌ مؤجلة ضمن الشروط الراهنة.
وأخيراً، أختتم بما قاله الراحل في الصفحة (98) من كتاب (الاستبداد المفرح _ حوارات مع حاتم علي _ أجراها فجر يعقوب _ دمشق _ دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية _ ط1 _ 2015): “في الفن التلفزيوني يكذب كثيراً من يدعي أنه يملك خيوط مشروعه ويتحكم بها. وأنه قادرٌ على أنْ يضع لنفسه خطةً واضحة. فنحن رهن ظروف مختلفة، ولكنني أرى أن كلمة (لا) هي مفتاح سحري تستطيع عبره أنْ تحدد اتجاه عملك”.