هناك هالة لا أستطيع تحديدها بدقة تحيط بكتب الطبخ العربيّ، ولا أتحدث عن تلك التجاريّة، بل الجدّية التي تؤرخ للطعام ووصفاته، كـ”كتاب الطبيخ” لمحمد بن الحسن بن محمد، الذي صدر بطبعة جديدة عام 2017، ونقرأ فيه وصفات الطعام العباسيّ والحلويات في ذاك العصر كالصابونيّة واللوزينج والفالوذج.
الحقيقة الأولى التي تصدمنا في الكتاب، هي أننا بحاجة إلى معجم لفهم الوصفة وبعض مكوناتها ومقاديرها، فكلمات مثل قبضة ورشة وبضعة تحمل معاني دقيقة، ومن لا يألفها، يمكن أن يخرب الطبيخ. الأهم، أن الكتاب أقرب إلى وثيقة أنثروبولوجيّة حين نقرأه الآن، وهذا ما نتلمسه في مقدمات الكتاب الثلاث.
أنجز المقدمة الأولى فخري البارودي، ويتحدث فيها عن تاريخ مخطوط الكتاب وكيف ظهر إلى النور، وأهميته في “المكتبة” لا المطبخ، ويشير بعدها إلى القسم الذي ألحقه بالكتاب تحت عنوان “الذيل- معجم المآكل الدمشقيّة”، الذي فعلاً يمتلك صيغة المعجم، وساعدت بوضعه ابنة أخت البارودي، المعروفة بأساليب طهو الطعام و”تذوقه، ويقول البارودي إنها “ساعدته” ولا نعلم إلى أي حد كان لها دور في تأليف هذا “الذيل”.
نقرأ في المقدمة الثانيّة التي أنجزها داوود جبلي وصف الكتاب كمخطوط بحت، عدد صفحاته، وهوامشه وحواشيه ودقته اللغويّة. أما المقدمة الثالثة، التي وضعها المؤلف نفسه، فهي الأكثر إثارة للاهتمام، إذ يبرر سبب تأليفه الكتاب بأنه “وقف على عدة كتب مصنَّفة في صنعة الطبيخ قد ذُكرت فيها أشياء مُستغربة لا تأنس الأنفس بها، وجمع في حوائجها بين أشياء مستهجنة، إذا جمع بينها لم تُسكن النفس إليها”. ويستطرد أنه ألف الكتاب كونه ذواقة، وأتبع المقدمة بفصل عن آداب الطهي وخصائص الطاهي والأواني والأوعيّة.
إعادة إنتاج الطبخة أو الوصفة الآن، بكل حذافيرها، لن تضمن لنا الطعم ذاته، ذاك المذكور في الكتاب، وكأننا في رهان ضد المجهول.
هذه النزعة الأنثروبولوجيّة للتعامل مع الأطباق العربيّة نراها مثلاً في الوليمة العباسية التي أقيمت في بيروت عام 2016، والتي دعي إليها عليّة القوم من مثقفين وباحثين وأكاديميين، برعاية الأكاديمية العربية الألمانية للباحثين الشباب، وأعدّت الأطباق المقتبس بعضها من الكتاب السابق الباحثة والطباخة بريجيت كالاند.
ما يهمنا من كل هذا، أن إعادة إنتاج الطبخة أو الوصفة الآن، بكل حذافيرها، لن تضمن لنا الطعم ذاته، ذاك المذكور في الكتاب، وكأننا في رهان ضد المجهول، تحسمه المقارنة مع ما نعرفه الآن من طعمات، ما يجعل الاستعانة بهذه الوصفات وتنفيذها أقرب للمناسبات البحثية منها إلى التدبير المنزلي أو الوليمة، خصوصاً أنها تظهر في إطار نخبوي وشديد الرسميّة، ولا تنبع ممن يتداول هذه الطبخات والأكلات، بل من يجد بها تلبية للذوق الرفيع، بعكس ما نقرأه في مقدمة محمد بن الحسن بن محمد.
هذه المفارقة المرتبطة بالطعم تتضح في الأكلات المعاصرة، تلك المتفق عليها من قبل فئة من الناس المتمسكين بتقاليد طعامهم و”طعماته” كونه جزءاً من هويتهم الوطنيّة، والتاريخ الذاتيّ لكل فرد، ما يجعل التعديل على واحد من العناصر الموجودة في أي “أكلة”، تهديداً للهوية الوطنيّة، وإهانة شخصيّة للذواقة أو أي شخص يمتلك الظنّ بأنه يعرف “الطعم الأصليّ” ويمتلك الخبرة اللسانيّة في “طعمات” بلاده. هذه النزعة تمنح صاحبها -أياً كان- الحق في “الحكم” على “طعمات” الآخرين.
هذا الموقف الوطني والشخصيّ شهدته مرةً في باريس، إثر افتتاح محلّ للحلويات “السوريّة” في أحد شوارع باريس الواقع في منتصف العاصمة، ضمن واحد من أحيائها الفاخرة والتاريخيّة، إذ امتلأ أشخاص أعرفهم بالحماسة من أجل زيارة “البوتيك” الجديد، و”تذوّق” ما فيه من حلويات، وكان كل فرد بيننا مُستعداً بكامل عتاده الذوقي وأحكامه الراسخة لإبداء الرأي في “حلويات وطنه”، واكتشاف هذا المحل الذي ربما يكون بشارة جديدة، بعد خيبات الأمل المتكررة التي نواجهها نحن حين نسمع عمن يقدم “طعامنا”.
لم يكن المحل حين الاقتراب منه يشبه ما نعرفه من محلات للحلويات العربيّة فهو أنيق، شديد الترتيب والنظافة، “مُفرنس” لا يحوي علامات واضحة أو “كيتشيّة” على مرجعيته “العربيّة” أو “السوريّة”، قطع الحلويات صغيرة وملوّنة بأسلوب لم يكن متوقعاً، بل أقرب إلى “القُبلات” منها إلى “القطع”.
من أنت لتمسّ ذوقي وذاكرتي؟
أول سؤال قبل الاقتراب من المحل كان عن جنسيّة صاحبه/ صاحبته، هل هو “سوري سوري”، أو “سوري فرنسي”، ليتتالى بعدها وابل الأسئلة: وأين ولد؟ وكم عاش في سوريا؟ وهل عمل في الحلويات هناك؟ كل هذه الأسئلة تفترض حكاية سريّة، مختلفة عن تلك العلنية التي يروج فيها المحل لنفسه عن كونه “فرنسياً- سورياً”، وهذا ما أثار ريبتنا، خصوصاً حين اكتشفنا أن سبب افتتاح المحل هو النزعة النوستالجيّة، لأن القائمـ/ة عليه مهاجر قديم، ودخل راهناً عالم الحلويات، وهنا ظهر السؤال: كيف يجرُؤ الفرنسي/ة “المتسورن/ة” أن يقترب من حلوياتنا؟
ويبدأ الاستجواب فور الدخول إلى المحل، صاحب المكان غير موجود، ويعمل هناك شاب وشابة فرنسيان. كانت هذه خيبة الأمل الأولى، من هذان؟ أين السوري؟ وبدأت الأحكام تطلق بمجرد مشاهدة الحلويات المعروضة، “هذه ليست عش البلبل! هذه شعيرية على وجهها كريم فريش”، “هذه ليست بقلاوة، هذه رقائق عجين تحوي كريم فريش وماء ورد؟”.
لم يفهم البائعان سبب الغضب الذي اعتلانا، خصوصاً أنهما تعرضا لمحاضرة وتقريظ عن الحلويات السوريّة وأصولها واتُّهما خلالها بأنهما مقتبسان سيئان لها، لكن السؤال الأكثر تكراراً كان: “كيف يعني تطحنون الفستق وتحولونه إلى حشوة أو كريم!”. لم يكن هناك أي جواب من البائعان، بل محاولة للدفاع عن “المحل” وحرماننا من العينات المجانيّة.
المثير للاهتمام هو التفكيك الذي تعرضت له الحلويات “الهايبريد” التي قدمها المحل، فوراً جرّدها أصحابي من اسمها الوطني، واكتفوا بوصف المكونات، ونزعوا عن الأكلات “سوريّتها” ووجدوا فيها مجرد ابتداعات فرنسية كـ”غاليت بالفستق المطحون”، تستفيد من “سوريتنا” من دون أن تمثلها بصورة “صحيحة” أو “أصليّة”، هي مزيج من المكونات والأكلات الخاصة بالمحل، التي يمكن أن تكون لذيذة لكنها حتماً ليست سوريّة.
رحلة الذوق من اللسان إلى الهويّة الوطنيّة
تم الاتفاق بعد الانتهاء من زيارة المحل على أنه ليس دمشقياً ولا حلبياً ولا درعاوياً ولا ينتمي إلى أي محافظة سوريّة، بل مجرد مزيج من الذوق الفرنسي ومكونات شرق أوسطيّة، وهنا يظهر اللوم المرتبط بمقاربة “سوء التمثيل”، إذ توصلنا بعد نقاش حول المحل إلى دحض أسطورة مفادها “أن الذوق الفرنسي لا يتقبل طعماتنا”، التي تدفع كثيرين إلى تبني بعض الأطعمة وتعديلها، حد إفقادها هويتها لمصلحة هذه الأسطورة. وكانت الحجة المضادة لها، “الفرنسيون يأكلون المحار والحلزونات، هل تظن أنهم لن يتقبلوا طعمة نابلسية بالقطر؟”.
الإحساس بالإهانة الشخصيّة المرتبط بسوء التمثيل السابق misrepresentation الذي يتبناه “البوتيك”، نابع من قدرة الذوق على تفعيل الذاكرة، والارتحال بـ”الأنا” إلى أماكن متعددة لا تمكن استعادتها، فما يبدأ كرد فعل عاطفي يتحول إلى معرفة ذاتيّة وجمعيّة، ثم خيبة أمل يليها غضب. ما يفترض أن الطبق أو الحلويات، لا بدّ أن تمتلك مكونات بنيوية ثابتة، لا يجوز تعديلها، أو استبدالها، ناهيك بتغييرها كلياً من دون تقديم البديل الأصليّ.
المثير للاهتمام أن ردود الأفعال العاطفيّة السابقة، لا تقوم على اختبار الطعم الجديد، بل نفي هويته، وتفكيكه إلى مكوناته الأوليّة، والإشارة إلى النقص أو الجهل المتعمّد، ولا يمكن تفادي النزعة الوطنيّة هنا، خصوصاً أننا أمام مواجهة بين فرنسي من أصول سوريّة و”سوري -سوري”، والأخير، يرفض أن يُصادر منه الذوق والذاكرة، حتى من “آخر” يشبهه، ويتمتع بالحقّ ذاته، إلى جانب خوف من أن ينتهي الأمر بما حصل مع “التبولة الفرنسيّة” تلك التي تشكل كابوساً لأي شخص يعتبر التبولة جزءاً من تراثه الذاتي والوطني.
“الفرنسيون يأكلون المحار والحلزونات، هل تظن أنهم لن يتقبلوا طعمة نابلسية بالقطر؟”.
“فيوجن” أو تهمة أن يعيد الفرد استملاك ثقافته
تشتد التهم المرتبطة بالتعديل على الطعام حين يكون الطباخ أو الحلونجي من أصول مهاجرة أو لم يختبر الحياة “هناك” في بلد “الأصل” حيث الطعمات لا يمكن الشك بها، ويوجه له الاتهام التالي: “لماذا تعدل على بعض الأطباق، وتغير في بعض مكوناتها التي نعلم أن الأصلية منها متوافرة؟”، ولا نتحدث هنا عن شكل التقديم الذي يمكن تجاوزه، بل عن مكونات أساسيّة نراها جزءاً لا يتجزأ من “الأكلة” والتي إن لم تكن موجودة، أفقدت الأكلة اسمها.
هذا السؤال يخفي وراءه سياسيات الاستملاك الثقافي أوcultural appropriation، والذي يمكن أن يمارسه الفرد على ذاته حين تقديم ثقافته، متبنياً المتخيل الذي يمتلكه عن نفسه، والذي يتحرك بين النوستالجيا وذوق “الآخر” ورأس المال، وهذا ما نقرأه في تبرير أصحاب المحل في افتتاحه، ألا وهو الدفاع عن الذاكرة الشخصية المفقودة عبر الطعام، والسبب الثاني أن “الباريسيين يحبون الطعام شرق الأوسطي، لكن كثيرين خاب أملهم لأن الحلويات الموجودة لم تكن مصنوعة بمكونات عالية الجودة…”.
هنا تظهر مفارقة الاستملاك الثقافي للذات، وهي الاستفادة من الإرث بصورة “سطحية” إن صح التعبير، وتحويله إلى عنصر تزييني، خال من القدرة على تفعيل الذكريات، بل فقط محاكاة متخيل الآخر عن “الشرق” وطعماته، وتمكين خيبة الأمل لدينا نحن، من ندّعي معرفة الطعمة الأصليّة، التي بالأصل لا يسعى إليها “البوتيك”، فهو لا يخاطبنا ولا يبحث عن رضانا تجاهها، ما حوّل زينة المحل وأسماء الأكلات وطعماتها وأماكن عرضها إلى إهانات شخصيّة، وعلى رغم من كلّ الإتقان هي لا تفعّل أي ذاكرة عاطفية أو معرفيّة، بل تستفز فينا خيبة الأمل، واستحضار ما نعرفه من وصفات وطعمات لترديدها بوجه الموظفين السذج.